د. نعيمة عبد الجواد
يحاول الإنسان دومًا الوصول إلى طريقة فعَّالة للتعامل بها مع أقرانه البشر، دون أن يقع تحت طائلة أحدهم أو يتعرَّض لألوان شتَّى من الظلم والهوان. وقد قد يعتقد البعض أن برامج التنمية البشرية التي عظُم انتشارها سواء على أرض الواقع في شركات أو مؤسسات مرموقة أو يتم بثَّها على وسائل التواصل الاجتماعي وليدة العصر الحالي، وأنها خير معلِّم لفنون التعامل مع الآخرين في عالمنا المعاصر الذي استشرت فيه جرائم أخلاقية تُقتَرَف بدم بارد. وأغرى النجاح الجماهيري العالمي الذي تحرزه برامج التنمية البشرية البعض لتأليف كتب تكون لقارئها مرجعًا حاضرًا لأي مناسبة يصعب إتختاذ قرار فيها؛ فكل فصل فيها وصفة عملية للتصرُّف السليم في أي ظرف شائك.
وأحد أشهر كُتب التنمية البشرية الحديثة كتاب “قوانين السُّلطة ال48” Laws of Power (1998) لكاتبه روبرت جرين Robert Greene والذي حقق نجاحًا جماهيريًا؛ لكونه دليلًا لاستراتيجيات تلافي معضلات يجابهها أي فرد في الحياة اليومية. وما يمتاز به هذا الكتاب أنه يضم الوصفات الأخلاقية واللاأخلاقية للوصول للمآرب الشخصية. ولربما كان السرّ وراء نجاحه هو تعليم الجرأة لمن لا يمتلكها عند المطالبة بحقوقه.
ولا يعدّ هذا الصنف من الكتب اختراعًا حديثًا، فهناك كتب عتيقة مماثلة، مثل كتاب “فن الحرب” لكاتبه “سان تسو” Sun Tsu. والذي ظهر تقريبًا في القرن الخامس قبل الميلاد، وهو كتاب مقتضب، وإن كان يقع في ثلاثة عشر فصلًا، كتبه قائد في الجيش الصيني ليكون بمثابة وثيقة لتعليم فنون واستراتيجيات الحرب في كل المواقف. ولقد أثَّر هذا الكتاب على استراتيجيات وفنون الحرب في شرق آسيا لقرون طويلة تمتد بما فيها العصر الحالي، لكن مع مراعاة اختلاف الزمان والمكان. وبسبب فاعلية جميع الاستراتيجيات المطروحة، وجد خبراء علم النفس والاجتماع إمكانية تطبيقها على التعاملات البشرية في الحياة اليومية. ولهذا، أصبح هذا الكتاب حاليًا ذو أهمية قصوى لمن يرغب في تعلُّم فن التعامل مع الآخرين. والاستراتيجيات العقلانية التي لا تتنافى مع قواعد الأخلاق والسلوك التي يحض عليها الكتاب أصبحت سببًا في تناوله وانتشاره وتطويع استراتيجياته طبقًا لاختلاف العصور المتعاقبة. وتعدّ سمعة الكتاب الحسنة، والتي اكتسابها لكون جميع وصفاته لا تتنافى والأخلاق، مما جعل منه مرجعًا لا يشعر الإنسان بالخزي عند الإشارة له، على عكس الحال بالنسبة لكتاب “الأمير” The Prince الذي ألَّفه الديبلوماسي والمنظِّر السياسي الإيطالي “نيكولو ميكيافيلي” Niccolò Michiavelli والذي يحض على اتباع أساليب غير أخلاقية للوصول للمآرب الشخصية، تحت شعار صار قولًا مأثورًا: “الغاية تبرر الوسيلة”.
والعجيب أنه بالرغم من وجود هذا الصنف من الكتب على مرّ العصور، لا يزال البشر يقعون في شراك الآخرين، حتى ولو كانوا ممن درسوا واتَّبعوا الاستراتيجيات التي تحض عليها هذه الكتب. فليس من السهل التعلُّم وفهم دروس الحياة القاسية من خلال كتب تتناول نظريات سياسية واجتماعية جامدة، وتظهر فيها المعلومات كسيل عرمرم يتطلَّب توافر وقدرة رائعة على الاستيعاب والتحليل. أضف إلى ذلك، لم تكن تلك المؤلفَّات مُتاحة إلا للنخبة في العصور السالفة. وحتى في العصور التالية أو الحديثة، لا يقبل على قراءتها إلا من هم على قدر من التعليم والثقافة، أو الرَّاغبين في تعلُّم محتواها بعد اختبار فاعليتها. لكن وجود هذا الكمّ من المعلومات القيِّمة في شكل حكاية لا ينقصها التشويق والمغامرة يعمل على زيادة نسبة الاقبال على قراءتها، واستيعابها. ولعل أفضل مثال على ذلك هو رواية “كونت مونت كريستو” Le Comte de Monte Cristo (1844) للكاتب الفرنسي “ألكسندر دوما” Alexandre Dumas (1802-1870).
ومن الجدير بالذكر أن رواية “كونت مونت كريستو” Le Comte de Monte Cristo منذ ظهورها في منتصف القرن التاسع عشر وحتى الألفية الثالثة لا تزال تحقق نجاحًا جماهيريًا مُبهرًا، والسبب ليس المغامرات الشيِّقة التي تنطوي عليها الرواية؛ فلقد كتب “ألكسندر دوما” أيضًا بعدها في نفس العام (1844) رواية “الفرسان الثلاثة” Les Trois Mousquetaires والتي أيضًا تحقق نجاحًا باهرًا، بيد أن هذا النجاح لا يضاهي نجاح رواية “كونت مونت كريستو” التي لا تزال مادة خصبة يتلقَّفها المؤلفين وصناع السينما والدراما المسرحية والتليفزيونية؛ ويكمن السبب وراء نجاحها كونها دليلًا شيقًا لفنون الحرب والانتصار على أعتى المشكلات والتغلُّب على الأزمات النفسية باستخدام استراتيجيات نتائجها مضمونة.
ومن أهم الاستراتيجيات والحيل النفسية التي يؤكِّد عليها “ألكسندر دوما” أهمية الصبر والهدوء من أجل التخطيط الدقيق للنيل من الأعداء؛ فالانتقام لا يمكن أن يكون عشوائيًا أو وليد فورة غضب. وكلَّما كان الانتقام باردًا، كلمًا أصبح من السهل على المظلوم أخذ حقَّه مضاعفًا بدم بارد؛ وذلك لغياب عنصر العاطفة التي قد تقوِّض الرغبة في الانتقام.
وهذا يضاهي ما أكَّد عليه “سان تسو” في كتابه “فن الحرب”، حين قال أنه يجب “الوصول لساحة القتال منتصرًا، فالنصر يُكتَب فقط للمنتصرين”، ويتأتَّى هذا الانتصار من خلال مراقبة العدو عن كثب ودراسته دراسة دقيقة لاكتشاف نقاط ضعفه، فمن خلالها يسهل اختراق صفوفه والنيل منه. وذلك مثلما فعل بطل الرواية “إدموند دانتي” حينما طبَّق تعاليم السجين الإيطالي “إيبي فاريا”، الذي كان قسًّا إيطاليًا ودارسًا على درجة رفيعة من العلم، لكن سجنه نابليون ظلمًا لإحجامه عن إفشاء مكان الذي خبَّأ فيه سيده ثروته قبل موته؛ فالأمانه تمنعه من الخضوع لطامع. وبالرغم من الحكم عليه بالسجن مدى الحياة في أسوأ السجون، لكن لم يتسرَّب اليأس إلى نفسه حتى حينما أفضت به خطته في الهرب – بحفر نفق إلى خارج السجن – إلى زنزانة سجين آخر. ولقد نقل “إيبي فاريا” الإيجابية والمرونة عند التعامل مع الأزمات إلى “إدموند دانتي” الذي كان اليأس نال منه بعد سجنه لست سنوات، فرغب في الموت. لكن بدَّل كل هذا لقاؤه بالقس الذي علَّمه أن الذهاب إلى أعداءه منتصرًا يقتضي تسليحه بالعلم أولًا، حتى يستطيع استخدام عقله بطريقة صحيحة سواء عند الانتقام أو عند إظهار شخصه الجديد علنًا. وعلى عكس كتاب “الأمير” و”قوانين السلطة ال48″، كانت رسالة القس ل”دانتي قبل موته” أن يستخدم ثروته في فعل الخير بعد الانتقام من أعداءه.
ووفقًا ل”دوما”، اتباع استراتيجيات التي لا تتنافى مع الأخلاق وعدم اللهث وراء السيطرة على الآخرين بطرق غير شرعية هي السر وراء النجاح المحقق، تمامًا مثل كتابي “فن الحرب” وأغلب كتاب “قواعد السلطة ال48″، وإن تفوَّق عليهما “دوما” لإضافته حبكة مشوِّقة لوثيقته التعليمية.