عصافير الكلام.. أعشاش الصّمت: قراءة في كتاب ” بدء لا ينتهي”*

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سميّة عزّام*

أحاديث متناسلة ترفض التّأطير في شكل نهائيّ، تتناسج علّها تشكّل فصولًا من رواية تنحلّ من حبكة توثق أطرافها. هي حوارات متدفّقة كما الحياة التي لا يعلن توقفها الموت – مجازًا – لأنّ للأفكار أجنحة تحلّق بها عبر الأزمنة.

بعيدًا من التّجنيس الأدبي، يشي عنوان الكتاب “بدء لا ينتهي” الصادر عن الدار العربية للعلوم، لصاحبته نازك الحلبي، بسمة الّلاانتهاء في الحوارات التي تقترب من الدردشة اليوميّة، في أسلوبها وتلفّظاتها. أسئلة مضمرة تقود إلى إجابات ممكنة لا إطلاقيّة، بغيتها تأويل الحياة، في عناوين جزئيّة منثورة كأنّها ومضات تضيء ما ينغلق على فهم العلاقة بين المرأة والرّجل، وفهم رؤية كلّ منهما إلى شؤون الحياة وتفاصيلها وتمظهراتها الاجتماعيّة، انطلاقًا من ذات “متسائلة” تبوح وتحاور بقصد الكشف والمساءلة ، متشرّبةً بفلسفات روحيّة متعدّدة الاتّجاهات. فمفهوم ثنائيّة اليين واليانغ الصّيني في علامة الحياة نشدانًا للاكتمال الإنسانيّ ماثل بقوّة؛ إذ هو السّلك الذي يربط جلّ العناوين: “ليلها ونهاره”، “بين القلب والعقل”، و”بين حياتنا والطبيعة”. ومبدأ العناصر الأربعة الإغريقي القديم في تكوين العالم في  “وجوهنا الطّينيّة”، وطيف الرّواقيّة في مسألة التّناغم أو الهارمونيا بين الإنسان وبيئته، ودروب التّاويّة في تأويل مظاهر الطبيعة – الأم –  والاندراج في نواميسها، جميعها تُلمح في تضاعيف الحوارات، محدثةً “فُرجة في غابة كثيفة الظلال” على ما يعبّر الألماني مارتن هايدغر في “طرقه”.

ثمّة عناوين تطرح أسئلة نسويّة: “بين الصمت والكلام”، و”الحب بين الوهم والحقيقة”، و”هل يخاف الرجل المرأة الذكيّة؟”، و”كما أريد أو كما يريد المجتمع”. إذا كانت بنية أيّ نصّ تنجلي عبر الإجابة عن سؤالَي: علامَ يجري الكلام؟ ولِمَ؟ فإنّ الرؤية من منظور إيديولوجي تبين مأزقيّتها في تلك الإجابة، لا سيّما حين يخاطب المحاور”هو”  المرأةَ “هي” بالقول: “أصبحتِ صمتًا يتكلّم”. في رفض السكوت رفضٌ للمسكوت عنه. وما نحن إلّا حوار!

تسود هذه المسامرات نقاشات؛ إذ تجادل المرأة جلال الدين الرومي في قوله: “أيّها الفم، إنّك بوّابة الجحيم”، لتكاشف الرجل بأهمّيّة الكلمة ودورها: “في صمتكَ جوع..  يستطيع هذا الفم أن يكون بوابة الجنّة، كلمة طيّبة”، في تناصّ مع الآية الكريمة ﴿ألم ترَ كيف ضرب الله مثلًا كلمة طيّبة كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السّماء﴾ (إبراهيم:24)

في الكلام والإصغاء ثمة حوار بين روحين وقلبين، وثمة صوتان يتجاوران حينًا، ويتناءيان حينًا آخر، بيد أنّ في هذا الحوار إخصاب يفضي إلى تحوّل، وتعديل وجهات النظر. فالحقيقة، كما يرى إليها أفلاطون، حوار الروح الصامت مع النفس؛ وفي الإطار عينه يجد هايدغر أنّ اللغة تحدث في الحوار، وإنّنا حدوث اللغة.

تطالعنا إحدى المسامرات بتمنّي السفر إلى الّلامكان، إلى مكان لا يحمل رحيل البشر. هي أمنية تطوي أسى المهاجر، وخيبته من صفعات الزمن المتلاحقة. غير أنّ الحلم بحياة جديدة بلا ماضٍ ولا ذاكرة من خلال الهروب من الأمكنة، تفضي إلى نتيجة معاكسة؛ إذ تجد الذات أنّ الأمكنة ومن سكنها تسكنه وتطارده بذكرياتها، كما يتناهى الصوت الأنثوي المهجري إلى مسامعنا – نحن المقيمين. مسامرات لم تكن ثرثرة، بل انتظار لحدوث الحقيقة، في التعبير الأنطولوجي، وإبحار في الزمان زورقه الحبّ والاحترام: “شيء ما يجعل اختلافنا ممتعًا، هو الحب والاحترام”.

  “بدء لا ينتهي” قد تكون البدايات معلومة، لكنّ النهايات كمثل الليل والنهار في تتالٍ لانهائيّ يرتسم بحركتهما الزمن في أبديّته: “لأنّني الليل وأنت النهار، فإنّ لقاءنا قصير كخيط الفجر، لكنّه دائم”. هي يوميّات حواريّة خارج “ابتذال اليوميّة”، علّ النّفس تلقى من تسكن إليها، وتنقش المرأة – بخاصّةٍ – ذاتها في أصالة زمنيّتها.

……………………

* لمؤلّفته نازك الحلبي يحي، صدر عن الدار العربية للعلوم، طبعة 2016.

* كاتبة من لبنان – المعهد العالي للدكتوراه (نقد حديث/ سرديّات)

 

مقالات من نفس القسم