قراء في مجموعة “طرح الخيال”

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مها مصطفى

" أن تملك الخيال، هذا كل شيء.

أن تملك ناصية العلم، هذا لا شيء على الإطلاق.."

-أناتول فرانس-

لذا، وعليه، نحسب أننا نتناول هنا حديثا بالعلم عن المجموعة القصصية "طرح الخيال" للكاتب أحمد سمير سعد، والتي صدرت عن دار روافد للنشر والتوزيع في 2016، فنبحث في عنوان المجموعة ابتداء، وكيف كانت لفظة "طرح" مراوغة للغاية، فالطرح كمصدر في قواميس اللغة قد يعني زيادة، عندما نتحدث عن طرح النهر الذي يتكون على ضفافه من طمي وعوالق، وفي ذات الوقت يعني نقصان، وذلك عندما نتحدث عن عملية حسابية أو كمية بطرح أصغر مما هو أكبر منه، وقد يكون الطرح مجرد عملية إلقاء وعرض، عرض لحالة الخيال كما هو بين أيدينا في هذه المجموعة، في حالته الأصلية والأولية، مادة هيولية تنمكمش وتنبسط، أو لنكن أكثر دقة فنقول نهرا يفيض وينحسر، وفي أثناء هذه الحركة تحديدا، وتحت تأثيرات قصصية عدة، تظهر جزر من اليابسة، نفترض هنا أنها قصص هذه المجموعة، تفصلها فواصل نصية اختارها الكاتب بعناية بين قصصه كأنما هي من ماء، يفصل ويصل، ف "طرح الخيال" قصص، كما جاء الرسم على الغلاف الخارجي للكتاب، كما أنه مجموعة قصصية، كما نص الغلاف الداخلي، هذا حتى نصل للنص الأخير، "من طرح لم يشكل يابسة"، القصص العالقة في بحيرة الخيال التي لم تتخذ أشكالا قصصية يابسة بعد، لكنها معروضة للخائض والسابح بجمالها الأولي تحت ضوء من الشمس.

بداية من التصدير الذي أورده الكاتب "خيال حر يكتب خواطره ويلح عليها" نشعر بأنه ليس المقصود هنا هو الرسالة/النص، إنه ما وراء القص، ربما تحذير واستغاثة، وإلا؛ فيم كان الإلحاح؟!

ثم تتراص الفواصل النصية بين القصص- صوت الراوي-، تؤسس لصورة الأرض الزبد، الهشة، طرح البحيرة، الأرض الموجودة والمعدومة حسب حالة الخيال، المتكونة من تراصات لغة مزخرفة ومنمنمات منمقة تزين جنبات النصوص الفصل يحشدها لتعينه في ظهور الأرض التي سيبني عليها  قصصه التالية، فتعلو القصص عن السطح وتأخذ مكانها للظهور، الاستعانة بصوت الراوي فيه نوع من التعالي، محاولة لتوجيه المسار والسيطرة على التجربة، بما يوحي بأن هذه اللغة وهذه القصص حية بالفعل، فنجد الكاتب يقر بأن هذه الأرض "لا يعنيها أن تشعر كل لحظة بتلاشيها في محيط من جحيم سائل"، فلا تلبث أن يفيض عليها من بحيرة الخيال فتغور، أو يصفها بأنها لحظة لا امساك لها، لحظة وقتية بين الوجود والعدم تنعم بالتغير الدائم.

في قصة "الديكتاتور" الذي استند إلى نسبه النقي لاثبات أحقيته بالملك حتى تحولت مفاهيم النقاء لتراكمات وتشوهات مورفولوجية، نلحظ هذه الحركة الديناميكية في الإصرار على ربط حركة المد والجز بالإيجاد والعدم، فنفترض وجود اتساق في القص والوصف، مفردات ومرادفات وزيادات وحروف من عطف وأخرى مزيدة للمبالغة والتوكيد، هي الأنسب لمقام الحكي هنا والأكثر إمعانا في رسم اللوحة وفي زخرفها ولكن الصورة لا تلبث أن تتفسخ وتنعدم من حرارة الرسم والزخرفة بالكلمات، كما أحداث القصة التي أصرت على هذا الكم من التقديس والعقد والانغلاق والانغلاق على النقاء الذي أدى إلى هذا الكم من القبح في صورة وهيئة الديكتاتور، القبح الذي تضخم والتهم من هو اقبح منه، ذلك الذي ادعى احقيته بالملك، وضم تشوهات للأخير إلى تشوهاته، وكأنما الحركة الموجية التي نتحدث عنها هنا وتحيط بالقصص تمتد إلى داخل الأحداث فتسيلها وتتحكم في مصائرها وما تؤول إليه نهاياتها.

في "توحد" تنسحب المشاعر انسحاب الأبعاد الفيزيائية لمكون بطل للقصة، فالقصة تتداخل وتتسطح، لعبة أخرى من ألعاب الخيال، فيردها الخيال كذلك بموجة من التجسيم والنسج. وفي منزلة أخرى، نرى في قصة "الشفيف" الإنسان الساق، المعجزة بلا معجزة، فليس هناك أكثر إعجازا من إنسان عادي، لكنه سيرة تورث جيلا من بعد جيل، من ذهب لكنه لم يذهب بالفعل لبقاء السيرة، فأصبح عمره من عمر كل سلالات البشر، هو هنا وهناك، نتحدث هنا عن موجة من الأبعاد المترددة للوجود، قائمة رأسيا وممتدة؛ بخلاف بطل قصة "توحد" الذي انسحق بتسطيح مشاعره وتداخل أبعاده. هذه الترددات القائمة، الرأسية والممتدة، امتدت كذلك لقصة "حقول الذرة"  فصنعت من أعواد الذرة بحرا ذو شهيق عميق، للأعواد حركة تسحب من ينزل بداخلها فلا نعلم ماذا تخفي ولا إلى أي مكان ترسل ما اخفيه، هذا الشهيق على هدوئه فهو الأكثر إرهابا وعنفا، فقط وبفضل هذه الحركة تتكاثف في خطوط طولية في القصة على صورة Barcode وتملئ كل الفراغ والأماكن في البلدة محل الحدث حتى تحتل كل الفراغات والمساحات البينية بين الموجودات فتصبح الصورة مصمتة وسوداء تماما.

قصة "الابنة" تطرح معضلة الأبوة، يفترض على الآباء أن يمنحوا الابناء حماية بأن يقدموا لهم اليقين، لا يستطيع الاب هنا أن يقدمه لأنه لا يملك يقينا حتى الآن، مرة أخرى نتحدث عن الأرض الموجودة والمعدومة في آن واحد، ولا ينفذ منها إلا بأن يسلم بالتجريب وأن لا حماية وانما فيض من خيال يغمر المواقف أو ينحسر عنها فنستجيب له. في المقابل، تأتي قصة "البلاء" لتتناول السلطة الأبوية من وجهة نظر ابن واقعة عليه ممن يريدون أن يمنحوه اليقين، فيرى رأس أبيه يأكلها الدود وأمه تعيش على رأسها الفئران فينشأ الرعب ويتحسس رأسه ويحكها من آن لآخر جيدا إلى أن يدرك بأن الرءوس أنواع بما تسيطر عليها من أفكار، لذا فالرءوس المتشابهة في النوع تقاتل سويا في مجموعات وقبائل قتال الحيوانات والحشرات ودفاعها ببدائية واستماتة عن أنواعها، مرة أخرى يطغى الخيال ويتفسخ العالم.

وما كان ل "الموت" أن يمر من هذه المجموعة دون تناول وسطوع، فكانت قصة معنونة باسمه، يحاربه الكاتب هنا سعيا لإنهاء حربا أزلية، حرب الانسان ضد الفناء، فنرى حالة أخرى من حالات تحول المواد الفيزيائية المرتبطة بصياغة اللغة لإيجاد الحل وحتى يستطيع المقاومة، لكن الموت لم يأت متخفيا هذه المرة، جاء واضحا وصريحا كاسمه، هو قرر أن يأتي مجتاحا في مقابل جندي واحد واقف في نوبة حراسة على سور المدينة، فكانت النقطة في مقابل السيل لترده، مد آخر نتحدث عنه هنا، ونقطة تفجير، وكأن الموت حتى الآن فرض كفاية متى قام به البعض سقط عن الآخرين، وتجدد بضرب موجات جديدة في القصص التالية، "تطور" و "اغتيال"، حيث نجد الأصول والأشكال الأولية والنقية للانسان والموجودات، ال prototypes، تلك التي بناؤها بسيط ومكشوفة بلا دروع تحميها، المفتوحة على العالم، تتكلس لأنها لم تستجب لكل تلك الزخارف التي حظيت بها اللغة والسلالات التي تحورت بين زيادة ونقصان، وتتلوث إن نطقت بالشعر وطعنت الموت بمدية.

وبالحديث عن الأوليات، نكاد نجزم بأن هذه المجموعة كأنما وضعت لتجمع كل المخاوف البدائية للبشر، وخاصها هنا بالصور الفيزيقية منها والحيوانية باعتبارها الخوف الأقدم والأهم لوعي الإنسان البدائي كما في قصة "كابوس"، هنا افترض الكاتب أن السر في البقاء والمقاومة هو أن تخاف الشيء، ثنائية وجود الشيء سر فنائه وهذه العلاقة التي تحكم قصص هذه المجموعة، لذا عندما واجه أهل القرية كل خوفه الخاص استطاع أن ينجو، وعندما تبادلوا مخاوف بعضهم البعض هلكوا، لم يكن هناك ذاك الحذر أو الشغف البدائي الذي سبق وأشرنا إليه.

إن هذه المجموعة القصصية، في احتفائها بالنماذج البدئية، لتطرح نموذجا عن الأصل في الحكي، وهو أن يستجيب الكاتب للخيال والاحتمال، وأن يمضي وراءها في كل الدروب، فتظهر وكأنما هي حكمة حطت في هدوء، على خلاف "الحكمة" في قصة الذبابة الزرقاء، تلك المسمومة التي تستشري في بطء لنسمي هذه الحركة البطيئة حكمة، فنتبين كيف تنحر الكلمات لنلبسها لباسا غير لباسها في غير حكمة. وتختتم القصص ب "الذكرى" كملهاة قصيرة، عن فكرة الملك بين قيامه وزواله في زمن جزء من الليل.

إلى هنا، ينتهى عرض فصل في المجموعة، ليبدأ فصل آخر، نزعم أنه الأعظم والوعاء الأصل للحكي في هذه المجموعة، "طرح لم يشكل يابسة"، فيصفها الكاتب بأنها "ذرات لم تتراكم، ضربها الماء وجرفها الفيضان، لكنها أبدا لم تذب، بعضها سقط في القعر وبعضها بقى معلقا، شوائب تسبح في الروح والوعي"، وكأنما الكاتب يأذن لماء البحيرة أن يغمر الجزر والتجارب السابقة، انها ساعة تلاشي اليابسة وحينها، ليعلق القراء في هذا الغمر، في فصل الراوي الواحد الذي يتجول هنا بضمير المتكلم، هذا لا يعني ان الحكاية الحدث قد غابت، لكن القص هنا يتحول ليكون على مستوى الجملة في اللمحة السريعة وفي المجاز، اللغة تكاد تكون شعرا، لغة عالقة بين القص والشعر، يتحدث الفصل بتعالي عن فعل الكتابة ونقد الراوي للكاتب، وكأنما هو الفصل البرزخ، مصنع الحكايات والمخاوف والجلد الذاتي، ليعلو الماء مع نهاية المجموعة فيستوي الأمر ويختفي كل شيء.

لن نبالغ إن افترضنا أن هذه المجموعة تستدعي إرثا كاملا من لوحات ألبريخت ديورر وفرانسيس بيكون وأفلام ك Spirited away و The Fountain ومجموعات قصصية ك "حكايات للأمير حتى ينام" ليحيى الطاهر عبد الله.

مقالات من نفس القسم