ممدوح رزق
في عام 1993 انتبه موظف الهيئة العامة للكتاب إلى أن جميع الكتب التي وضعها أمامه ولد المرحلة الثانوية كي يحصل منه على فاتورة شراء؛ أن جميعها عن القصة القصيرة .. رفع موظف الهيئة رأسه وسأل الولد بابتسامة أبوية هادئة إن كان يكتب القصة القصيرة، وحينما رد الولد عليه بالإيجاب قال له الموظف بأن مجموعة الكتب التي اختارها تخلو من الكتاب الأجمل .. نهض الموظف وقاد الولد نحو أحد الرفوف التي لم يمر عليها خلال جولته بالمعرض، ثم سحب من بين محتوياته نسخة من الكتاب الأجمل بالفعل، ليس هذا فقط بل والذي سيتحوّل كاتبه إلى الصديق النقدي الأقرب، والحكّاء الدائم، الأكثر سحرًا على الإطلاق لتاريخ القصة طوال السنوات التالية في عمر الولد: “الصوت المنفرد” لفرانك أوكونور.
أخبره موظف الهيئة بأن هناك ندوة أسبوعية لأعضاء منتدى عروس النيل الأدبي، تُعقد كل ثلاثاء في السابعة مساءً بقصر ثقافة المنصورة، وأن بإمكانه الحضور وقراءة نماذج من القصص التي كتبها .. عرف الولد أن الموظف الذي يبدو في بداية الخمسينيات واحد من أعضاء المنتدى، وأنه كاتب قصة قصيرة، ولكنه لم يتوصّل إلى التشبيه المناسب لملامحه إلا بعد زمن طويل: كان يشبه جمال عبد الناصر لو كان قد تنحّى بالفعل، وعاد إلى صفوف الجماهير.
سيقابل الولد موظف الهيئة ثانية في الندوة، لكن هذه المرة لن يدور حوار بينهما .. يدخل الولد إلى الحجرة التي يجتمع فيها أعضاء منتدى عروس النيل الأدبي بقصر الثقافة فيجد الموظف جالسًا في بداية الطاولة الكبيرة التي يصطف الجالسون على جانبيها .. يأخذ الولد مكانًا قرب نهاية الطاولة، وبينما يستكشف كل شيء سيلاحظ أن موظف الهيئة لا يتكلم أبدًا .. أن عينيه شاردتان، كأنهما مثقلتان بذكرى خفية قديمة، لا تستطيعان حتى الآن تصديق فداحتها .. لم يقرأ الموظف قصة له مثلما فعل أغلب الحاضرين ومن ضمنهم الولد نفسه، ولم يشارك في الجدالات الانفعالية المضحكة التي لا علاقة لها بالنصوص المقروءة، كما لم يتبادل حديثًا جانبيًا مع أحد .. فقط كانت يداه تؤديان واجبهما الروتيني أثناء التصفيق الجماعي الذي يعقب انتهاء أي كاتب من قراءة عمله .. كان ما لاحظه الولد في هذا المساء بخصوص موظف الهيئة تأكيدًا على ما سبق أن انتبه إليه بشكل خافت حين قابله للمرة الأولى في معرض الكتاب .. غادر الولد قصر الثقافة بعد انتهاء الندوة، دون أن تُخلق في طريق خروجه فرصة لمصافحة الموظف أو لإلقاء التحية أو حتى لأن ينظر كل منهما في وجه الآخر بصورة عابرة .. لم يكن هذا متعمّدًا بالنسبة للولد ـ رغم طبيعته الخجولة التي ربما ساهمت في هذا ـ لكن ما كان مقصودًا هو أن حضوره لهذه الندوة لم يتكرر، كما أن زياراته إلى المقر الدائم لهيئة الكتاب بالمنصورة لن تتصادف مع وجود هذا الموظف الذي كان دائمًا ما يجلس وراء مكتب يقع في مدخل المقر، وعلى نحو واضح تمامًا للسائرين في الشارع أمام بابه المفتوح.
لكن الولد وموظف الهيئة سيتقابلان مجددًا بعد سنوات عدة، وقد أصبح ولد المرحلة الثانوية شابًا، ومحررًا للصفحة الثقافية بإحدى الجرائد المحلية، قبل أن يتم تعيين هذا الموظف مصححًا لغويًا بها .. سيكتفي الشاب وموظف الهيئة بتلك النظرة التي تؤكد على أن كلًا منهما التقى بالآخر من قبل، ويتذكره جيدًا، لكنهما لن يتبادلا ولو كلمة واحدة سواء تتعلّق بالماضي أو بأي شيء غيره، ولو حتى يخص مكان العمل الذي يجمعهما .. سيحدث الحوار بينهما بعد كل تلك السنوات للمرة الأولى والأخيرة في اليوم الذي سيدخل فيه الشاب مقر الجريدة ممسكًا بنسخة من “الأهرام المسائي” التي نُشرت بها قصته .. أثناء تنقّل النسخة بين أيدي زملائه الراغبين في قراءة القصة وصلت إلى يدي موظف الهيئة الذي بعدما انتهى من قراءتها؛ وضع خطًا صغيرًا بقلم أزرق كان بحوذته تحت إحدى كلماتها .. شعر الشاب بالغضب من هذا التصرّف العدائي المفاجئ ـ رغم أنه كان يتوقعه بشكل مبهم ـ فسأل الموظف بحدة ساخرة إن كان في هذه الكلمة خطأً لغويًا ما .. حينئذ ابتسم الموظف الابتسامة الأبوية الهادئة ذاتها التي رآها الشاب على وجهه في معرض الكتاب قبل سنوات، ولكنها هذه المرة كانت طافحة باللزوجة، ثم أخبره أن الكلمة ليس بها أي خطأ، ولكنه فقط يراها “غير ملائمة” .. استرد الشاب نسخة الجريدة دون أن يرد على ما اعتبره هراءً حاقدًا، مكتفيًا بالانطباع الواضح على وجهه الذي يخبر الموظف في صمت بأنه يدرك تمامًا لماذا قام بذلك، وأن الخط السخيف الذي وضعه تحت هذه الكلمة بالقلم الأزرق مضطرًا لأن القلم الأحمر لم يكن في متناوله حينها؛ كان طريقته البائسة في الانتقام، ليس مما يكسبه ولد المرحلة الثانوية، بل مما لم يتمكن موظف الهيئة الخمسيني من تحقيقه .. لحظتها فكّر الكاتب الشاب في كيف يمكن أن يتحوّل قلم الوظيفة الأزرق إلى عضو تعويضي أكثر إيلامًا من الخصاء نفسه.
مازلت أحتفظ بنسخة الجريدة حتى الآن، ولكن الخط الأزرق تحت هذه الكلمة لا يذكرني بما حدث في ذلك اليوم قبل خمسة وعشرين عامًا بل بمشهد آخر .. كان الموظف قد أحيل إلى التقاعد من هيئة الكتاب، كما ترك عمله في الجريدة، ومرت فترة طويلة دون أصادفه في شوارع المنصورة حتى رأيته ذات يوم جالسًا وحده فوق رصيف مقهى يقع في الشارع الخلفي لمنزلي، وأمامه رقعة شطرنج، مجهّزًا الجيشين لمعركة لم تبدأ بعد مع غائب ربما لن يأتي أبدًا، بينما كانت سيجارة في يده، وهو الذي لم يكن مدخنًا من قبل .. لم ينتبه لمروري أمامه، وكنت حريصًا على ذلك، كما لم أره على الإطلاق بعد هذا المشهد الذي يذكرني به الخط الأزرق الصغير الذي تركه تحت إحدى كلمات قصتي القصيرة.
لو تفحصت الأمر بآلية حسابية مجرّدة لأصبح كالآتي: اقتناء “الصوت المنفرد” في لحظة مبكرة مما لو لم أصادف موظف هيئة الكتاب مقابل المرور بتجربة أدبية سيئة تتلخص في حضور “ندوة” وقراءة قصة قصيرة لي أمام أعضائها .. الحصول على خبرة من الأفكار القصصية الناجمة عن المرور بهذه التجربة السيئة مقابل جفاء شخصي لم تدبّره بينك والموظف الذي اقترح عليك حضور الندوة .. امتلاك كتابة منتشية، لم تفرغ ذخيرتها حتى الآن عن هذا الشخص مقابل التعرّض لأذى مصوّب من خيبة أمله.
هل كان يمكن اقتناء “الصوت المنفرد” دون حضور “الندوة”؟ .. هل كان يمكن الحصول على الخبرة القصصية دون الجفاء الشخصي؟ .. هل كان يمكن امتلاك كتابة منتشية دون التعرّض لأذى؟ .. يشبه الاختباء حين يراجع ما اضطر لفقدانه مقابل الظهور الحتمي، يشبه التوقف عند لحظات السلطة الأبوية التي مارسها أحيانًا “فرانك أوكونور”، أو الصديق النقدي الأقرب، والحكّاء الدائم، الأكثر سحرًا على الإطلاق لتاريخ القصة في كتابه الأجمل.