فصلٌ من رواية “ليلة يلدا” لـ غادة العبسي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 38
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

غادة العبسي

 

“أنتَ عظيمٌ،

وأنا كالنملةِ

في كفِّ سليمان!

حافظ الشيرازي”

في حلقةِ الإمام قوام الدين، تعلّمتُ القرآن الكريم بالقراءات السبع، وتعجبتُ من قدرة الله الذي أجرى العربية على لساني الأعجميّ. كان شيخي يُنهي معنا الدرس بين حفظٍ وتفسير ثم يلقي علينا أشعاراً عربية وفارسية. كان شيئاً عظيماً وهائلاً هذا الشعر، الذي يُلقَى في الحلقة بعد تأدية الصلاة وبعد الفراغ من الدرس. كان يشبه نهاية الطريق، عندما نصل ونستريح. كان بمثابة الاطمئنان الساري في روحٍ أرّقتها الأيام الطِّوال..صوت الإمام يعبُرُ الإيوان وأعمدته المرمرية، ويعانق هواء الصحن الفسيح. تحلّق الأبيات البديعة في سماء شيراز، ويقف طالب علمٍ دون الخامسة عشرة في منتصف الصحن ينتظر أن تمطره السماء بالكلمات العذبة مجدداً، لتعود إلى قلبه هو لا إلى شيخه. يعيره الهواءُ الحروفَ والهمزات والحركات، تتنزّل عليه تنزيلاً، فيطيرُ الحرفُ إلى الحرف والكلمة إلى الكلمة والبيت إلى البيت إلى أن يتكوّن بدن الشعر..

ولمَ لا؟

في المساء، سوف يرتدي قباء الصوف الناعم ويذهب إلى مجلس الشعراء، هنا في حديقة الورد، ويستمع إلى العازفين والمطربين، ويأخذ دوراً في إلقاء الشعر مثلهم، يراهم وهم يتمايلون على تغريده، ويصفّقون ويصيحون ويباركون هذا الشاعر الجديد الموهوب!

وبالفعل دخلتُ المجلس بثقةٍ واعتزاز، سمعتُ كهلاً يعزف الكمانـﭽـه[1]، يقول لعازف (سه تار) صغير السن:

-اضرب أولاً شيئاً في نغمة (الراست) ثم غنِّ على الرسم بكل مقامٍ،مننغمة (العراق) ونغمة (العشاق) ونغمة (أصفهان) إلى نغمة (النّوا) ونغمة (الحُسيني)[2] لتؤدي شرط الطرب..وتذكر أن هذه الأوتار أُعدّت على طبائع الناس الأربعة..

ثم هتف الجمع يطلبون لحناً بعينه:

(ماه أبهر كوهان..ماه أبهر كوهان) 

القمر فوق الجبال..

يا لها من ليلة..

وعزف العازفون وغنّى المطربون، ضحكنا ولكننا بكينا أكثر. كنتُ في حاجةٍ إلى صحبة أتكئ عليها إذا فاض القلبُ والدمع، فهبط الشعرُ من أعلى كما فعل من قبل. طار الحرف إلى الحرف والكلمة إلى الكلمة والبيت إلى البيت وتكوّنت الغزلية. قلتُ بصوتي المتأرجح بين الطفولة والرجولة:

إنني عاشقٌ وفقير

لا مال لي

ولكن لي الشباب والربيع الخالد

هي أعذاري إليك

فغض الطرف عن مولَّهٍ سكران!

انفجر الجميع في الضحك، سألوني عن اسمي. كانت دموعي تنهمر بلا صوت، كل الدموع التي كان يجب أن أذرفها عندما مات أبي وبعد أن رحلت وجْد، أجبتُ وليس على لساني سوى أنني حافظٌ لكتاب الله، فكيف يسخرون مني؟

-أنا حافظ!

ضحكوا مرةً أخرى، وظلّوا يكررون ما قلتُ ويقولون: لم نسمع شعراً أسوأ من هذا، نصحوني بألّا أقتحم مجالس الشعراء مرةً أخرى، وإن كانت لديَّ الشجاعة الكافية لتكرار هذه التجربة فعليّ أن أستمع إلى السادة في صمت، وإلا قطعوا لساني!

-أنا حافظ!

شعرتُ بثقلٍ مفاجئ، كائنٌ هائل يجثم على صدري، صرعني وطرحني أرضاً. الدوار يلّفُّ جسدي ويتلاعب بحواسي. الأشياء، التي تبتعد أراها غائمةً ولكنها تصير أكبر، مازلتُ أسمع ضحكاتهم المتهكّمة ترن بوضوح في أذنيَّ، تزحف فوق جسدي وتلتهم أحشائي، تطغى على صوت كروان الليل الشيرازي، وأصوات الذاكرين في الخانقاه القريبة.لا، إنها تمتزج بنبضي وتخرج مني أنا! أنا مَن يضحك ويعلو صوته!

ظللتُ ملقى على عتبة حديقة الورد، لا أشعر بشئ، ولا يشعر بي أحد وسط كل هذا الصخب، ثم استيقظتُ لأجدَ نفسي في مضجعي. لا أعرف كيف جئتُ إلى هنا، ولا أتذكر سوى أصواتهم الساخرة وأنا أقول هذا الشعر، يجب أن أسترجع ما حدث، ولكن لا فائدة..لا أستطيع!

قبل أن أفيق من تساؤلاتي وحيرتي، وقبل أن أُسلم عينيّ للبكاء حزناً على ما حدث لي في مجلس الشعراء، وجدتُه أمامي يبتسم، كان شيخي قوام الدين، فما إن رأيتُه حتى قفزتُ وارتميتُ في أحضانه أقبّل يديه وأبكي..ربّت على كتفي وقال لائماً:

-كيف لك أيها العبد أن تبكي بين يديّ مخلوق؟ فكيف تدرك أن ربَّك الخالق وحده ذو الجلال والإكرام؟

قم يا شمس الدين، افزع إلى رحمة ربّك يا بنيّ!

-لقد سخروا مني ومن شعري يا إمام!

-أيأبى العبد أن يؤتى له يوم القيامة بصحائفَ مملوءة بالحسنات ويؤمر فتوضع في كفة ميزانه؟ يا بنيّ، ماذا رأيتَ اليوم في مجلس هؤلاء القوم؟

-رأيتُهم وقد ارتدوا أبهى الحُلل، وتعصّبوا بأجمل العمائم. لقد رأيتُ الجواهر تُخفِي أصابعهم وتتدلّى من جباههم. رأيتُ دنانير الذهب تتساقط فوق الرؤوس. لقد أبصرتُ ما كاد يُذهب عقلي!

-وماذا ترى اليوم من الحكّام والأمراء في شيراز؟

-كل يومٍ معركة، كل يوم قتَلة وقتلى، الدماء تلطخ أيديهم على الدوام..

-إنك لم ترَ شيئاً بعد يا شمس!

كن مستعداً..

ولكن حاذر من الدنيا وبريقها الزائف..

لا نجاةَ يا ولدي من دون هذا.. لا نجاة من دون هذا..

كان يشير شيخي إلى المصحف الشريف بين يديه وكنتُ أبكي وأنا أتذكّر اسمي الجديد، الذي اخترتُه لنفسي.. 

-نادِني حافظ يا إمام!

-حافظ! أنت حافظ كتاب الله!

بارك الله فيك..بارك الله فيك يا حافظ..

كفكفتُ دمعي، ووقفتُ بين يديّ خالقي، كنتُ حزيناً ولكن سخطي أكبر.. ربما بعد كل الذي حدث يجب ألّا أكرّر تلك المحاولة مرة أخرى، ألّا أنتظر الشعر عندما يأتي، بل أتركه وأمضي وحيداً، أتأمل كيف أنصفتني العربية وخذلتني الفارسية! أنظر الآن ورائي، أسترجع كل ما حدث، أحاول حذف كلمة واحدة خرجَت من أفواههم أو مثقال ذرة ألمٍ أحسستُ بها ومزّقَت أوصالي، لا أستطيع!

ما هذا القدَر المُحكَم والذي لا فكاك منه إلا إليه؟

سنظل ندور مع تلك الأرض، ونلعن كل هذه المحن، التي لا تصيب أحداً سوانا، ثم تأتي لحظة ندرك فيها الحقائق ونجد حلولاً لألغاز الحكمة غير المفهومة..

ولكني مازلتُ أهوى الشعر، مأخوذ برجع الصوت في صحن المسجد، لماذا تردّنا الأشياء، التي نحبها عنها، ولماذا لا أجد سوى السخرية والمنع في ذلك المجلس القاسي، أو كلما مررتُ بخزانة الكتب؟ قال معلّمي إن فيها من كل صنوف العلوم. حاولتُ الدخول مراراً ولكن خازنها يردني في كل مرة،قائلاً:

-تلك لا يدخلها إلا وجيهٌ من الوجهاء أو عالم من العلماء!

كيف أدخل المجالس وخزانات الكتب وأنا لستُ سوى طالب علمٍ، يتلمّس طريقه في الظلمة الحالكة؟

شيراز ما أقساكِ!

أيّ القلوب تنير هذه المدينة الحزينة؟ أين هي قلوب العلماء والشعراء والفقراء؟ 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]الكمانـﭽـه: آلة موسيقية المعروفة الآن باسم الكمنجة أو الفيولينه.

[2]الراست والعراق والعشاق وأصفهان والنوا والحسيني كلها أسماء لمقامات موسيقية.

*الرواية الثالثة لروائية المصريّة “غادة العبسي” .. تصدر عن دار التنوير ـ معرض القاهرة للكتاب 2019

مقالات من نفس القسم