حلمي سالم
منحني ديوان الشاعر المصري الشاب محمود خيرالله “لعنةٌ سقطت من النافذة” ـ الصادر عن دار ميريت للنشر في القاهرة ـ فرصةً طيبة لكي أثبت ـ مُجدّداً ـ صحة بعض أفكاري في ما يتصل بالكتابة الشعرية الجديدة في مصر والبلاد العربية.
أولى هذه الأفكار أن الشعر الجديد ليس خلواً من القضايا الكبرى، كما يزعم بعض شعراء الموجة الشعرية الجديدة وبعض نقادها، وعقيدتي في ذلك أن الشعر الجديد لم يهجر القضايا، وإنما هجر المداخل السابقة للولوج إلى القضايا، سواء كانت كبيرة أم صغيرة، علماً أن ليس هناك كبير وصغير في القضايا: فبدلاً من المداخل الرئيسة حلّت المداخل الثانوية، وبدلاً من المداخل عبر “المركز” حلَّت المداخل عبر “الهامش” وبدلاً من المداخل المعروفة المعلنة المعتمَدة حلت المداخل المسكوت عنها والمحجوبة والتي تشبه “النقطة العمياء”.
“لعنة سقطت من النافذة” هو إذاً، شعر غير خالٍ من القضايا الاجتماعية أو القيم الكبيرة أو الأشواق الإنسانية المبتغاة، فمنذ قطعة الإهداء تزدهر قيمة “الأم”، فالأم، هي قضية كبيرة وأزلية في الشعر، لكن الشاعر السابق كان يلج هذه القضية الكبيرة من متنها الرئيس فيقول ” الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق” أما خيرالله ـ والشاعر الجديد عموماً ـ فيلجها من هامشها، حيثما يشي بعدم الاعتراف بفضلها. فإذا عرفنا أن الديوان الذي يبدأ بمقطوعة عن الأم ينتهي بقصيدة عن الأب “رقصة مدرس صارعته النظافة” أدركنا أن شعر الديوان يقع ضمن دائرة “قيمية” واسعة، خصوصاً إذا كانت المقطوعة الافتتاحية تختم بقيمة تكاد تكون مثالية، حينما يوميء الشاعر إلى أن الشعر أغلى من الذهب، ولذا سيزين به صدر الأم.
وداخل هذه الدائرة “القيمية” الواسعة سنلتقي بهجاء الفقر ورفض القهر ونشدان العدالة الاجتماعية. لكن هذا كله يتم بنصيب متفاوت من الرفعة الفنية: فتارة يُعاني التعبير الخشونة والجفاف والغلظة حتى ليغادر نقد الفقر إلى ما يشارف “الحقد الطبقي” كما في قصيدة “يخرجون إلى الشوارع منكفئين” حيث:
“كل صباح
تطالبه الزوجة بالجنيهات الأربعة،
فيصفعها نجّار البنايات
المتزوج حديثاً من ابنة الخالة
وبعد أن يهبطَ السلم
ينسى كسور آخر السلالم
فيخرج للشارع منكفئاً
وتعيساً..”
وتارة يجسد الحرمان نفسه في مشهدٍ محايد بليغ أمام “فاترينة” حيث:
” كلهن وقفن أمام الزجاج وتحسسن:
الحاملُ
ـ بقطع العرق المتسللة تحت الجبهة ـ
تحسسن انتفاخاً،
المرأةُ
ـ التي خلعت نظارتها الشمسيةـ
تحسست مؤخرةً،
الطفلةُ
ـ بذباب حول الوجه ـ
بأسنانها ضغطت شفتها السفلى”.
وتارة تصل المفارقة المتهكمة إلى ذروة مريرة، حينما يتألم الشاعر بسبب عدم وصول شعارات رفيعة إلى تحقُّقها الصحيح، مثل شعار “عاش الهلال مع الصليب” ما يشي بإدانة الفتنة الطائفية التي تطل برأسها المُخرِّب من وقتٍ إلى آخر.
ثانية هذه الأفكار هي ما يلخصه تصوري في أن “الجسد” وحده لا يمكن أن يقدممعرفة سليمة، ناهيك بأن تكون معرفة جمالية، مثلما أن “الذات” وحدها لا يمكن أن تبني معرفة متكاملة. وعلى ذلك: فلابد للجسد من عالم، ولابد للداخل من خارج، ولابد للذات من موضوع، ولابد للأنا من آخر.
في “لعنة سقطت من النافذة” شعر لا يلتصق بالجسد وحده، مبتدئاً به ومنتهياً إليه، كما يفعل بعض أقرانه من شباب الشعراء، هذا شعر معظم أبطاله هم “الآخرون”، والآخرون في هذا الشعر ليسوا هم الجحيم بعينه ـ كما عند سارتر ـ بل هم ناس عاديون، بناؤون وأطفال ومدرسون وموظفون ومهمشون ومقهورون في الروح أو العيش، لذلك فهم يحوزون عطف الشاعر، لأنهم في حقيقة الحال صورة له.
هل يمكن أن نعقد صلة بين البنَّاء والشاعر؟ ألا يبني كل منهما عوالم لا يسكنها، وإنما يسكنها الآخرون، ولا يبقى لكل منهما إذا أراد الاقتراب من العالم الذي بناه سوى ” سيف محلى ودم مرتقب” كما أشار قبل سنوات شاعرنا الراحل على قنديل؟
ثالثة هذه الأفكار هي إيماني بأن الشعر الجميل ليس هو النابع ـ قط ـ من نثريات الحياة اليومية، كأن يخلو من “المجاز” أو “المطلق” أو “المجرد”. فقصائد محمود خيرالله شعر يؤكد ما اعتقدته طوال الوقت من أن الشعر الحق هو المعادلة المرهفة بين العيني والمجرّد وبين العابر والمقيم، وأن الشاعر الموهوب هو الذي يحدد المقادير في تلك المعادلة ببصيرته النافذة، بحسب مقتضيات النص.
نواجه في نصوص “لعنة سقطت من النافذة”مزيجاً صافياً من المحلِّق والأرضي، الرفيع والسوقي، الكلي والمتشظي، وهو المزيج الذي يؤكد عندي أن المجاز ليس سُبة في ذاته وليس عيباً، إنما العيب هو تكرار المجازات المستهلكة القديمة.
والشعر الجديد حافل بابتكار مجازات جديدة بديلة للمجازات المدرسية السالفة، ولعل مجاز “المشهد السردي” هو أبرز هذه المجازات الجديدة التي تسطع في الشعر الجديد عموماًوفي شعر محمود خيرالله خصوصاً، صحيح أنه ينزلق أحياناً إلى بعض الصور العقيمة، كأن يقول: ” مثقال تشاؤم ونصف يعطيهم صاحب العمل” أو يقول” صادقوا خشباً على هيئة ألواح تسبح تحت الفجر” أو يقول “ابتسامتها ستجرح المطر”، ولكن هذه الهنات لا تطمس قدرة الشاعر الواضحة في اصطياد مجاز المشهد النثري الجميل.
هكذا يلعب مجاز المشهد السردي الدور الرئيس في نصوص خيرالله، بما يعنيه ذلك من تقليص للمجاز البلاغي واللغوي القديم، وبما يعنيه من اعتماد “النثر” كأداء لغوي وموسيقي، مع هجر اللغة المقعَّرة المُفخَّمة وهجر الوزن النظامي التقليدي، حتى وإن كان ثمن ذلك هو الجنوح أحياناً إلى “نثرية ” ضعيفة يتضاءل فيها ماء الشعر كأن يقول، قاصداً صاحب العمل:
” يقطب وهو يدفع
معتبراً أنه يدفع دماً
حينما يدع فلوساً“
أما التناقض المضمر والمعلن بين “البنايات” العالية التي يبنيها البناؤون وبين القبور الواطئة التي يذهب إليها الأحباء، فهو المجاز الشمولي الذي يرفرف على الديوان كله بلمسة من المفارقة العميقة الحزينة، وهو ما يؤكد أن “لعنة سقطت من النافذة” خطوة متقدمة لشاعرها تتلو خطوته السابقة التي خطاها في ديوانه الأول “فانتازيا الرجولة” الصادر في 1998 .
……………….
* الحياة اللندنية 15 أبريل 2001