“المتشرد صائد الحكايات” هو أفضل من يعرف قيمة حجرة مغلقة منذ سنوات داخل بيت قديم، يشعر بها من مسافات بعيدة، يسمعها وهى تهمس له من هناك، فيمشى حتى يصل إلى ذلك البيت القديم، ويتحدث مع أصحابه عن حجرتهم المغلقة، ويكون مستعدًا وقتها أن يدفع أىّ شىء ليدخلها، إلا أن أصحاب البيت الذين ينتظرون مروره العشوائى، سيكونون مستعدين لأن يدفعوا له الكثير حتى يتعامل مع حجرتهم غريبة الأطوار، ويجعلها صالحة للاستعمال، ولأنهم يعرفون أنه لا يتعامل إلا بالحكايات، سيُدخلونه فورًا دون مفاوضات، فيتجه إلى الحجرة دون أن يدلوه عليها، بينما تطفو روحه وترتعش حوله بفرحة عجيبة، مثلما كانت تفعل فى طفولتها وهى تستمع للحكايات .
يتوقف “المتشرد” عند باب الحجرة، يطرقه مرتين بهدوء، ويقول لها “سأحكى”، لكنها لا تفتح نفسها له إلا عندما تسمع منه حكاية، لا تكون جديدة فحسب، وإنما يجب أن تُدهشها، وتهزّ غصنًا عاليًا فى روحها، وعند أول مقطع يهزّ هذا الغصن بشكل كاف، لا تتمالك الحجرة نفسها، وتشهق من أعمق حكاية فيها، فينفتح بابها بقوة، وتندفع منها يدٌ تخطف المتشرد إلى داخلها، أو أنها الشهقة تبتلعه بأسرع مما يلاحظ أحد، حتى هو نفسه، لولا أنه يعرف أن ذلك سيحدث، عندها يأتى أصحاب البيت من الركن البعيد الذى تركهم فيه، ويتنصتون عليه، فيهمس الصمت من داخل الحجرة لكل واحد منهم بخيالات تختلف عن الآخرين، ويظلون مأخوذين به، فقط، ربما طفل ينظر من ثقب مفتاح الباب، سيرى بمواجهته عين كبيرة، بداخلها قرية تتشكل على مهل، يعرف “المتشرد” أن أصحاب البيت يتنصتون عليه كلما دخل حجرة قديمة، يعجبه ذلك، لأنه يعرف عن الحكايات والخيالات العجيبة التى تدور حينها فى رءوسهم، وهذه الفكرة ترضيه وتمتعه، “كل شىء لأجل الحكاية”، هكذا يحب أن يقول لنفسه والآخرين.
يقضى “المتشرد صائد الحكايات” ليلة واحدة داخل الحجرة، ويخرج فى الصباح، فيراه أصحاب البيت وقد تقدمت ملامحه فى العمر، كأنما أمضى هناك عدة سنوات، وعلى كتفه حزمة حكايات يثبتها بيده، ودون أن يتكلم أو ينظر إليهم يتجه إلى باب البيت ويغادرهم، وعندما يلتفتون إلى الحجرة، يجدون بابها مفتوحًا على قرية كاملة تبدو كأنها موجودة منذ سنوات طويلة، فقط، لا يعبر أىّ صوت منها إليهم، هى طافية فى بعد آخر وتابعة للبيت فى الوقت نفسه، بإمكانهم أن يحتفظوا بها طالما ظل الباب مفتوحًا، أو يستعيدوا حجرتهم فارغة بمجرد أن يغلقه أحدهم ويفتحه ثانية، ولا أحد غيرهم يمكنه أن يرى قريتهم، فكل زائر أو عابر لن يرى غير ذلك الباب القديم المغلق، وإذا تكلم أحد أصحاب البيت عن القرية للآخرين، فإنهم يفقدونها فى الحال، ويحصلون ثانية على حجرتهم القديمة، المغلقة، غريبة الأطوار.
يستطيع أىّ من أصحاب البيت أن يعبر الباب إلى القرية، وبمجرد دخوله تصير حقيقية تمامًا بالنسبة له، فيسمع أصواتها، ويشعر بكل تفاصيل حياتها، فقط، لا يمكنه أن يبيت هناك، أو أن يترك فيها شيئًا من عالمه، أو يأخذ منها شيئًا، كما أن القرية لا تلتفت إلى فتحة الباب، كأنها بالنسبة إليهم فراغ بعيد لا تدركه عيونهم، أو باب لحجرة قديمة، مغلقة، بلا مفتاح، وغريبة الأطوار، ستبقى هكذا حتى يأتى “المتشرد صائد الحكايات”.
عندما يعود أحد أصحاب البيت من القرية، فإنه ينسى ما فعله هناك، ومن تعامل معهم، وتنساه القرية أيضًا، حتى لا يتورط معها فى حياة حقيقية، وتبقى بالنسبة له بُعدًا آخر، ويبقى هو بالنسبة لها ضيفًا تمنحه كل شىء بالمجان، لكن، كم عدد من تورطوا فى حياة حقيقية مع قرية تابعة لبيوتهم؟ لا بد وأن ذلك قد حدث، فيوم واحد هو أكثر من كافٍ للتورط فى عدة حيوات، وليس حياة واحدة، كما أن هناك أسباب كثيرة غير التورط فى حياة، يمكنها أن تغوى كثيرين بالبقاء فى مكان يظهر ويتصرف بهذه الطريقة.
كم شخص عبر إلى قرية وأغلق الباب خلفه؟ ماذا يحدث معه هناك، وأين تذهب القرية إذا أراد أصحاب البيت أن يتخلصوا منها ويحصلوا على حجرتهم الفارغة؟
عندما يفقد “المتشرد صائد الحكايات” عدة سنوات من عمره فى حجرة ما، فإنه قد يستعيدها فى نفس الليلة إذا صادف حجرة أخرى، هذا ما تفعله معه الحجرات غريبة الأطوار، تُقدّم مؤشر عمره أو تؤخره عدة سنوات فى ليلة واحدة، هو لا يهتم بما ينتظره فى كل مرة، “كل شىء لأجل الحكاية”، والحكاية لا تخذله، وتمنحه حالات استثنائية للحياة، تُشكّلها له بأن تجمع حالتين أو إحساسين معًا، وربما أكثر، فى نفس المكان واللحظة، يشعر بناتج امتزاج الرعب واللعب، المتعة والألم، السعادة والشجن، الوهم والواقع، وغيرها من التشكيلات التى تُصنّعها الحكاية لأجله على يديها، فتطفو روحه وترتعش بفرحة عجيبة، هو الذى لا يعرف متى بدأ يصطاد الحكايات، ما هى أول حكاية اصطادها، ربما يتذكر يومًا، رغم أن المسافة بينه وبين تلك الحكاية تتباعد كل يوم، باصطياده لحكايات جديدة، والسنوات التى يفقدها ويستعيدها من عمره مرة بعد أخرى فى الحجرات غريبة الأطوار، “كل شىء لأجل الحكاية”.