محمد الفخراني
شيطانة، عمرها 17 سنة.
كل أصدقائها أولاد، تحديدًا أولاد الإنس، ولا بنت واحدة، ولا صديق واحد من أولاد الشياطين.
والإنس ماهرون في اختراع الألقاب لأيّ أحد وأيّ شيء، لقب حلو أو مُرّ، تَعَلَّمَ الشياطين منهم اللّعبة، لكن يظلّ الإنس أساتذتها بلا منازع، هم المغرمون بالحصول على ألقاب رائعة وأوسمة ونياشين وشهادات التقدير وعلامات الإعجاب.
أصدقاء البنت يُطلقون عليها ألقابًا كثيرة، أشهرها: “أُمّ الحلول”، لأنها ماهرة في الحَلّ.. حَلّ أيّ شيء: عقدة في خيط أو حبل، المسائل الرياضية، الشّفرات، وكلمة المرور لأيّ شيء بأول محاوَلة، الموبايل والخزائن والمواقع الإلكترونية، والأبواب المغلقة، تفتحها البنت بسهولة، لكن.. أن تعرف كل الحلول، هل يجعل حياتها سهلة أم معقَّدة؟
الأمّهات والآباء الإنس يعتبرون أنّ البنت هي مَن تغوي أولادهم، والأمّهات والآباء الشياطين يَعتبرون أنّ أولاد الإنس هم مَن يغوونها، لكن الغاضبة الكبيرة واللّاعنة لهذه العلاقة هي أُمّ البنت، وتُطلِق على ابنتها ألقابًا كثيرة، كلها مُرَّة: فاجرة، منحلّة، محلولة، وتنويعات أخرى: متفجِّرة، مفجورة، متحلِّلة، تلعنها أمها لأنها تُصاحِب الأولاد فقط، تصرخ فيها: “يا فاجرة”، وتضحك البنت كلما صرخت أمها بأحد ألقابها، وخاصةً “فاسقة”، تعتبره مُبالَغًا فيه ومفتعَلًا، وضحكات البنت تغيظ الأم أكثر، لكن.. فعلًا لم يكن بيد البنت شيء، لا يمكنها مَنْع نفسها عن الضحك، ولم يستطع الضحك مَنْع نفسه عنها ولو مرّة واحدة.
وفي نهاية الشتائم تقول لها أمها: “أنا أقرف منك”، عندها تشعر البنت بوخزة في قلبها، لو أنّ الأم لا تضيف هذه الجملة لم تكن البنت لتشعر بتلك الوخزة.
يحب أولاد الإنس والشياطين التقرُّب إلى البنت، وهو ما يتعجَّب منه أهل الحيّ، فهي برأيهم ليست جميلة، ولا جسمها فاتن أو مثير، يقولون: “تغوي الأولاد لأنها.. لأنها.. لأنها ماذا؟”، لا أحد يعرف، لماذا هي فاتنة مع أنها ليست فاتنة، وجميلة مع أنها ليست جميلة؟
يرونها واقفة مع أصدقائها أولاد الإنس في زاوية بالشارع وسط عتمة خفيفة، أو ضوء خفيف، تدخّن معهم سجائر، أو يدخّنون معها، وتضحك ضحكات فاسقة محلولة منحلّة متفجِّرة مفجورة، وتضرب أكُفّهم بكفّها، ولَمّا يمرّ أحد، أيّ أحد، بالصُّحبة الفاسقة، سيعرف أنّ السجائر بها ممنوعات، أو الممنوعات بها سجائر، أو السجائر أنّ والممنوعات بها، أو أنّ السجائر بها والممنوعات.
من أين تتحصّل البنت على “مال” لتشتري السجائر والملابس والإكسسوارات؟ يتساءل أهل الحيّ مع أنّ ملابسها من أسواق شعبيّة، وإكسسواراتها رخيصة، لكنها تُنَسِّقها معًا بمهارة، لماذا يُصِرُّون؟ وكل ما معها لا يمكن أن يُطلَق عليه “مال”، فقط مصاريف شخصية يمكن لأيّ أحد التحَصُّل عليها وأكثر، كلهم يعرفون أنها لا تستعمل قدرتها على حَلّ الشّفرات لكسب “مال”، تفعلها مجانًا، وفي حالات تستحق جدًّا، لماذا يُصِرّون؟ ويقولون إنها تحصل على “مال” مقابل قبلات وأحضان، وتسمح بمداعبات، يقصدون أن يمارس أحدهم المداعبات في جسمها، أو يترك جسمه لها، عضوًا مُحَدَّدًا، لتداعبه.
كلامها مع أصدقائها مزَوَّق بكلمات جنسيّة خادشة مخدوشة عريانة متعرّية، فيكون للكلام طعم ولون ورائحة، ألفاظها تخرم آذان المارّة وتخربش أعضاءهم الحسّاسة، حسّاسة؟ كل الأعضاء حسّاسة، أقصد الأعضاء الجنسيّة، وينُطّ كلامها على البلكونات.
في مرّة.. بالليل، كانت حفلة خطوبة، ومزّيكا تخرج من بلكونة وتغطي الشارع، البنت واقفة عند شجرة مع أصدقائها، وتتكلّم معهم بصوت عالٍ ليسمعوها، فرصة ليعَلّوا أصواتهم تحت غطاء المزّيكا بكل الألفاظ القذرة البذيئة الفاسقة المُنحلّة، متحمّسون، والبنت المفسوقة متحمّسة زيادة، وقالت بصوت عالٍ جدًّا: “عَضّ بِزّي”، وفي اللحظة نفسها توقفَت المزّيكا فانكشفَت الكلمة، “عَضّ بِزّي”، ملَعْلعة، كأنّ العالم صَمَتَ ليسمعها، يكفينا الحيّ هنا، كانت لحظات جميلة بشكل لا يُصَدَّق، أو بشكل يُصَدَّق، لماذا نحرم أنفسنا تصديق الجمال؟ التَوَت الرقاب في الشارع والبلكونة ناحية البنت، وقالت أمها من تحت ضروسها وهي وسط جاراتها وصديقاتها: “الفاسقة المفسوقة”، والبنت بهدوء “تمسح” الجميع بعينيها، وأخيرًا تتبادل نظرات مع أصدقائها ويلَعْلعوا بالضحك، وتلَعْلع المزّيكا معهم من جديد.
كثيرات وقتها تَمَنَّين لو أنهنّ صاحبات البِزّ المعضوض، وكثيرون تمنّوا لو أنهم صاحب العضّة.
ويتكلّمون عن مقاطع جنسيّة لها مع أصدقائها، ومع مُسِنّين من إنس وشياطين، يقول واحد إنّ لديه أكثر من عشرة مقاطع لها، وآخر يستحوذ على أفضل مَقطع، وغيره معه أروع 5 دقائق، وعبقري يمتلك أفظع 18 ثانية، لكن ولا واحد منهم أظْهَر مقطعًا أو ثانية واحدة مَهما كان السعر المعروض، صفقة لم تُنجَز أبدًا.
البنت لم تُكذِّب ما يقال عنها، ولا تدافع عن نفسها، حتى أمام أمها، ترُدّ على كل شيء بالضحك، وأبوها؟ مطْمَئن طالما تضحك ولا تدافع، كان ليَقلق لو توقفَت عن الضحك، لو دافعَت.
يراها أهل الحيّ في ركن مظلم قليلًا، جالسة على مقدّمة أو مؤخرة سيارة، تُفضِّل المؤخرة، وساقاها الفاسقتان مفتوحتان، وبينهما تقريبًا يقف أحد أصدقائها أولاد الإنس، لكنَّ أحدًا من أهل الحيّ لن يكون متأكدًا إن كان بنطلونها أو بنطلون صديقها مفتوحًا أم لا، وإن كان صديقها ملاصقًا لها أم لا، ويلمحونها، المنحلّة المحلولة، صاحبة المقاطع الجنسيّة التي لم يرها أحد، وهي واقفة تقريبًا بين ساقَيْ أحد أصدقائها الجالس على مقدّمة سيارة، لكن هل تُلامِسه فعلًا؟ أين يده بالضبط؟ أين يدها؟
مع كل هذا، لم يكن أحد من الخَطِرِين الأشقياء، إنس أو شياطين، يجرؤ على التلميح لها لتداعبه أو يداعبها، ماذا يمنعهم؟ لا أحد يعرف، حتى المُسِنّين، وهؤلاء تحديدًا كانوا يتجرّؤون ليقولوا أيّ شيء لأيّ واحدة، ويطلبون أيّ شيء، ويفعلون أيّ شيء، لم يجرؤ مُسِنٌّ واحد بالتلميح لها.
بمناسبةِ اعترافها بأنه “عَضّ بزّها”، لا أحد يمكنه تأكيد طبيعة العضَّة، ومَن عضَّها؟ ربما كانت تتكلّم عن كلب صغير جاء به أحد أصدقائها لتتفرّج عليه، أو طفل لم يكمل عامه الأول حَمَلَتْه عن أمِّه الشابة حتى تعيد ترتيب ملابسها، أو.. ربما كانت البنت تعرف أو خمَّنَت أنّ المزّيكا ستتوقف عند تلك اللحظة، فاخترعَت جُملتها وقالتها ملَعْلعة: “عَضّ بِزّي”.
ويراقبون الفاجرة المتفجِّرة واقفة وسط أصدقائها، البنت الوحيدة بينهم، مُلتَفّون حولها مثلما يليق بمجموعة صغيرة رائعة من الفَسَقَة، وبيدها موبايلها يتفرّجون فيه على ڤيديو ما، وتبتسم وتضحك وحدها، وأصدقاؤها ينظرون بدهشة وذهول، ولا أحد وقتها من أهل الحيّ يعرف ما يتفرَّجون عليه، ولماذا عيونهم تلمع هكذا، وضحكاتها ملَعلَعة هكذا، وجهها جميل هكذا، فاتن هكذا، لماذا كله هكذا؟ مع أنها ليست فاتنة، ولا جميلة، واضح جدًّا برأيهم، فكيف يكون واضحًا أكثر أنها أكثر من جميلة وأكثر من فاتنة؟
تثير علاقتها بأولاد الإنس غيرة أولاد الشياطين، غيرة حلوة بلا ضغينة، هي لا تتعمّد تجاهلهم أو البُعد عنهم، تتعامل معهم في مواقف عابرة، ويتمنّون لو يتعرّفون إليها أكثر، لكنهم يتفهّمون مزاجها ويقبلونه، ببساطة: هي تُفضِّل أولاد الإنس.
تحب البنت بذاءة الإنس، ومع أنّ الشياطين أيضًا لهم بذاءاتهم، إلّا أنها بذاءة مسكينة جدًّا مقارنةً بالإنس، ولهم حدود يتوقفون عندها، ويمكن تَوَقُّعهم، وتنحصر بذاءتهم في أداء لفظي ضعيف دون أداء تعبيري أو استخدام لأعضاء الجسم، أمّا الإنس.. يا لروعتهم، لا يضاهيهم أحد، عباقرة، مبدعون، أداء لفظي وجسدي رائع، واستعمال متنوِّع للأعضاء الجنسيّة، بالكشف عنها أو تمثيلها باليد أو تدليلها بألقاب وأوصاف، ولا تخلو بذاءتهم في مرّات كثيرة من خِفّة ظِلّ.
المواقف التي يتبادل فيها الإنس البذاءات من أروع الأوقات بالنسبة إلى الشياطين، يتركون كل شيء ويتابعون الإنس المبدعين، ويضحكون، أيّ شيطان مستعدّ لدفْع أيّ شيء مُقابل دقائق يتفرّج فيها على إنسٍ يتبادلون البذاءات.
بذاءات الإنس الرائعة.
ولن أنسى، البنت هي وحيدة أمها وأبيها، لا أخ ولا أخت، هذا لم يمنع الأم أن تقول لها الجملة إيّاها “أنا أقرف منك”، ولم تكتَفِ، كانت تَتَبرّأ منها، وتصرخ فيها: “أنتِ خِلْفة إنس”، وتضطرّ بعدها أن تعتذر لجيرانها الإنس، فيبتسمون ويقولون إنهم يعذرونها، ولو كانت ابنتهم لتبرّءوا منها، لكن.. جارةٌ أو اثنتان ستقولان للأم إنّ ابنتها هي مَن تغوي أولادهم.
أيّ حال، الإنس يقولون لأبنائهم المتمرّدين: “أنتم خِلْفة شياطين”، ويقول الشياطين لأبنائهم: “أنتم خِلْفة إنس”، ولا يقصدون إهانة، بالعكس، هي إشارة ضمْنيّة عن الذكاء، والمتمرّدون يحبّون الجملة، فيفرح أبناء الإنس لَمّا يوصفون بأنهم “خِلْفة شياطين”، ويفرح أبناء الشياطين بأنهم: “خِلْفة إنس”.
على فكرة، البنت وأصدقاؤها لا يؤذون أحدًا ببذاءتهم، لا يوجّهونها لأحد، إنما هكذا في الهواء، يستعملونها بمهارة تخُصّهم، للمرح واللّعب، ويتجاوب أهل الحيّ معهم أحيانًا ويدخلون اللّعبة، لعبة البذاءة اللذيذة، للتسلية والضحك.
تبتسم البنت لأمها وتقول: “أعرف أنكِ نسيتِ اسمي الحقيقي بسبب الألقاب الرائعة التي تناديني بها، هل يمكنك أن تذكري اسمي الحقيقي الآن؟”.
تردّ أمها: “امشي يا فاجرة”.
“لا، اسمي ليس فاجرة، جرّبي مرّة أخرى”.
“يا فاسقة.”
” ولا فاسقة..”، قالت الابنة، وحاولَت مساعدَة أمها: “هل تَذكرين آخر مرّة ناديتني فيها باسمي؟”، وتعتذر: “آسفة، أنتِ لا تذْكُرين اسمي بالأساس، فلن تتذكّري آخر مرّة ناديتني به”.
قبَّلَت الابنة خَدّ أمها، ومَشَت، أو.. ليس بالضبط، قبلما تمشي شدّتها الأم من شعرها بغيظ، فاقتلَعَت منه خصلة هَشّة.
سهرَت البنت مع أصدقائها في الشارع، تطاردهم، ضحكاتها تملأ الحيّ، وشتائمها البذيئة المبتكرة، ليلة كاملة تقريبًا، أتمّت بها السابعة عشرة من عمرها.
وفي الصباح كانت ميِّتة.
موت مفاجئ للبعض: لأنها صغيرة السنّ، ومُتوَقَّع للبعض: لأنها ما هي عليه.
أيّ حال، هي عرَّفَتْهم موعد موتها ولم ينتبهوا، تذكَّرَت أمها أنّ ابنتها قالت لها بعدما اقتلَعَت خصلة شعرها: “أموت بكرة الصُّبح”، وتذكَّر أصدقاؤها أنها قالتها لهم وهي تطاردهم في الشارع وتشتمهم وتضحك، ربما تعمَّدَت أن تقولها وسط شتائمها وضحكها حتى لا يلاحظوا، أو يأخذونها على حال الجَدّ.
اثنان فقط انتَبَها، وصَدَّقاها: أبوها، وأنا.
لَمّا قابَلَت أباها أمام باب البيت وهي خارجة للسهر مع أصدقائها، قالت له: “أموت بكرة الصُّبح”، قالتها بعاديّة، ولم يُعَلِّق، نظر في عينيها ونظرت في عينيه، ابتسم لها وابتسمَت له.
بعد رجوعها من سهرتها، جلس أبوها بجوارها في سريرها، تَكلَّما وابتسَما وضَحِكا معًا، وعند النوم غطّاها، وابتسم لها عند الباب، وقال: “أشوفِك الصُّبح”، كان يقصد، وكما تعرف هي، أنها “الصُّبح” بالنسبة له، فابتسمَت له، لكنها لم تقُل ردَّها المعتاد: “أشوفَك الصُّبح”.
لم يكن قد تَبقَّى على الصُّبح غير ساعة أو أكثر قليلًا، حاول خلالها الأب أن يمنعه عن الحضور، مرّة بالقوة، ومرّة بمفاوضات، وتعاطَف الصُّبح معه، وكاد يقتنع، لكنه لم يفعل شيئًا غير أن تأخَّر دقيقتين، وفي الوقت نفسه لم يتصرَّف ضد البنت، هو فقط: حَضَر.
أنا أيضًا انتبَهت لَمّا قالت: “أموت بكرة الصُّبح”، سَمعْتها واضحة وأنا أمرُّ بجوارها، ولمَسْت ظهر يدها بإصبعي، فالتفتَت وطَيَّرْت لي قُبلة، وقتها كان عمري 14، صبيّ إنسي، يحلم أن يكون صديقًا لها، أخطِّط وأجهِّز نفسي، أحفظ كلمات بذيئة، وأخترع بذاءات، وأتعلّم السَّهر في الشوارع، والتسكُّع، وتدخين السجائر، لم أُكلّمها، ولم أطلب منها أن تَحلّ لي شيئًا، فقط سأوقفها في الشارع يومًا، وأطلب أن نكون أصدقاء، فنكون من أول دقيقة.
فرِحْت بالقُبلة التي طيَّرَتْها لي، ولم أستطع تجاهُل ما قالته: “أموت بكرة الصُّبح”، فعلًا؟ تموت؟ بكرة الصُّبح؟ شعرْت أنّ كلامها جَدّ، قضيت الليل أفكر في حَلٍّ كي لا تموت، وقلت لي لو أنها لن تموت بكرة (عاتَبْت نفسي لأني فكرت في احتمالية موتها، لكن كان لا بد أن أفكر بهذه الطريقة)، لو بقِيَت على قيد الحياة، سأذهب إليها، وأطلب صداقتها.
طمأنْت نفسي قليلًا، قلت لي إنها بنت لا تموت بهذه السهولة، لكن.. اتّضح أنّ موتًا بهذه السهولة يليق بها.
قُرب نهاية اليوم الذي ماتت فيه البنت، بحثَت الأم عن الخصلة الهشّة التي اقتلَعَتها من شعر ابنتها، فتَّشَت زوايا البيت، ولمَحَتها تطير عند السقف، حاولَت الإمساك بها ولم تَقْدر، اتّجهت خصلة الشَّعر إلى باب البيت المفتوح، والأم تتبعها، تخرج الخصلة وتدور في الهواء أمام الباب، تمُدّ الأم يدها إليها، وتقول كأنها تُكلِّم ابنتها: “أنا أعرف اسمك، أعرف اسمك الحقيقي”، تقترب منها خصلة الشَّعر، تمسكها الأم بين أصابعها، تفركها وتشمّها وتُقبّلها، تُطبِق عليها وتضمّها إلى صدرها، ثم ترفع يدها بها لأعلى، تتأمّلها ثواني، وتُحرِّرها، فترتفع خصلة شعر البنت، وتدور في الهواء، وتبتعد، والأم تقول لها: “أنا أمّك، ولا أنسى اسمك، أعرفه، اسمك الحقيقي”.
وتمُرّ الأم على بيوت أصدقاء البنت، بيتًا بيتًا، صديقًا صديقًا، وتسأل كل واحدٍ منهم: “لم تُقبِّلها؟ ولا قُبلة واحدة؟”، تشتمهم لأنّ أيًّا منهم لم يُقبِّل البنت، تضرب وجوههم وصدورهم: “كانت محبوبتكم وفَرْحتكم، ولا قُبلة واحدة يا عديمي الذوق والرحمة؟ حاولتم على الأقل يا مُخنّثين؟”، وتَخبط على أبواب أولاد الشياطين: “ولا قبلة واحدة؟ كانت حلمكم، يا عديمي الحِسّ”.
ويرُدّ أولاد الإنس والشياطين على الأم بأنهم حاولوا معها كثيرًا، لكنها عنيدة ملعونة، كانت تشتمهم وتضربهم، وكشَفَ بعضهم للأم عن عضّاتٍ وجروحٍ في صدره ورقبته، وكدمات في ساقه وظهره، وألم عميق يعاني منه: “في.. فففف.. في مكان حسّاس”.
“ماشية على حَلّ مشاعرها”، لَقَب اخترعْتُه لها، أنا الصبيّ الإنسي الذي تمنّى صداقتها ولم يساعده الوقت، بفارق صُبْحٍ واحد، حتى لم أكلّمها، فقط تلك اللمسة لظَهْر يدها، وقُبلة منها في الهواء، لمسة وقُبلة منذ سنوات بعيدة، عمري 70 الآن.
كان بها شيء مُلْهِم لنا جميعًا، لكن لم يكن أحد يتكلّم عنه لأننا لا نعرف طبيعته تحديدًا، أو لأنهم لم يريدوا الاعتراف، أو لأنها لم تهتم، عرَفْت فيما بعد أنّ مصدر إلهامها لنا هو روحها الحُرّة، وحتى أسلوبها في الاستهتار، خصوصيتها وتَفَرُّدِها ومَشاعِيَّتها معًا، كانوا يشعرون بأنها قريبة وفي الوقت نفسه بعيدة، المحبوبة في السرّ، الملعونة في العلن، المُستفزّة بشكل يغيظ ومحبوب، لو سأل أيّ منهم نفسه، فلن يقول إنه يكرهها، لأنه فعلًا لا يكرهها، لكنه لن يعترف أنه يحبها، حُرّة ملعونة، لا شيء يبقى على حاله في حضورها، مُشْعِلَةُ حياة، تمنح الحيّ شَغَبَه وطعمه اللاذع، وفوق كل هذا يمكنها أن تحلّ كل شيء، حرفيًّا كل شيء، وهي، بعد موتها، تظهر في كلامنا من وقتٍ لآخر، حتى مَن لم يروها، فنبتسم.
أعرف، كانت صديقتي بطريقةٍ ما، طوال الوقت كانت صديقتي، حتى لو لم نتكلّم، وقد صادَقْت أصدقاءها بعدها، وتسكَّعْت معهم وسهرت وضحكت وبكيت واكتشفت واندهشت، وسمعت منهم حكايات عنها، عرفتها أكثر وأكثر، وصادَقْتها أكثر وأكثر، البنت، ولأجلها أكتب هذا، وهي، “ماشية على حَلِّ مشاعرها”.