أحمد منير أحمد
فُوجئ بالقبض عليه فور خروجه من بوابة المطار، لا يدري ما تهمته، ولا يدري سببا لاحتجازه وهو الذي طوال طريق العودة، يرسم في مخيّلته مراسم الحفاوة والتقدير التي سيُقابل بها في موطنه، بعد فوزه بالجائزة الدولية عن مجمل كتاباته.
احتُجز لأيام في حبس انفرادي دون أن ينبس إليه أحدٌ ببنت شفة، أو يخبره بشئ.
بعد أيام تم عرضُه على النيابة وسُئل عن بطلات رواياته، سُئل عنهنّ واحدة واحدة بالاسم، سُئل عن سامية وعالية ومهجة وسناء وغيرهن..
- هل تعرفهن؟
أجاب بصرامة بل وفخر..
- بالطبع أعرفهن، فهنّ بطلات رواياتي وأنا الذي ابتكرتهن ومنحتُهن الوجود من العدم، فكيف لا أعر…؟
كان أول سؤال يوجّه إليه من المحقق ولم يتوقع أبدا أن يكون آخر سؤال أيضا، ولكن بالإجابة المقتضبة والصارمة تلك، والتي لم يكملها حيث قاطعه المحقق قبل أن ينهيها، أمر وكيل النائب العام بمدّ احتجاز المتهم خمسة وأربعين يوما، حاول الاستفهام عن سبب احتجازه من الأصل لكنّ أحدا لم يُجبه، حيث تم سحبه مباشرة نحو الحبس الانفرادي من جديد. تذكّر لحظة جرّه من الشرطي، لحظة جرّ “مهجة” من قِـبَـل أخيها، ولا يدري ما الذي دفع بهذا المشهد تحديدا إلى ذاكرته. لم يكن للكاتب أسرة كي يسأل أحدُهم عنه أو يتعقب غيابه، لم يكن له امتداد خارج الحبس، فلم يعنِ له شيئا أن يكون له امتداد داخله، فانقاد للحبس من جديد دونما مقاومة.
لا يذكر عن حياته شيئا سوى كتاباته، يعتقد طيلة عمره أنه جاء إلى هذا الوجود كاتبا، ليس له ذكريات خارج سطور رواياته تلك التي أفنى فيها السنين حتى تم تقديره ومنحه الجائزة التي قوبلت بما قوبلت به، ربما كان ذلك سبب تذكره مهجة لحظة جرّه للحبس.
لا يعرف عن العالم سوى بطلاته المتمردات، اللاتي اتفقن على التغريد خارج السرب أو هكذا أبدعهن بمخيلته، لكن شيئا ما يدهشه ولا يدري سببا له، لماذا لم يكتب عن أبطال آخرين أو بطلات أخريات سوى من هذه النوعية المضطهدة واللاتي ابتكرن أساليب مقاومة المجتمع الذكوري بشئ من العنف في تخفٍ؟
********
“كنت في صباي أحبّ ابن عمي، لا أدري هل لازلتُ أحبه إلى الآن، وهل لا زال لديّ قلبٌ يحب ؟؟ لا أدري، ولا أدري حتى هذه اللحظة، هل بادلني مشاعر الحب وقتها أم لم يفعل لكنّ ما أعلمه أنه وإن كان فعل، فسيظل محرّما عليّ حرمة صدر أمي بعد الفطام، كما قال أبي أو كما قال أخي الأكبر بتعبير أدق ومرّرها إلى أبي. اختلفا مع عمي حول إرث جدي، ومن يومها، كان بيتنا محرّم على عمي وأبنائه، وبيت عمي محرم علينا، قولا واحدا لا رجعة فيه، هكذا قال أخي، أخي الذي فوجئت به ينادي عليّ بصوته الخشن من الشارع حيث كنت لحظتها في منزل عمي: (مهجة، مهجة) ليسحبني فور خروجي كما يجرّ حماره النافر إذا ما أمسك به بعد إفلات، ويضربني دون سبب أو هكذا أعتقد، فهو يضربني بالطبع لأنني خالفت فرَمانه بتحريم بيت عمي عليّ بل على الجميع، بيت عمي الذي حوى قلبي وربت عليه، بيت عمي الذي بدأت أشعر بنبض قلبي فيه، قلبي الذي تحوّل فيما بعد إلى نافورة دم أغرقت حياتي كلها بالدماء..
………….
.
.
.
كانت دماء أخيها الأكبر تفور من عنقه بينما ترتسم ابتسامة مهجة وسيعة منتشية بشكل نافورة الدماء من عنق أخيها هامد الجسد تماما بينما مهجة تنتصب واقفة وفي يدها المقصّ الذي غرسته قبل دقائق قليلة في عنقه”
القاضي يغلق دفتيّ الكتاب بعنف ويلقيه على المنصة أمامه..
- أليس هذا فصلا من فصول روايتك “فؤاد مهجة، نافورة الدم”؟؟
الكاتب بتوجّس..
- نعم
- إذن أين مهجة يا حضرة الكاتب؟؟ هل تخبرنا إذا سمحت.
ترتسم علامات الدهشة الجادة على الكاتب ولا يجد جوابا سوى الصمت.
********
“أكوام من أعقاب السجائر المنطفئة تعلو وتعلو أمام “عالية”. كل شئ كان يعلو أمام “عالية” وفي وجهها، أكوام سجائرها بعدما باتت شرهة التدخين، أكوام أحزانها التي تتجاسر يوما بعد يوم، أكوام من الصور للساقطات كما تسميهن، اللاتي يصحبهنّ زوجها مؤخرا، أمام عينيها يلجْن غرفتها، يدّنسن حمّام منزلها، بل إن إحداهنّ تجرأت وارتدت إحدى قمصان نومها، لا لتفتن زوجها الساقط به، إنما كي تسخر من رداءة شكله وقِدَم موديلّه. كانت “عالية” تسمع الضحكات المتصاعدة والتي زادت عن حدّها الطبيعي ليلتها، إلى أن خرج زوجها من الغرفة وللمرة الأولى يفعل إذا ما كانت إحدى الساقطات بصحبته، لكنه خرج عامدا كي يخبر “عالية” بهذا المسلسل الذي يراه كوميديا بل إنه تعمد إخراج الساقطة من الغرفة كي يعرضها على “عالية” المنكفئة على جسدها المتهدل على كنبة الصالة منذ وقت لا تدريه..
كان كل شئ يعلو ويعلو إلا “عالية” ذاتها، كانت تتضاءل، جسدها ينحلُ يوما بعد يوم ويتضاءل، نفسيتها تحتدَ يوما بعد يوم وتذبل، عقلها يغيب يوما بعد يوم حتى كاد يقترب من عقل طفل صغير، وكلما تضاءلت عالية، تتذكر قوله لها قبل سنوات من الآن بسخرية..
- عالية؟؟ هل تظنّين أنك عالية فعلا؟؟ أنتِ في أسفل سافلين، وسأريكِ، أنا المُخرج وأنت كومبارس لعين التقطُته من الشارع.
منذ هذه اللحظة وهو يريها، لكنه لم يكن أبدا بمثل هذا التبجّح كيفما صار في فترته الأخيرة وهي كانت تحاول الصمود طوال هذه السنين وتعلم يقينا بخيانته لها إلى أن بات يصطحب ساقطاته عيانا أمام عينها بعد حادثتها التي أقعدتها في المنزل تخدمها “سامية” مسؤولة ملابسها المخلصة منذ سنوات..
…………………………………………………………….
.
.
.
كانت طاولةُ السفرة تئن أنينًا جليًّا، بينما الدماء تسيل على قوائمها المنتصبة، مثل دموع سيّالة على وجنتيْ آدميّ. لم تكن المرة الأولى التي يُقطّع اللحم فيها على الطاولة، لكنه كان هذه المرة لحمًا بشريًا…”
القاضي يضرب منصته بانفعال شديد..
- لن أكمل هذا المشهد المتوحش، ولكن هل كان لابد أن يموت هذه الميتة الشنيعة؟؟ ألم تكن هناك نهاية أخرى يا سيدي الكاتب؟؟
الكاتب يندهش من سؤال القاضي..
- أتمنى لو كنت أستطيع أن اقول أنّه كانت لديّ خيارات أخرى لهذه النهاية يا سيدي.
شعر برجفة خفيفة تسري في جسده وومضا خاطفا في ذهنه للمرة الأولى، حيث لاحَ في ذهنه شئ لم يره من قبل فأردف وهو يمسح جبينه بيديه..
- ولكن ألا ترى معي أنّ هذه النهاية كانت نتاجا طبيعيا لسقطات هذا الزوج المتوالية؟ لمحاولاته المتعمدة كسر زوجته دون سبب؟ لتوحشه الذاتي؟ أتتعجب سيادة القاضي من وحشية نهايته ولا تتعجب من وحشية أفعاله التي سرَدْت؟
- أنا لا أتعجب ولا يحزنون، فليذهب بطلك للجحيم، أنا أحزن على خمسة وأربعين زوجا قُتلن بنفس الطريقة يا هذا، أتعجّب أين هربت بطلتاكَ “عالية” و”سامية” اللاتي استـُـنسِخن آلافا !!!!
- استُنسخن؟؟!!!!
بتأثر وحزن ظاهر يردف القاضي..
- استُنسِخن بعدد نسخ رواياتك، وهرَبن منها للأسف.
القاضي يلقي إليه بنسخة من روايته ويسأله بانفعال ..
- لقد احتَجزنا بعض النسخ التي نقرأ منها هنا بصعوبة قبل أن تفرّ بطلاتك منها.. هل يمكنك أن تُخرج لنا عالية وسامية من هذه النسخة من روايتك يا سيدي؟!!
الكاتب ينظر لسطور وأجزاء من صفحات في الرواية بِيضًا باندهاش وفزع، ويسأل بحزم..
- لماذا أنا هنا يا سيادة القاضي؟ ما تهمتي؟
********
“- رواياتٌ بها سمٌ قاتل!!!!..
- اختارت قتل زوجها بالسمّ، نقطة من السمٍّ تسري في جسده ببطء، قتل يشبه الروايات!!!..
- اسم القاتلة يتشابه مع اسم بطلة إحدى الروايات قتلت زوجها بنفس الطريقة!!!..”
الكاتب يفغر فاه مندهشا، بينما القاضي يستمر في قراءة بعض مانشيتات الصحف القومية، عن جريمة قتل تصدّرت الصحف عدة أسابيع.
- هل تعرف القاتلة يا حضرة الكاتب؟
باغته بالسؤال، أجاب..
- كيف أعرفها؟ لم أسمع بهذه الأخبار سوى الآن.
- إن بطلاتك عِثنَ في الأرض فسادا يا سيدي، أفسدن علينا نسوتنا وحياتنا، دمّرن حياتنا حرفيا، تبا…..
يتوقف بارتباك وكأنه تحاشى إغضاب الكاتب، ثم يرفع الجلسة للتداول.
********
في غرفة التداول، كان إجماع على تغليظ العقوبة لأقصى مداها، أجمع القضاة على الإعدام، عدا واحدا، كان معترضا وبشدة على الإعدام ليس لشفقة أخذته بالكاتب، ولكنّه لفت انتباه القضاة للعنة هذا الكاتب وبطلاته اللاتي قد يثرن ثورة أقسى من ثورتهن الأولى بإعدام مؤلفهن.
طالب القاضي بالتروّي، وبأن يُضرب عصفورين بحجر واحد، بالحكم على الكاتب بالنفي شريطة أن يصطحب كل بطلاته العابثات في قلب هذه المدينة، فتمّ الاتفاق على تأجيل النطق بالحكم.
في تلك اللحظة وفي أطراف المدينة هناك، لــُمِحت عاصفة قوية تهبّ من ناحية السجن لم ترها المدينة من قبل، الغريب في شأن العاصفة ليس قوتها بقدر كمّ الأوراق المتطايرة والمصاحبة لتراب العاصفة الذي يعوي، وكأنّ العاصفة بدأت من مطبعة ورق، كما أنه في ذات اللحظة سُمع مواء قطط في كل أرجاء المدينة، فـُسِّر بشعور الحيوانات بحوادث الطبيعة قبل البشر، لكنّ أحدا لم ينتبه لما هو قادم!!!
بدأ المواء خافتا ومتقطّعا غير أنه بمرور الساعات تواصل مواء القطط عاليا وبشكل مستمر لا ينقطع، تحولت المدينة كلها لحفلة رعب جرّاء عواء الرياح ومواء القطط.
ليلة لم تمر على المدينة ليلة مثلها من قبل، خرجت فيها الأمهات إلى الشوارع والأطفال على الأكتاف تبكي بهلع من صوت المواء، الخوف يعبّئ الأركان ويتغوّل مثل قطع الظلام الكثيفة، والأمهات يحاولن بالربت على الأكتاف والهدهدة تهدئة الأطفال، يحتضنّ الأطفال بارتباك من صوت المواء الذي يملأ أرجاء المدينة بلا هوادة. الرجال أيضا يجُبن الشوارع وينفقن الوقت على المقاهي التي لم تُغلق أبوابها، والقطط تتكاثر ساعة بعد ساعة، سارحات في جميع الأركان بمواء لا يهدأ. بدت المدينة وكأنها محتلة من القطط، قال أحدهم
- ما كل هذا الجنون؟؟!! اقلب أي حجر في المدينة سوف تجد تحته قطّاً، وكأننا في آخر الزمان.
لم يتصور أحدٌ من قبل أنّ المدينة تحوي هذا الكمّ من القطط، بل إنّ الأحاديث بدأت تدور في كل مكان – بنوع من التهكّم وجلد الذات- أنّ الأرض وكأنها تلد قططا وهذا ما كان يتم في الحقيقة هناك!!!!
لا نوم في المدينة بسبب المواء وبكاء الأطفال، كانوا يظنونها ليلة وتمضي لكن وبعد مضيّ عدة ليالي على هذا الحال المريع، وبينما للمرة الأولى بدأ الرجال يتناوبن حمل الأطفال مع الأمهات اللاتي هدّهنّ التعب، سُمعت صرخة رجل قوية صاحبها الصفعة التي نزلت على خد الطفلة كضربة برق مثل التي ضربت السماء للتوّ، هكذا انضم صوت البرق لمسلسل أصوات الرعب التي تولدت ولم تنقطع، كانت الطفلة قد خمشت رقبة أبيها بأظافر بدت كأظافر قط، بكت الطفلة بكاء قاسيا جرّاء الصفعة، التي انتبه لها جميع من بالشارع، الأم التي تفترش الأرض تسند رأسها للجدار، هرعت إلى ابنتها كي تحملها، بينما بكاء البنت يتحول شيئا فشيئا إلى نشيج ثم إلى مواء، كانت الفتاة الأولى التي تتحول إلى قطة تموء، بعدها بساعات كانت فتيات المدينة جميعهن قططا تسرح في الشوارع تموء والآمهات تهرول خلف بناتها القطط، والآباء أغلقوا الأبواب على أنفسهم في الدور خشية النظرات الغاضبة من عيون القطط الصغيرة، فتياتهم المتحولات. بدت عيونهن تطلق شررا يصاحب مواءهن المخيف فهرب الرجال مختبئين.
كان منتشيا أيّما انتشاء وهو يشعر شعوره الأول في حياته، كان يشعر بالحماسة وأخذ يكتب ويكتب، يحوّل الصغيرات إلى قطط وبطلات رواياته إلى نساء من لحم ودم، ورجال المدينة إلى أقلام حبر!!!!
كان كلّ شئ في المدينة يتغير، بينما هناك في طرَف المدينة خلف القضبان، كاتب يكتب كل تفصيلة تقع خارج أسوار هذا السجن الحصين، يكتب عن عاصفة محملة بأوراق وقطط تموء وفتيات يتحولن قططا ونساء يتحولن لبطلات ورقيات وبطلات ورقيات يتحولن نساءً من لحم ودم.. إلخ
آل كل شئ في المدينة للهدوء بعد المطر الأخير، أمطرت السماء على يومين متتاليين، في اليوم الأول أمطرت السماء مطرا أحمر لم يسقط سوى على النساء أو نساء بعينهن، يحوّلهنّ من بطلات ورق إلى نساء، ثم في اليوم التالي أمطرت السماء مطرا أزرق بلون الحبر كان يصيب الرجال فقط حتى لو تحصنوا بأقصى نقطة عميقة في قلب منازلهم، كانت قطرة الحبر تسقط على الرؤوس يذبل معها جسد الرجل شيئا فشيئا بدايةً من قدميه، حتى يصل للزرقة الكاملة كقلم حبر أزرق منتصب.
خرج من سجنه مكَلَّلا بنشوة انتصاره، فقرر الرحيل، وفي اللحظة التي ترك فيها المدينة حاملا رواياته، وتجيّشت نساء المدينة كلها خلفه، تاركات مدينة بلا أنثى، يعشش فيها ذكور زُرق يشبهون أقلام الحبر، خائفون، يتنفسون صعداء الإفلات من الهلاك المحقق على يد قطط تموء ونساء تحولن لبطلات ورق وبطلات ورق تحولن لنساء، كان غريب يجوب أنحاء المدينة يبحث عن أيّ شخص يسأله عن كاتب تعرّض لمحاكمة بسبب توحش بطلات رواياته. كان الغريب يحمل في يديه كتابا يفتحه على صفحات بيض، ويقسم أنّ بطل روايته كان قد هرب إلى هذه المدينة في غفلة منه قبل أن يمارس مهنته ككاتب يكتب عن نساء توحْشّن صارخاتٍ في وجه المجتمع.