عن الفن “المستقل”

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

  كان "أودورنو"، رغم ماركسيته، يرى أن بريخت (مثل سارتر) تعليمى بصورة زائدة، ومربِ أكثر منه فنانا بكثير، رغم توظيف بريخت الفن لأغراض سياسية يسارية. أما بيكيت وكافكا على الرغم من غياب أية رسالة سياسية صريحة لديهما، فهما فنانان "أشد أصالة وأعمق التزاما"، فهما "يثيران الخوف التى تكتفى الوجودية بالكلام عليه". خوف هو " حقيقة الأشياء فى هذه اللحظة" بتعبير آلن هاو. إن " قوة أعمالهم تفرض تغيير الرؤية والموقف اللتين يطالب بهما فقط الفن الملتزم".

  يبتعد أدورنو عن الثنائية البسيطة التى تقسم الأعمال الأدبية بين الثورى والمضاد للثورة وبين التقدمى والرجعى، وفق الالتزام بمبادئ سياسية و إيديولوجية معينة. لهذا لم ينظر إلى أعمال بيكيت ويونسكو كما رآها الروائى  صنع الله ابراهيم مثلا ( كما يقول فى مقدمة روايته الرائعة “تلك الرائحة”) بوصفها أداة ترويج فى يد المعارضة اليمينية للنظام الناصرى، التى كانت تسيطر على منافذ النشر والإعلام فى البلاد. بينما يونسكو نفسه يصرح فى حوار شهيرمع صحيفة الفيجارو قائلا: “أردت أن تحتوى مسرحياتى على فضح الآلية والفراغ… لقد حاولت أن أقدم شخصيات تبحث عن حياة…. وهذا هو اللامعقول، أن يكون الناس منفصلين عن أصولهم يبحثون عن أنفسهم يائسين…”..( ورواية تلك الرائحة نفسها لم تفلت من هذه الثنائية، حيث رآها البعض وقتها كخيانة للفن “الملتزم”، قبل أن تصير أيقونة سردية فى رصدها للقمع وسطوته على وعى الفرد).

  إذن.. أين تكمن الطاقة الاحتجاجية لأى نص ؟

    تحقق النظرة “المساواتية” لطرائق الكتابة القدرة على دحض مثل هذه الثنائيات : الرجعى/ الثورى ،والجمالى/السياسى. فأعمال ماركيز التى وُجهت إليها الاتهامات وقتها، من قِبل البعض،

بأنها تحمل سمات الهروب من الواقع الديكتاتورى، صارت نموذج يحتذى به الآن، لدى كثيرين، كأقصى تعبير ممكن عن واقعنا المماثل. أصبحت أعمال دوستويفسكى و كافكا، التى طرحت السؤال الوجودى بشكل مفارق، تُرى كإرهاصات للثورة والمستقبل أكثر من جوركى و غيره.

   ربما لهذا تبدو الرواية ( وشعر الفصحى بشكل كبير أيضا) الجنس الأدبى الأكثر إشكالية فى التواصل مع الثورة، لأن مايجعلها شكلا أدبيا “ديموقراطيا و مناهضا للشمولية” كونها لا تجعل أى موقف إيديولوجى أو أخلاقى بها معصوما من الطعن فيه ومخالفته.

   نحو تفكيك السلطة كقيمة، حيث “فك أنساق الفكر القمعى”، بتعبير إيجلتون، برفض الرواية أو العمل الفنى تكوين سردية قمعية جديدة تبتغى الكليانية، بدلا من التعويل على معادِلات أو مرادفات سردية مبتذلة عن السلطة، أو صيغ نمطية عن الدكتاتورية والاستبداد.

  الفن المستقل يتسم بصفة هدامة تتحدى ،عبر تقنياته، الوضع القائم. وما تبديه الكتابة الجديدة (قبل الثورة وبعدها) من تحدى، ليس سخطا أو احتجاجا، أو “إعلان وقوف مع هذا وضد ذاك”، وإنما هو الشكل والكيفية التى تتخذ بها مواقف معينة بالعلاقة مع المجتمع، وتحديها لمعايير المؤسسة الأدبية التى تنبنى وفق السلطة الحاكمة و حُراس الخطاب، خرقها للمفهوم القديم للأدب الرفيع وتحفظاته التى يفترض أنها قابلة للنقاش ومتغيرة تاريخيا. ولا يزال أمام الكتابة الجديدة الكثير، للوصول إلى الحرية المطلقة فى التعبير الفنى، وكتابة الثورة، حيثما لا يتوقعها أحد.

……………………….

*خاتمة مقال طويل بعنوان :” الأدب والثورة: جماليات المقاومة”، نشر فى مجلة ابداع عدد يناير 2015

  

مقالات من نفس القسم