العربي عبدالوهاب
هناك حيث يشتبك النور بالظل، والليل بالنهار، كانت قدماه تلامس بالكاد تراباً مرشوشاً بماء ينز من صبارات، منثورات أمام الشواهد، قامة شاهد جده، وأبيه، مرتفعة قليلا، بيد أن عينيه اللتين كانتا فى ذلك النهار الذى انكسرت شمسه، وتميل متكورة وسط بحيرة من الغياب الشفقى.. تتابعان جلال المشهد.
هناك .. لم يتمكن من الوصول القبر إلا عبر المرور من فتحات ضيقة تسمح بالكاد لفرد واحد، تلك الشمس الخريفية تتحرك مترنحة، تاركة كونا بسيطا ينساب إلى روحه بخفة باردة .. قرأ الإخلاص، والمعوذتين، ثم نقل يده ـ مبدلا الاشارة بإصبعه ـ من شاهد لشاهد رجالى آخر، ليس عاليا، يضم بين جنباته أخيه ـ وبانحنائة خفيفة يقع بينهما قبر جدته، وعمته؛ قرأ لشقيقه سورة الاخلاص ثلاثا، واضح أنه كان متعجلا ليلحق بالمشيعين، قبل إنفراط الجمع.
وبعد انسحاب قدميه ببضع خطوات، أحس بأن أخيه يرسل له نظرة لائمة، مما جعله يتراجع خطوتين للوراء، وأشار للقبر مرة أخرى، وتلا فى سريرته الفاتحة،
لعله يرضى…
رآه لم يزل عاقدا حاجبيه،
توقف أمامه شاردا، عاجزا عن إرضائه،
مراكب الذكريات كانت تتهادى فى فضاء من المروج الخضراء، وحفيف الهواء يمر من فوق نباتات الفول والبرسيم فى الغيطان، على مرمى بصره، يهزهم هواء خريفى، ويحثه على المغادرة.
يتراءى لعينيه نوار الفول لاهيا أمام تبدل الأجواء، فى الوقت الذى كانت روحه تسعى نحو الأفول،
الانسحاب فى نهاية الأمر لا مفر منه،
…… هناك أسفل (التوتة) كان يكيل بقدميه القويتين الركلات، وبيديه يوجه (البونيات) بعد تعدى الولد قريبنا علىَّ، هاهو أبوه يلوحُ على السكة بجلبابه السماوى، أقتربُ منه شاكيا، فيلاطفنى، ينهض أخى من فوق الولد منكسا رأسه، لما يلاحظ قدوم الأب؛ ساعتها نفضت جلباب الولد الذى اشتغل فى منصب مرموق فى مدينة العريش، بعدما أفلت منه التعيين فى النيابة، بسبب أهله البسطاء.
وأنت الذى ساعدته على نفض جلبابه مما علق به من تراب.
واضح أنك انتصرت، وكان الولد يحاول مداراة خسارته عن عينيَّ أبيه.
وابتسم والده لنا، ثم لاطف رأسى.
وقال: نحن أقارب على أية حال.
أتذكر؟!!!
أم تزاحمت فى مخيلتك المشاهد، بحفيف ورق التوت يومئذٍ، وإنمحت من ذاكرتك تلك الشقاوات الصغيرة.
ونبتت لديك ذاكرة جديدة،
ذاكرة متوحدة الآن مع مكان إقامتك الجديد؟!!!
ربما.
……………………….
*من مجموعة قصص (هذا مقعدك) ـ مطبوعات اتحاد كتاب مصر ـ 2022م
اقرأ أيضاً
الروحاني والفيزيقي فى المجموعة القصصية “هذا مقعدك” للكاتب “العربي عبد الوهاب”
الروحاني والفيزيقي فى المجموعة القصصية “هذا مقعدك” للكاتب “العربي عبد الوهاب”