ممدوح رزق
“جائزة ساويرس” واحدة من العطايا السخية والبرّاقة، لم يحظ بها الكثيرون من أجيال مختلفة، الذين تقدّموا للحصول عليها أحيانًا أكثر من مرة، ويتمتعون في الوقت نفسه بمكانة طيبة في “الوسط الأدبي”، رغم كل ما يتداول عنها ـ أحب نفسي كثيرًا حينما أتحدث ببراءة ـ بأن لجان تحكيمها تتضمن شخصيات ليس لها رصيد في الفروع التي تُحكّمها، أو أنها تعيّن ناشرًا كرئيس للجنة التحكيم فيهديها لإصداراته، أو أنها تُعطى لكتاب لا ينتمي للفئة التي حصل عنها، أو أنها تًمنح لإسكات من تطول فترة انتقاده الساخر منها، فيتحوّل إلى ممجد لها، أو لتعويض انتقائي لمن خسر في دوراتها السابقة أو في مسابقات أخرى، أو لتعطف ـ انتقائيًا أيضًا ـ على آخر بسبب احتياجه المادي أو كبر سنّه أو ضجيجه المتوسّل على المقاهي، أو بأنها محكومة بتوازانات وحصص وخواطر ناشرين وصحفيين وكتّاب وفنانين وموظفين ووكلاء مؤسسات ورجال أعمال من اللاعبين في البزنس الثقافي .. كل هذا بالنسبة لي أشبه بأن يتحدث الناس عن الخامة الرديئة لكلوت شخص تتدفق الدماء من فتحة شرجه.
في الطريق من بيتي إلى شركة نقل الطرود حاملًا نسخ “مكان جيد لسلحفاة محنطة” التي سأرسلها إلى مؤسسة ساويرس؛ كنت أفكر مجددًا في أن الجوائز حقيرة .. أن التجسّد الأعنف لحقارتها في سعادة الفوز بها، وفي حزن خسارتها .. جماعة بشرية تستمتع بإقامة حفل تضيئه الأوهام السلطوية المهينة .. كأن أفرادها يمتلكون قواعد الجدارة .. كأن هناك يقينًا لما يُسمى بالجدارة .. يفتحون الأبواب، فتنطلق الكتابات داخل مضمار انتهاكها المضحك، ويأخذ السباق التقييمي شكل البداهة، وينتج أحكامه المتفاخرة كأنها حصيلة ناجحة لترتيب منطقي، مدعوم بروح إلهية .. لسنا من قررنا بأن الكاتب لابد أن تقيّم أعماله من قِبل آخرين، أو أنه لابد من أن تقيّم أعماله أحيانًا مقارنة بأعمال غيره من الكتّاب في أوقات معيّنة، أو أن يحصل “الأفضل” بالنسبة لهؤلاء الآخرين على مكافأة مقابل تلك “الجودة” .. القدر نفسه هو الذي فرض هذا، ونحن ممتنون له بلا شك .. كنت أفكر مجددًا في ذلك؛ فهو أقرب لطقس ظل يُمارس عفويًا في ذهني أثناء التقدّم للجوائز السابقة .. الجوائز التي فزت بها جميعًا.
لماذا تفشل محاولاتك للاختباء من حقارة الجوائز؟ .. لأن إصرارها المنيع لا يجتاحك من الخارج بل من ماضيك الشخصي .. من التوافق الشيطاني الباهر بين “القدر” الذي يرعى الجماعة الأدبية التي تحاصرك، والمرارة الجسيمة التي كوّنت نفسك؛ بدءًا من رعب الطفولة مرورًا بالكراهية المطلقة وحتى قيامة الغضب المكبوتة في حاضرك .. يتزايد هذا الإصرار كلما زاد اللمعان الصاخب لتلك “الحقارة” بفضل المال والشهرة ودعم المرافق الثقافية للعاصمة .. لذا فهي ليست قاتلًا متسلسلًا ينجح دائمًا في التسلل إلى عزلتك، بل هي العزلة نفسها التي تشارك في تشييدها العائلة وزملاء الدراسة والأصدقاء والجيران والغرباء والأشباح المجهولة داخل جسدك .. الذين لا يطالبونك بأن تثبت ـ رغمًا عنك ـ بأنك “الأفضل”، بل للاستجابة إلى كل أشياء الحياة التي تطالبك طوال عمرك ودون كلمات لأن تثبت أنك الأفضل .. أن تكسب اعترافًا تلو الآخر، وأكثر تطورًا مما يسبقه، مهما بلغت القوة الراسخة لتهكمك على ما يُسمى بالاعتراف الأدبي، وزيف أدواته ومانحيه وسياقاته المتغيّرة .. مهما بلغت قوة رجائك في الانتقام من الإذلال القابض على ذاكرتك خارج “الأورجي” التعيس الذي تجذبك الإغراءات المستمرة للانضمام إليه.