سلام وطني

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

احتل رواد المقهى الرصيف، فصار السائر على الرصيف ينزل وسط الطريق ولا يستطيع العودة بعد المرور بالمقهى لوجود بائعي الجبنة الفلاحي والبيض و السجائر المضروبة والتوت والخبز الأبيض.

الجميع يحتل الرصيف ويضع حاجياته تحته ساداً الطريق على الصيدلية و المكتبة ومداخل البيوت، ومن أراد دخول أيهم فعليه أما أن يعتذر للجالس على الرصيف ويخطو بجواره خطوة أشبه بالقفزة ، أو يستمر في السير حتى نهاية الشارع ونهاية الباعة ليصل لأول الرصيف ويعود أدراجه.

بعض الرجال كانوا يخترقون المسافات الخالية على رصيف المقهى بين المناضد والكراسي والنراجيل و الصبيان حاملي الصواني والفحم. وذلك ليوفروا على أنفسهم عناء النزول عن الرصيف. لكن سيدة وابنها ومعها أكياس السوق لم تكن لتفعل ذلك. فاضطرت وهي تتأفف أن تنزل بين الرصيف والسيارات المتوقفة بفعل الزحام. تسب ابنها تارة لكي ينتبه ، وتسب سائقي السيارات عندما تصطدم بمرآة أو تحتك عباءتها بالعجلات. كان ابنها في دنيا أخرى وهو يشفط آخر ما في علبة المياه الغازية في يده مستمتعاً بلسعتها وبرودتها اللذين جعلاه يقيم حفلاً من البكاء والصراخ في الشارع لكي تشتريها أمه. كان يتجاهل كلام أمه إذ كان ما تبقى من انتباهه مع أغنية اشتهرت حديثاً تنطلق بها السماعة المعلقة بجوار باب المقهى، والتي لا تصمت إلا وقت الآذان أو وقت الإغلاق. كان قد أنهى مشروبه تماماً حين بدأ يشعر بشيء يثقله، شيء كان يتجاهله منذ قليل وتناساه تماماً حين قررت أمه شراء المشروب مكرهة.

كان يريد أن يتبول منذ أن كان في السوق، والآن بعد كل هذا الوقت وبعد المشروب الغازي وجد نفسه يغلق فخذيه في محاولة أخيرة لمنع البول أن يتسرب منه. المنزل بجوار الصيدلية لكن أمه ستستمر سائرة تحت الرصيف بسرعتها البطيئة واحتكاكها بالجميع، حتى تصل لآخر الرصيف، و هو لن يحتمل كل هذا الوقت. صعد فوق رصيف المقهى لكي يختصر الطريق . وقبل أن تصرخ عليه انطلق من سماعة المقهى صوت جعل الجميع يصمت. “أيها السادة: السلام الوطني” . تغير كل شيء في تلك اللحظات القليلة. ترك جميع من على المقهى الأكواب وأحجار الدومينو وزهر النرد وتماثيل العساكر والأحصنة و الأفيال على رقعها كيفما اتفق و هبوا واقفين. حاملو الصواني ومجامر الفحم توقفوا في أماكنهم. سائقو السيارات أبطلوا المحركات وفتحوا الأبواب ونزلوا. السائرون توقفوا. الجالسون على الأرصفة قاموا. أصحاب المحال لم يكتفوا بالوقوف بل خرجوا إلى الرصيف . الشارع الصاخب المزدحم المليء بالغبار والذباب واللعنات صار صامتاً إلا من اللحن العسكري المنساب ، ومن تماثيل واقفة بدون حركة ولو لإبعاد الذباب عن الوجوه. الطفل بعد تلك المفاجأة قرر أن يتحرك استجابة لمثانته التي على وشك الانفجار. لكن الأم قامت بحركة اخيرة رشيقة بأن خطت على الرصيف وسط الرجال وأمسكت الطفل من ياقته وسمرته بجوارها. ثم حركت عينيها بين الوجوه كأنما لتطمئن على نفسها.

انساب السلام الوطني والجميع ينظر في الفراغ. لا أحد ينظر في وجه زميله. فقط الطفل وقد ازدادت معاناته حتى الذروة كان يقلب وجهه بينهم مستغيثاً بينما الأم تثبته على الأرض بيد واحدة وبعزيمة لا تكل. في ذروة يأسه وألمه مد الطفل يده الحرة التي لا تمسك بعلبة المشروب الفارغة، وأمسك طرف الشورت والكيلوت تحته. بحركة سريعة انزلهما وأسندهما تحت خصيتيه. كان عضوه نائماً في سلام فلما أطلق العنان لبوله انتتر كما يحدث لخرطوم فتح ماؤه فجأة ضارباً في كل الاتجاهات. كان أول من أصيب سائق السيارة المواجهة. ولما لم يصدر عنه أي رد فعل سوى إغماض عينيه وزم فمه، حينها تحمس الفتى وأدرك فرصته الذهبية في التبول بحرية والتي تضربه امه كلما فعلها بالحمام وأصاب الملابس والمرايا وأدوات الحلاقة . لذلك و بسرعة استدار للتالي وهو سائق آخر لم يرد الهجوم أيضاً، ثم لبائع السجائر والعلب أمامه ثم أكواب الشاي على أحد مناضد المقهى، ثم رقعة شطرنج فأسقط بعض أحجارها، ثم أطفأ أحجار المجمرة في يد صاحبها .

أراد أن يكمل استدارته لكن يد أمه كانت بالمرصاد. لم يحاول النظر لأمه إذ كانت نظرة منها كافية لردعه. كان السلام الوطني في منتصفه و الطفل أيضاً مازال لديه الكثير. بحث عن هدف جديد في حدود تصويبه فلم يجد إلا السماعة التي يقف لصوتها الشارع. كان ارتفاعها أصعب من التوجيه التلقائي لذا أمسك عضوه ورفعه بسرعة ليخرج الدفعة الأخيرة على السماعة فتصدر وشيشاً أخيراً وتصمت. وبالانتهاء القصري للحن عاد الجميع للحركة ماسحين الوجوه والملابس وقد بدأت علامات القرف والغضب تظهر .

كان الطفل ينهي ما بدأه على الأرض تحته في صورة نقط ويرفع ملابسه و هو يراقب ردود الأفعال الغاضبة . ما أن تركته أمه لتوجه له ضربة اختزنتها طويلاً، ما أن شعر بياقته حرة حتى انطلق بكل سرعته بين المناضد وفوق فرش الباعة واختفى في مدخل المنزل تاركاً أمه لنظرات اللوم والتقريع.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون