عين ميم..من المجموعة القصصية الفائزة بجائزة الهيئة العامة لقصور الثقافة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نادين أيمن

 

 

استيقظ المواطن "ميم" قبل أن ينظر في مرآة الحمام ليجد تجويفَين مكان عينَيه يحتلُّهما السواد, حاول أن يغسلَهما؛ كي يزول عنهما ما أصابهما, فتصاعد خيط سميك من البخار مصحوب بالصوت الناتج عن احتكاك الذرات الساخنة بالباردة, مدَّ أصابعه كي يجلب عينَيه الضائعتين في الهُوَّتَين؛ فصرخ كثيرا, ونظر ليجد أطرافه قد ذابت مقدار عُقلة أو اثنتَين. كانت عينٌ منهما - هذا ما اكتشفه بعد بحث دام حوالي ساعة و نصف - قد تدحرجت إلى أن استقرَّت فوق البالوعة الموجودةِ إلى جوار المرحاض, وقد امتزَجتْ ببعض الشَّعر الملفوف المتسخ بمياة الصرف, ذلك الناتج عن تمشيط زوجته شَعرها المبلَّل بعد الدُّش المثلج, أما الأخرى ففي الحقيقة لا يدري مستقرَّها. التقط عينَه، ووضعها في كوب زجاجي ممتلئ نصفه بماء مالح, وضغط زر السيفون إلى أسفل...

التقَتْه زوجُه “سين” بشَعرها الهائش، وقميصها الكاشف عن بياض نهدَيها بتحية محمَّلة ببقايا النوم, وعندما لم تتلقَّ أيَّ رَدّ, رفعتْ رأسَها إليه, فلم تنزعج أو تشهق؛ بل زمَّت شفتَيها, وذهبتْ لتكمل نومها المبتورَ. انتفضَ غضبا، وشرَع في الصراخ كي يلفِت انتباهَها، أن وجهَه بلا عيون, لكنها انبطحت على وجهها، وخرَق شخيرُها أذنَيه…

قبل يومَين: “عيناي تسَّاقط مرَّاتٍ عديدةً، بينما أجِدُّ السير، فلا يوجد معي ثمن الركوب, ولا حمارا أعرجَ أمتطيه علَّه يرحم طقطقة عظام قدمَي، تمنيت لو أنهارُ في غيبوبة طويلة؛ فأستيقظ لأجد نفسي في فِرَاش ما، مقدَّم لي عصيرٌ مثلَّجٌ, أستمع إلى اسطوانتي المحبَّبة, تدعوني فتاة ترتدي فستانا قصيرا تقف في منتصف الغرفة, فأطوِّق خصرَها بذراعَيَّ، وتختال خصلات شَعرها الحريري مداعِبةً حقول ذقني الخصبة, ربما كُتِب عليَّ أن أهيمَ في الطرقات للتكفير عن ذنب ما…”

يحمل عينَيه المائعتين من فوق الأرض المتَّسخة, ويضعهما في حقيبة ظهره آسفا، ويقرِّر أن يواصل سيره بلا عيون، حتى يصل إلى أقرب سبيل، فيغسلهما بالماء الفاتر, ويزيل عنهما احمرارهما، وما علق بهما من أوساخ, ويثبِّتهما مرة أخرى في تجويفَي وجهه، يسند رأسه إلى الحائط المجاور لصيدلية موجودة بأحد الشوارع الجانبية، الأرض متربة، وثيابه طالَتْها عفرةُ الطريق، لا يبالي بتقلُّص ذرات الأوكسجين بالهواء، ولا بالشمس الحارقة، أراد أن يصرف الروشتة المكتوبة بخط يده, ويحصل على الدواء الذي يضمن له استقرار عينَيه, ولكنه خشى أن يحرِّك رأسه، أو يميل إلى الأمام قليلا, فتتدحرج عيناه خارج وجهه، وتذوب، وتتَّحد ذراتها مع الأسفلت، الذائب بدوره، وتتكوَّن عينان من الأسفلت، لا يتقبَّلهما وجهه, إضافة إلى صرفه آخر مليم على بلسم الشَّعر المرطِّب الذي طلبتْه “الست سين”. يرتدي ثيابَه في عجلة، دون الاهتمام بتمشيط شَعره، أو تلميع حذائه, ويمسح صحنَ الفول البائت بلقمة خشبية, وقبل أن يقفز إلى سلالم المنزل المتهالكة, مدَّ أصابعه داخل الكوب المالح ممسِكًا بعينه النقيِّة، وثبَّتها في إحدى التجويفَين.

اتجه “ميم” إلى المصلحة التي يعمل بها، وحيَّا زملاءه بابتسامة باهتة…

– هي عملتها معاك تاني؟

– اه.. بس المرة دي مش لاقيها.. قلبت عليها الشقة

– الله يعوض عليك

– المهم, جابر وصل؟

– من زمان.. الحقُه قبل ما يقفل الخزنة

هرع ميم إلى الخزينة لاستلام راتبه النحيف. بينما هو في المتجر يبتاع لوازم المنزل من زيت وسكر وأرز, نظر إليه موظف الكاشير متسائلا: لماذا لم تفقد الثانية؟

ارتبك “ميم” ولم يجد جوابا. جاء سؤال الرجل مخيِّبًا لتوقعاته, فقد ظن أنه سيشفق على فقدانه الأولى, ولم يخطر بباله أنه سوف يتعجَّب من عدم فقدانه الثانية, بعد مرور بضع ثوان، وقد تدراك ارتباكه, ردَّ بأن – ربما – الوقت لم يحن بعد..

          على خير يارب

استشاط ميم… – وإيه الخير في كده؟ انت هتجنِّني؟

– وإيه الخير في إنك تمشي بعين واحدة؟ عاجبك منظرك كده؟

– ده بدل ما تدعيلي إني ألاقيها؟

قهقه البائع بفجاجة، وحَكَّ ذقنه, ثم ناوله المتبقِّي من المدفوع, وبدأ يُجري حديثا مع الزبون التالي, وكأن “ميم” ليس له وجود بالمتجر, بل كأنه لم يدخله على الإطلاق. عندما وصل إلى المنزل شاهرا المشتريات بفخر أمام زوجته, كانت جالسة تشاهد التلفاز بتركـيز مبالغ فيه, وكأنها لا تحفظ سيناريو الفيلم الذي شاهدته عشرات المرات, تحتسي بالملعقة شيئا ما, يبدو دافئا, ويتصاعد منه خيط سميك من البخار..

– جبتلك…. بتاكلي ايه؟

– ……….

– سين أنا باكلِّمك.. اقفلي الزفت ده!

قامت سين برفع صوت التلفاز حتى أقصاه دون أن تعيره أدنى انتباه, وأخذتها نوبة من الضحك الهستيري.

 

 

*نادين أيمن:  روائية وقاصة مصرية.

 

* من مجموعة “هلوسة الرأس المقطوع” الفائزة بجائزة الهيئة المصرية لقصور الثقافة.

مقالات من نفس القسم