سيرة الاختباء (7)

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 196
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ممدوح رزق

لماذا لم تعتذر ـ ببساطة ـ عن الإجابة حينما سألتك إحدى القارئات في ندوة نادي أدب رامتان عام 2017 عن الكيفية التي كتبت بها قصة “الغيب” من مجموعة “هفوات صغيرة لمغيّر العالم”؟ .. هل لأنك لابد أن تجبر نفسك على منح الإرضاء المطلوب للغرباء كما تعوّدت دائمًا، خاصة في لحظة تبدو ودودة ظاهريًا؟ .. هل لأنك كنت ترجو مثل كل مرة، وبالتناقض مع ما تؤمن به، أن تساهم إجابتك في خلق علاقة مثالية ـ حتى في طابعها العدائي ـ بين قصتك وقارئها؟ .. هل لأن الكتابة موضع الاستفهام تحوّلت تلقائيًا إلى “كلام” ينبغي أن يؤكد موضوعه، ويدافع عنه بمجرد قبولك لدعوة المناقشة، وحضورك كشخص يمكن استيعابه حسيًا؟.
تعرف جيدًا أن هذا القبول النادر لدعوات المناقشة لا يستهدف أكثر من مساعدة كتابك على الخطو لأبعد مدى قرائي ممكن حيث تتسع إمكانية اللقاء بالقارئ المحتمل، فضلًا عن الحصول على وجاهة شكلية جديدة، تكمن ـ كما تظهرها صور إثبات التفوق ـ في كاتب يجلس وراء منصة ما، وأمامه جماعة من قراء يحملون نسخًا من كتابه، ولذة ثقافية جادة ترتسم على الوجوه .. الغاية التي تعرف أيضًا أنها سترتعش، وتمعن في الشحوب حتى تتبدد أمام الجزاء المتوقع الذي يلخصه هذا السؤال: كيف كتبت قصة “الغيب”؟.
تعود إلى البيت مترنحًا برد فعلك القانط، الذي بدأ بصمت متحيّر، ومر باختيار أحد مسارات التفسير القاصرة جميعها، وانتهى بكومة متضخمة من الآثام التي ظلت تتراكم مع كل محاولة لاستدراك الأمر .. يعرف اليأس كيف يسترد توازنه حينما تكتب تلك القصة القصيرة التي ـ وفقًا لكلماتها ـ “توثّق اعترافك من جهة، وتطهّر القصة الأصلية من جانب آخر” .. كأنك ترسل من داخل عزلتك ما يشبه نداء استغاثة، يعيد التذكير برجاء دوستويفسكي: “قد يكون في أعماق المرء ما لا يمكن نبشه بالثرثرة، إياك أن تعتقد أنك تفهمني لمجرد أنني تحدثت إليك”.
لم تكن إذن كلمات مايلز في فيلم Sideways عن ما تم الاعتياد على تسميته بـ “الاعتراف الأدبي” فحسب: “لقد انتهيت .. أنا لست كاتبًا، أنا مجرد أستاذ لغة انجليزية للإعدادي .. العالم لا يهتم ألبتة بما لدي لأقوله .. وجودي ليس ضروريًا .. أنا تافه لدرجة أنني لا أستطيع حتى أن أقتل نفسي .. لقد انتهى نصف حياتي، وليس لدي شيء يعبر عنه، لا شيء” .. إنها كلمات تخص حياة مايلز نفسها أيضًا .. علاقته بهذه الرواية قبل علاقة الآخرين بها .. تخص موضوع روايته الذي تلمّح له بعض كلمات الرسالة الصوتية لـ “مايا” في نهاية الفيلم: “هل حقًا مررت بكل هذا؟ .. لابد أن هذا كان مريعًا .. وشخصية الأخت، يا إلهي، يالها من مدمرة .. هل ارتكب الأب الانتحار أم لا؟ .. إن هذا يقودني إلى الجنون”.
إنه الفراغ الغامض والمقبض بين نص وآخر، أو ما يمكن تسميته بالوعي الثابت بالخذلان المبهم الذي يكمن دائمًا في المسافة بين الانتهاء من كتابة والبدء في كتابة أخرى .. المسافة التي يشعر خلالها الكاتب نفسه أحيانًا بالرغبة القهرية في تحويل “النص” إلى “كلام” كأنما يحاول بعماء متحسّر أن يملأ الفجوات المحتملة بين الكتابة والعالم المتمثل في “قرّاء” .. الكفاح العفوي المؤقت، وحتى الشروع في نص جديد، لمجابهة الإدراك المهيمن بأن ثمة أمرًا لم يكتمل بعد .. المجابهة التي لا تتوقف أبدًا عن مضاعفة الأمور غير المكتملة.

مقالات من نفس القسم