بعد أن استمعا لبياف أكثر من مرة عادت مريم إلى الهدفون واستكملت رحلتها الغنائية بأغنيات من الموبيل خاصتها، وعادت السيدة لكتابها الذي اختارته لتقرأ فيه خلال مشوارها الطويل من “المنيل” إلى “مصر الجديدة”، وعندما وصلت السيارة إلى حديقة الأزهر كانت قد اندمجت مع أفكار ” باري مايكلز” التي يطرحها في كتابه “الأدوات .. خمسة أساليب مغيرة للحياة “
يقول مايكلز : نحن نحمي أنفسنا وراء حائط خفي ولا نغامر بالخروج من ورائه لأن الألم قابع خلف هذا الحائط وتلك المساحة الأمنة تسمى ” منطقة الراحة” وفي أكثر الحالات حدة يختفي الأشخاص خلف جدران البيت الحقيقية خوفا من المغامرة بالخروج للعالم الخارجي ، وهذا ما يعنيه مصطلح رهاب الخلاء، ولكن بالنسبة لمعظمنا لا تمثل منطقة الراحة مساحة مادية بل تمثل أسلوب حياة نتجنب أي شيء قد يكون مؤلما ، من منا لم يتخل عن شيء مقابل تجنب الألم .. تقديم أفكار جديدة ، تجربة أشياء مبتكرة ، نسير في الجانب الآمن حيث لن يهاجمنا أحد ولن يسخر منا أحد “
مرت السيارة بمشيخة الأزهر، فبدت لها المشيخة من خلال العبارات القوية الصادقة “مايكلز” على عكس الهيئة البنائية المهيبة التي تحتل مساحة كبيرة من المكان، كنعامة تدفن رأسها في التراب وكسلحفاة تحتمي بقوقعة تثقل ظهرها وتجعلها تصل دائما متأخرة بعد انتهاء السباق، و كعجوز مترهل فقد استمتاعه بالحياة أحيانا، وتواصله معها كثيرا.
لا يبدو الأزهر حصنا للإسلام، ينطلق منه المسلمون إلى أفاق أرحب، فيلمسون النجوم ويصعدون للقمر ويطوفون المجرات، لكنه مجرد مكان يختبئ فيه الذين يخافون الألم، يخافون المواجهة ، يخافون الحياة ويركنون إلى “منطقة الراحة” حيث تروس .. قال السلف ، وأجمع الأئمة ، والمعلوم من الدين بالضرورة. الموائمة والترقيع مهارة يتعلمها الأزهريون وعيونهم متعلقة لا بالله ولكن بأولي الأمر، مصريون حد الفرعنة ،عرب حد الناس على دين ملوكهم.
و خارج “منطقة الراحة ” يبدو إيمان رجال الدين هشا وغير قابل للجدل، ثوابتهم مضطربة غير قابلة للاختبار أو المحن ، تتهاوى أمام ضربات النقد أو التجريح ، يخافون الضحك ، الاستهزاء والسخرية ، يستخدمونها أحيانا كأسلوب للسخرية والاستهزاء بمن يحاول الاقتراب من موروثهم ، من عمامتهم أو حتى جلبابهم الوهابي. لكن الضحك والسخرية ليسا مجرد نكت على المنابر أو في الفضائيات لتزجية الوقت والترويج لبضاعة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب ، السخرية منهج يجعل كل الأشياء قابلة للتمحيص للفحص، دون قداسة موروثة ، هذه السخرية التي يخافها رجال الدين خافها من قبل رجال الدين المسيحي في أوروبا في العصور الوسطى ، وكانوا يحرمون الضحك على من ينضم لسلك الكهنوت .. هذا الخوف قاد بعضهم إلى الإثم والمعصية والقتل كما صور الروائي والمؤرخ “البرتو ايكو في روايته “اسم الوردة” 1980 قبل أن يتحرر العقل الأوروبي من هيمنة كهنوت رجال الدين، ويتحررون من عقدة السقوط وهبوط آدم من الجنة إلى الأرض. فيما نحن مازلنا أسرى الخوف الدائم من شجرة المعرفة، من التجريب، من التجديد. لماذا كل جديد هو بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ؟
يبدو وكأن ديننا أضعف ما لدينا نتعامل معه كأنه عورة غير قابل للفحص والتدقيق. بأي اسلام نؤمن وبأي سلوك نعيش؟ لماذا يبدو الاسلام في بلادنا وكأنه ليس إلا مجموعة من الحدود ؟ و كيف نؤمن أنه دين صالح لكل زمان ومكان ونحن نعيش به في كهوف مظلمة تحرم كل ما أنجزته البشرية من تراث انساني في الثقافة والفكر والفلسفة .
لكي يكون الدين صالح لكل زمان ومكان عليه أن يكتسي طابع هذا الزمان .. روحه، أدواته، ألياته.
نحن أخذنا من التقدم التكنولوجي ما يريح أبداننا .. السيارات، الطائرات، الكمبيوترات. وأغلقنا عقولنا دون المناهج التي أنتجت هذا التطور فصرنا عالة على الحضارة الانسانية. نعيش في فقر ليس ماديا فقط ولكنه فقر روحي يجعلنا لا نتفاعل ولا نتبادل الخبرات الانسانية مع الشعوب الأخرى.
كيف لرجال يدعون معرفه الله أن يشغل بالهم النساء والمال .. كيف شهوتهم من صلاتهم وصيامهم وقيام الليل؟ ، كيف لرجل في هذا الزمان يعرف الله .. أن يأكل مطمئنا أن ما يأكله حلال؟، بل و يأكل ما يزيد عن حاجته ويفيض فتجده لا يكنز الذهب والقضة فقط بل يكنز دهونا في بطنه وعلى كبده، بينما الملايين من المصريين مستحقين للزكاة، مجسدا مخاوف الشاعر اليوناني سكوكوس كونستندينوس :
إلى واعظ عظيم البطن
عظتك يا سيدي جميلة
رائعة ومؤثرة
خطبتك تمس شغاف القلوب
إلا أن بطنك الكبير المترهل
” يدخلنا في التجربة”
لماذا رغم امتلاء المساجد، ينتشر الكذب والنفاق والجبن والخوف؟ وينتفي الاحساس وتضيع قيمة العلم والعمل .. ما الذي نقدمه للأرض غير تلويثها وإنجاب المزيد من الذرية تأكل ما يستورد وليس ما نحرث، لسنا خير أمة أخرجت للناس، وليس ما يقدمه لنا رجال الدين هو الاسلام ، بل هي رؤيتهم وما يعرفونه عن الاسلام .. وهذه الرؤية لم تنتج سوى الإخوان الخونة والسلفيون المنافقون و الدواعش القتلة وعامة لا يتورعون عن قضاء حاجتهم عند أقرب حجر.
لماذا كل هذا الشقاء؟ كل هذا السخط؟ كل هذا الغضب؟ أي جثة نحملها على ظهورنا ؟ فلا نكرمها بدفنها ولا نحاول إحياءها ، بل نظل ندور و ندور و ندور.. حتى نسقط جثثا وتظل قبورنا مفتوحة.
استغرقتها أفكارها، فأغمضت عينيها ، فشعرت بالصمت يملأ أذنيها، التفتت إلى ابنتها وجدتها قد نامت، اقتربت منها ، كانت الطفلة نائمة ووجهها ساكنا، مستريحا، كانت في حيرة هل تضمها إليها أم تتركها، كانت قلقة من أن يعكر هذا السلام أية حركة حتى محاولة ضمها. أشارت للسائق ألا يسير بسرعة، خافت عليها من هزات العربة في المطبات المنتشرة بعرض شوارع القاهرة، وضعت يدها على صدر الطفلة وباليد الأخرى كانت تحمي عينيها المسبلتين من ضوء الشمس ، كان وجهها قريبا جدا منها، وكفها غيمة تظلل وجهها .. لم ترى ابنتها وجهها المتعلق بها ، ولم تري يدها تدفع عنها شمسا يتغير اتجاهها مع تغير حركة السيارة من شارع لآخر، وعندما استيقظت حبيبتها عند مدخل السنتر : قالت : ياه أنا نمت.
– فعلا..
– هزة العربة صحتني.
– صحيح ..
لم تحكي الأم لابنتها عن مشاعرها وعن خوفها عليها ، كانت ممتلئة بالشغف وتغلفها سكينة ففي الدقائق القليلة التى لم تفارق عيناها وجه ابنتها.. رأت الله.. وكيف رحمته التي وسعت كل شيء ، وكيف هو بعباده، الذين خلقهم بيده وبث فيهم من روحه،. وجعلهم عبادا له وليسوا عبيدا لأحد حتى الاسلام.
نزلت الصغيرة مسرعة : ثم التفتت : – ماما “الشنطة” بتاعتي، هتأخر على الكورس.
واصطحبت زميلة لها التقتها أمام السنتر ودخلت ، وصارت الأم خلفها تحمل حقيبتها ، وزجاجة المياه وعلبة الفاكهة والساندوتش.