قصص قصيرة لـ محمد قنديل

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

جدارية

 محمد إبراهيم قنديل

انحنى وابتسم لكنَّ أحدًا لم يتوقفْ أو يردّ عليه انحناءتَه وابتسامه

أسرابٌ تطاردُ حياتَها في مشهدٍ مأسويٍ مستمر ومتكرر منذ الأزل، حتى مَن ينتبهُ منهم لا تستريحُ الدهشةُ على جِلدِ وجهِه أجزاء من الثانية ثم يهرعُ كعبدٍ فاتَهُ مرادُ سيدِه ويخشى العقاب، الثامنةُ صباحًا والمترو يجذبُ العشوائيةَ المزدحمة، في البدايةِ كان وجودُهُ مسموحًا كتواجدٍ ناعمٍ لغرابةٍ طازجة تتسللُ إلى خلفيةِ الحياة، رجلٌ مهندم -ربما شحاذ- يقفُ على بابِ المترو ينحني للقادمين بابتسامةٍ بلهاء، لا يمدُّ يدَهُ ولا يبيعُ شيئًا، بالتدريجِ جرفَتْهُ الزحمة، تراجعَ إلى الركنِ ينحني بابتسامةٍ مقاوِمة، حشودُهُم تُضَيِّقُ عليه، التصقَ بالحائطِ ولم يقدرْ على ممارسةِ فعلِه البسيط الانحناء، فقط تمَكَّنَ من إنقاذِ ابتسامةٍ خفيفةٍ عَلِقَتْ بملامحِه المتعَبَة، تضاءلَتْ مساحتُه وانكمشَ في الحائط صورةً مرسومةً بعناية لابتسامةٍ ويدٍ تلتفُّ على مساحةٍ من الفراغِ يمكنُ أنْ تتسعَ لحضنٍ عابر، لم يعطلْهُم عن شيء ولم يطلبْ شيئًا سوى انحناءةٍ لطيفة وابتسامةٍ عابرة.


طريق

سقطنا جميعًا في النومِ بالتتابُع فورَ أن خرجَ الميكروباص من القاهرة، استيقظتُ فجأةً مع تلافي السائقِ لمطبٍ صعب، كان يجلسُ بجواري، سألَني عن الساعة ثم نظرَ إليَّ بكلِّ الطرق وأنا أتجاهلُهُ كذبابةٍ حطَّتْ على شباكٍ بعيد ، وهو يمعنُ في الحركةِ والتحديقِ فيَّ مُعَلِّقًا على كلِّ شيءٍ بصوتٍ يتعمدُ أنْ أسمعَهُ ويضحكُ نصفَ ضحكةٍ آملًا أنْ أرنوَ إليه أو أتداخلَ في حوارٍ معه يُكمِلُ تلك الضحكة، وحين وصلَ إلى المكانِ الذي سينزلُ فيه كان ينفخُ ويتمتمُ بعصبية، وتابَعَ السيارةَ تبتعدُ بحسرةٍ تملأُ وجهَه.


تحليق

مَرُّوا على ناصيةِ موتِه يحملونَ الخبزَ والزيتونَ وسؤالًا مُعادًا عن أمنيتِه الأخيرة، تكوَّرَ على نفسِهِ كجنين ، لم يأكلْ منذ ثلاثِ شموسٍ ولن يأكل ، قلَبُوه ، تشنَّج ، لاطفوه ، تلوَّى ، تركوه يرمقُ الخبزَ وحباتِ الزيتون بشهيةٍ غائبة ، تشبثَ بانحرافتِهِ المنخفضةِ عن النافذةِ يُطِلُّ منها على قطعةِ السماء التي تواجهه ، الإعدامُ لا يحزنه ، الموتُ لا يخيفه ، لكنهُ لم يتمكنْ من التصرفِ بعاديةٍ في آخِرِ لحظاتِه ، كان لا بد أن يُشْنَقَ غدًا وقد مارسَ شيئًا من الاحتجاج ، عند موتِه ، شيءٌ لم يرَهُ حملَ الجميعَ في فمِه وطارَ بهم إلى المجهول .

 


عاصفة

ذات مساءٍ بعيد 
رآها على ظهرِ غيمةٍ تتمشى فوقَ الرياحِ والمطر، ورأتْهُ على بُعْدِ ولَهٍ يُمَهِّدُ الأرضَ للانتظار ...

لم يلتقيا إلا بعدَ ألفِ عامٍ على الطريقِ الزراعيّ ، كان عائدًا من خيبةِ أملٍ أكلَتْ العمرَ وشربَتْه، وكانت هي تهربُ أخيرًا من حصاراتٍ قتلَتْ كلَّ شيء ، السائقُ الذي لم يتوقفْ يومًا لعابر التقطَها من وحشةِ الليل والطريق .. عرفَها حين التقَتْ عيونُهما وعرَفَتْه ، وكان على السماءِ بغرابةٍ شديدة أنْ تنخفضَ على الملاكيِ المسرعةِ كسقفٍ دخانيٍّ ممتلئٍ بالخروق يكسو الأرضَ ويعمدُها ، دموعُها انفجرَتْ وانحسرَ الصمت ، أرادا أنْ يتوقفا لكنَّ قلوبَهما كانت كسيلٍ يكتسحُ كلَّ شيء ، و استسلمَا .


عصمة

ارتعَشَ قلبُهُ الأحمق فلفتَ نظرَها ، ودَّ لو تنشقُّ الأرضُ لتبتلعَهما ، شعُرَ بمرارةِ خطئِه حين أطاعَه وأخرَجَهُ من ضلوعِه ، ها هو مضحكًا وبائسًا يحملُهُ على ذراعِهِ كرضيعٍ ويركضُ ، ساقَ النبيَّ والأولياءَ على اللهِ أنْ يكونَ الليلُ ستارا فلم تنكشفْ حقيقتُهما، دخلَ في عطفةٍ مظلمة وارتكزَ على حائط، فتَحَ صدْرَهُ وأعادَهُ إلى مكانِه، التعقيدةُ الأخيرةُ في توصيلِ شبَكةِ الشرايين أنفدَتْ صبرَهُ فسبَّ ولعَن، لم ينَمْ ليلتَها ولم يكفَّ قلبُه عن اللكمِ والركلِ كلما استسلمَ للنعاس ، حينَ مرَّ على دكانِها في الصباح، أقسَمَتْ أنها رأتْ ليلةَ أمس شبحًا يحملُ رضيعًا ويركضُ يشبِهُهُ من قفاه، ابتسَمَ لها وباغتَتْهُ بسؤالٍ عن رغبتِه في البنين زينةِ الحياة ، بدا أنَّ العملَ يمكنُ أنْ ينتظر، وجلسا .


قطط

 

لا فائدة من البكاء على اللبن المسكوب ، ولا معنى لاستكثارِه على كائناتٍ تتغذى عليه أو حتى تسبحُ وتلعب فيه ، أنانيةُ التملكِ شيءٌ وحماقةُ التمسكِ شيءٌ آخَر ، كان عليه من البدايةِ أنْ ينفضَ ذكرياتِها وبقاياها وكان عليه أكثرَ أنْ يتركَها لصاحبِ نصيبِها دون هذا البؤس والكراهية ، ليست آخِرَ النساء ولستَ مُعابًا لتكونَ نهايةَ الكون ، أنتَ أحقُّ بالنومِ الذي تعاني لتنالَ بعضًا منه مختلطًا بمرارةٍ وأرقٍ وسخونةٍ لاذعةٍ في القلب ، لكنكَ لا تَشبعُ من أحلامِ اليقظة ، لا تكفُّ عن دهسِ النملِ والصراصير والذباب ، و لم تعملْ حسابًا للقطط ، هي أيضًا تعشقُ اللبن وتنادي بعضَها وأنتَ بالتأكيد لا تملكُ شجاعةَ قتلِ قطة .

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب وطبيب مصري 

مقالات من نفس القسم