د.مصطفى الضبع
مجدي علي عبد الهادي الجابري (1961-1999)، الشاعر والباحث، صاحب التجربة الشعرية المتميزة، ظهر في سماء الشعر شهابا لم يعمر طويلا، و خلال ظهوره قدم تجربة تليق بشاعر مؤثر، شاعر تتعدد مفاتيح استكشاف تجربته والاشتباك مع تفاصيل عالمه الثري الكاشف عن رؤيته لعالم لا يكتفي بتقديمه شعرا و إنما يجمع بين جماليات السرد والشعر، دون أن يفقد الشعر قدره من الفن أو مساحته من الجمال للدرجة التي يمكن للمتلقي أن يكتشف أن الشاعر لو تخلى عن الشعر قليلا لكان قاصا من طراز متميز.
يبدو الشعر والسرد عند الشاعر شاطئين يتحرك بينهما متلقي نصه الذي يتشكل وفق تقنية تحريك المخيلة قبل الاستقرار على منطقة ما أو تحريكها إلى المنطقتين بوصفهما شاطئي العالم.
تتعدد أشكال السرد في تجربة الجابري: الشخصية – التاريخ – الذات – الأحداث – الأشياء – الصورة – الوطن، بحيث يمكن لأي منها أن تكشف عن طبيعتها ومساحات عملها وقدراتها على إنتاج ما يكشف عن موهبة الشاعر وقدراتها الجمالية.
سردية الشخصية: كثيرة هي الشخصيات التي يختزلها عالم مجدي الجابري، يحكي عنها أو يختزلها في صورة تبدو عابرة أو يستدعيها توظيفا لما يريد طرحه أو لما تريد القصيدة التعبير عنه، والشاعر يعتمد طريقتين أو نظامين أساسيين :
- الإفراد: حيث النص أو المقطع ينفرد باستدعاء شخصية واحدة يفرد لها مساحة تفتح بدورها المجال للشخصية للقيام بدورها / أدوارها السردية المتعددة في سياق النص، وهنا تكون الشخصية بمثابة العلامة اللغوية أولا والسردية ثانيا، في الأولى تنتقل الشخصية عبر عدد من المواقع النصية التي تؤسس لموقعها الدلالي ويشكل الصورة الكلية للشخصية، بروميثيوس في موقعه من المقطع السابق ينتقل من موقع المبتدأ إلى موقع الفاعل وموقع صاحب الحال، وفي إحالة الضمير إليه يحقق تماسكا نصيا يجعل المتلقي يتحرك مع خيط سردي يبدأ من نقطة انطلاقه في متابعة الاسم انتقالا إلى المواقع المختلفة للشخصية على امتداد المقطع أولا والنص ثانيا.
- الجمع: حيث ينغلق النص أو المقطع على استدعاء مجموعة من الشخصيات.
أولا: الإفراد : ويمكننا التمثيل له بنموذجين متفردين في تجربة الشاعر:
- الأب بوصفه الأسطورة الخاصة بالشاعر وتمثل خلفيته الجينية.
- بروميثيوس بوصفه الأسطورة العامة للعالم و تمثل خلفيته المعرفية.
يلعب الأب دوره المحوري في نطاق سردية الشاعر (تتكرر المفردة ثلاثا وعشرين مرة) في ثلاث صيغ: أبويا (15 مرة) – أبوك (5 مرات) – أبوه (3 مرات)، وما يعنينا بالأساس الصيغة الأكثر حضورا مما يمنحها التصدر، ولكونها قادرة على استكشاف مساحة قائمة بين الذات والأب بوصفه العمق الزمني للذات وجانب من السردية بمعناه الكبير والرافد الأساسي لها (الأب يمثل مرجعية للابن وخلفية ثقافية ليس من السهل تجاوزها في دراسة الذات )، والدور المحوري للأب ينطلق من البداية، بداية القصيدة والديوان، حيث الصورة الأولى تطرح الأب بوصفه شخصية مطروحة على وعي الشاعر الذي يطرحها عبر القصيدة على وعي متلقيه :
” أبويا في الشغل
كالعادة
وأمي وأختي لمُّوا الغسيل من عَ الحبل“
- يدفع السارد بشخصيات النص مرة واحدة ويكون على المتلقي الإلمام بعالم يضم هذه الشخوص أولا، ويربط بينها ثانيا، ويدرك علاقتها بالسارد ثالثا.
- تحديد فضاءين، يصرح بأولهما (الشغل)، ويوحي بالثاني (البيت) ولا يحدد تفاصيل ما يدور في الأول فيكون الحدث فيه غير مرئي ولكنه مطروح على الوعي عبر الخيال، في المقابل يكون الثاني مطروحا على الوعي البصري في إدراك المتلقي للصورة.
- يلعب الغسيل دوره بوصفه رابطا للحظة الراهنة بسابقتها وبكونه أثرا لماض فرض نفسه على الحاضر.
- الذات تنسلخ من الصورة كما أن الصورة تنسلخ من مرجعيتها أو تأسيسها، فالصورة الأولى تمثل أساسا لبقية الحكاية المفرودة على مساحة القصيدة، والأب يمثل الشخصية المنطلق للذات والمرجعية لها بوصفها عادة ليست للأب وإنما للذات أيضا التي تعودت الصورة التي أصبحت بمثابة أساس رؤية العالم.
يستدعي الشاعر علاماته السردية في إشارتها إلى سرديات سابقة، معيدا إنتاجها وتوظيفها دون مفارقتها وظيفتها الأولى، ودون أن تغادر مجالها الحيوي الذي وجدت فيه، ليس على صفحات الذاكرة الورقية السابقة، ولكنه بوصفها واقعا موغلا في الماضي، والشاعر حين يستدعي العلامة السردية لا يستدعيها منفردة وإنما تأتي في مجالها الحيوي، تحل في النص محملة بميراثها من العلامات المحيطة بها.
بعناية يختار الشاعر نموذجه الثاني من ثقافات شتى لا تقف عند الثقافة العربية وإنما تتجاوزها إلى ماهو أوسع متحركا في مساحة شبه كونية مكانا وشبه أزلية زمانا :
” برومثيوس أول كائن حي أحس بالنار في داخله وأذكر أنها عند مرورها في داخل صلصاله الغفل تحرك صوب امساكها عن الآلهة وتقديمها للبشر أجمعين متحديا في ذلك رغبة كتم سر النار المقدسة للآلهة.. راغبا أن يكشف هو سر ألوهية الإنسان الذي لو وقف عليه لما صار للآلهة معنى.. وعلى هذا أوقف عمره على كشف سّرها “.
إذا كان لاختيار بروميثيوس (الحكيم صاحب القصة ذي الدلالات الغنية في الفكر والحياة الإنسانيتين ) دلالته فإن الشاعر لم يستهدف أن يشغلنا بالبطل في حد ذاته وإنما في فعله عبر سردية تتجلى في خط درامي يتنامى مع تنامي الحدث، ذلك الذي يتبلور في مجموعة الأفعال المسندة للحكيم (بما يحمله من رمزية دالة، وبما هو مشحون به من معان نصية تشكلت عبر التاريخ الإنساني)، هذه الأفعال في تراتبها واختيارها بعناية شاعر وقد طرزها في النص جامعا بين الأفعال والأسماء، أسماء الفاعل المتخللة الأفعال، والمنسبكة في النص الشعري مترجمة من المعاني ما يمكن التعويل عليه لإنتاج الدلالة :أولها: الحقيقة الإنسانية(الإحساس)، وثانيها التحرك، وثالثها التحدي، وخامسها الرغبة وجميعها تفضي إلى الحقيقة الكونية( الكشف)، وما بين الحقيقتين : الإنسانية والكونية يقيم الشاعر عالما من الاكتشافات المتوالية أمام البشر من المتلقين لتكون نقطة البداية بروميثيوس في امتلاكه الإحساس ، وهو ما يتأسس عليه مجموعة الدوال التي يحققها الشاعر عبر الاستدعاء، تلك التي تتأسس على مجرد ذكر الشخصية فاتحا امام متلقيه واحدا من طريقين ينبنيان على احتمال من اثنين: معرفة الشخصية المستدعاة مما يؤهل المتلقي للانطلاق إلى الاستدعاء واستكشاف دلالته و مجاله الحيوي، أو عدم المعرفة وهو ما يجعله متحركا للمعرفة مدركا إياها أولا قبل أن ينطلق إلى مرحلة الاستكشاف الدلالي، وفي كلا الحالتين يتحرك المتلقي حركة مقصودة، حيوية، محققة أهدافها سواء للمعرفة أو للاستكشاف، وهو ما يمنح النص حيويته والمتلقي متعته عبر الانتقال من طقس الواقع إلى مناخ الشخصية المستدعاة.
ثانيا : الجمع ويمثل الصورة الأوسع مساحة في تجربة الشاعر، حيث تتجاور الشخصيات في مقطع واحد من قصيدة أو تأتي مفرودة على مساحة القصيدة :
” فتخرج شادية وفاتن حمامة ونادية لطفي وسعاد حسنى وساميه جمال وكاريوكا “
“وبعد الدم والترتيل.. وتفتيح زهرة الصبار
على هدومي، رأيت : أدونيس، جاهين،
باربوس.. بينسلوا من الباب الوحيد..
وَاِحدْ وراَ وَاحد ؛ غمرني الخوف
من الحنَّة.. فغنِّيت وَ يِّا تفاح الخريف“
وهنا يصبح كل منهم بمثابة الرابط التشعبي حيث يكون على المتلقي تتبع مجموعة من المسارات لاكتشاف العلامات السردية وسبب وجودها هنا وحلولها في سياق الصورة وهو ما يتحقق في كل النصوص المشابهة حيث تتشكل خارطة من الشخصيات التي تحيلنا على نظام من سرد الشخصيات المختلفة التي يشكل منها الشاعر تجربته الشعرية على امتداد نصوصها وتشكلاتها، سواء كانت الشخصيات تنتمي إلى عصر واحد أو إلى عدة عصور، محتفظا بما هم عليه في الواقع ومتجاوزا ذلك إلى حضور نصي دال :
- أسامه الدناصورى (قصيدة : غَزلية الكَنَبَه ص 18).
- ” سيد درويش والشيخ أمام وفيروز ومرسال خليفه (قصيدة شتوية)
- أم كلثوم.
- شحاتة العريان.
- إبراهيم أصلان.
- فؤاد حداد.
وغيرهم من شخصيات تعتمد نظام الشخصية السردية الجاهزة الأبعاد، حيث يراهن الشاعر على معرفة المتلقي بهؤلاء فلا يقدم أية أبعاد للشخصية مؤكدا على كونها علامة نصية تؤدي وظيفتها متطابقة بدرجة ما مع واقعها ومنفصلة بدرجة ما عن زمنها (الشخصيات الراحلة أو التي تنتمي لأزمنة غابرة)، وعبر مجموعة من المستويات يكتشف المتلقي وظائف الشخصية في سياقها السردي.
وفي مستوى ثان تكشف عملية التلقي عن بعض التفاصيل التي تشكل مجموعة من المعاني المدركة بالحواس والمتضمنة في كل شخصية وتبدو قرينة كل علامة مما يجعل من لجوء الشاعر لهذه الشخصيات نوعا من افتقاده لهذه المعاني، كمعنى الغناء فيما تطرحه شخصية سيد درويش أو أم كلثوم أو فيروز، والشعر فيما يطرحه فؤاد حداد وأسامة الدناصوري، وغيرها من المعاني التي يستدعيها المتلقي ويفرضها السياق لكونها أول جملة في بطاقة التعريف بهؤلاء.
وفي مستوى ثالث تبدو الوظيفة بمثابة الواجهة الأولى أو البوابة الأولى لاستكشاف عالم الشخصية، وهي وظيفة متغيرة وفق علاقة المتلقي بها، حيث تختلف مستويات الرؤية للعلامة السردية حسب القرب أو البعد منها فشخصية أم كلثوم مثلا تتنوع مستويات علاقة المتلقين بها، ومن ثم فكل منهم محكوم بمنطقته المرجعية في درايته أو معرفته بالشخصية في عبورها من واقعها إلى واقع النص ومن غير المنطقي أن يأخذ الجميع مسافة واحدة من الشخصية مما يعني أن منطقة عمل العلامة لا تبدأ مع الجميع عند مستوى واحد.
وفي مستوى رابع تأتي الشخصية استعارة عن الواقع المرجعي، فالشخصية بحضورها الواقعي مستعارة من واقعها لأداء وظيفة نصية تنضاف على دورها خارج النص طرحا لمجموعة من الدلالات والرموز فقد تأتي الشخصية لإضاءة منطقة تكشف عن معنى إنساني، أو معنى وطني أو اجتماعي أو نفسي، وهو ما يترتب عليه تحريك المعنى في ذات المتلقي، فحين يطرح الشاعر شخصية الشيخ إمام مثلا فإن مجموعة من المعاني يستحضرها النص وتشكل مدار العلاقة بين الشخصية بمعانيها والمتلقي بما يدور في نفسه عند تلقيه الشخصية وما تتضمنه، وشخصية كشخصية الشيخ إمام تستدعي معاني التمرد والتعبير عن الوطن والمقاومة بالكلمة، ومجابهة الطغيان، و الصبر على المكاره في سبيل الوطن، وهكذا تكون كل شخصية تمثيلا لمخزونها الاستراتيجي من المعاني التي يطرحها النص عبر مجموعة العلامات المتعددة التي يطرز بها الشاعر نصه لتقديم كل ماهو إيجابي في الشخصيات حتى ولو كانت الشخصية معروفة بسلبيتها، فالشخصية السلبية لا تقدم للاقتداء بها وإنما لتكون نموذجا يمثل علامة تحذير من الوقوع في المصير نفسه (عندما يصور الفن الأشرار والخونة فإنه لا يحضنا للاقتداء بهم وإنما ليضعنا أمام خيارين : خيار السير في الطريق نفسه والوصول إلى مصيرهم، أو خيار السير بعيدا عن طريقهم والنجاة من المصير ).
سردية التاريخ / المحطات التاريخية
سردية يقيمها الشاعر على مجموعة من الصور / المحطات التاريخية التي يجمعها الشاعر في نص واحد يجعل منها صورة كلية أو لوحة تاريخية يواجه بها لحظته الحاضرة، أو يكرس بها لرؤيته للحظة الراهنة.
تتعدد أشكال هذا النوع ويمكننا الوقوف على النص الأكثر بروزا في هذا الجانب، أعني ” تواريخ أو القطب “، حيث الشاعر يقيم عنوان النص على مفردتين غير متجانستين، يبدأ الاختلاف بينهما من كون الأولى جمع والثانية مفرد، تحيل الأولى إلى معنى وتحيل الثانية إلى ذات، تكشف الأولى عن نفسها فلا يخفى معنى التاريخ على المتلقي فور قراءة المفردة خلافا لمعنى القطب الذي لا يتكشف سريعا المقصود منه أو من القطب الذي تحيل عليه المفردة، والشاعر يجمع بين الاثنين بعلامة التخيير (أو) مفسحا المجال لإحالة المعنى الكلي للنص إلى إحدى العلامتين أو هما معا.
يقيم الشاعر سرديته على ثلاثة مقاطع تأتي بمثابة المنشور الثلاثي الذي يكشف عما وراء الصور المطروحة عبر المقاطع النصية في تسلسلها تعبيرا عن ثلاث محطات تاريخية تبدأ من الخاص إلى العام لتنتهي إلى الخاص:
الأول: أغسطس 1961مولد الشاعر ([1]) وقد وظف الشاعر التاريخ في النص جامعا بينه وبين أحداث أخرى ترسم خطا صاعدا من مولده إلى أحداث وطنه وأحداث الأمة العربية، فاتحا أفق وعيه على كل الوقائع المؤثرة في مجريات الأحداث.
الثاني: يناير 1977 ثورة الخبز ([2]) بوصفها الحدث الوطني الممثل أحداث الشباب فقد كان الشاعر في السادسة عشرة من عمره.
الثالث: فبراير 1991 حرب الخليج ([3]) بوصفها واحدة من الأحداث المؤثرة في مجريات الشأن العربي في العصر الحديث.
يأتي المقطع الأول جامعا بين موقعين تعبيرا عن موقفين حيث يتخلى الشاعر عن الذاتية تماما في نقطة الانطلاق :
أغسطس 61
أنتَ بتكتب شعر
وأنا باستحمى بالتراب لَ خضر
والمركبه العايمه فِ جبة القاضي.. بتزغرلي
..،
أبويا وأمى طلو مِ الطاقه
هنا: حصان هزيل
ويمامه مكسوره
وهنا…ك سلاسل نار متدلدله من دقن قُطب الكُون.
طليت انا يمك :
الشط متسلسل في طابور العيش”
ويكون لحضور الأب والأم واسطة بين المجالين : مجال الذاتية ومجال العالم خارجها، مجال الأنا والآخر وما بينهما من تفاصيل دالة : الشعر – التراب – القاضي- المركبة – الحصان – اليمامة – مقولة الذات في النهاية وهي تلقي بجملة تعبر عن وعيها بالعالم أولا، وسيكون لها دورها المحوري في سياق النص لاحقا : الشط متسلسل في طابور العيش “
“يناير 77
النيل له لون
النيل لون واحد، وأربعين جيهه
والأرض وقت الريح / خشب مبلول
يا إيدين بتزيح مواعين الحموم.. وتتعلق على الصارى
دلوقتى : إيه اللِّى لخبط حسبة الشاعر ؟
إيه اللِّى خلا الشوك نتر فى عينيه؟
” المركبة من عضم جدي وجدك
المركبة بيضا بلون الدم “
تقدر تزيح الريحة دى اليمة التانية ؟!”
يبدو الحدث موسعا من دائرة الذات في مكاشفتها للعالم من حولها، عالم الوطن
وقد اختلت حسبة الشاعر، وما بين المركبة العايمة في المقطع الأول، والمركبة التي تحول لونها إلى لون الدم ( الشاعر يعتمد مفارقة دالة في البياض بلون الدم )
“فبراير 91
أنتَ لجأت لطير قليل قد قبضة إيدك
قليت عقلك وطيرته وطرت وراه
..
جسمك شهق.. لميته
بايديا وسَّدته رماد القلب
شعر التراب لَ خضر فوق سرتك يفر
فتهزنى بضحكك
” النار / كتاب مفتوح
والنيل / خمر وعسل سيال
من كفوف القُطب “
وأنا هنا..ك عَ الشط
والشط متسلسل فى طابور الجيش “
لا يبتعد الشاعر كثيرا عن منطقة المقطع الأول المتضمن حدث الانطلاق، حيث تتباعد دائرة الأحداث لكن تأثيرها يظل في المنطقة الذهنية الأعمق للشاعر، و تحرك الزمن لا يعني تغير الحال للأفضل، و الصورة التي تتشكل في مقطعها الثالث من عناصر تمتد جيناتها للمقطع الأول : التراب الأخضر – الذات ، وللمقطع الثاني : النيل، وتتوسع بطرح عناصر أخرى : النار – العسل، قبل أن تعود للربط بالمحطة الزمنية الأولى عبر الجملة المحورية : والشط متسلسل في طابور الجيش ” مغلقا النص بالجناس الناقص (في تأكيده للنقص أكثر من التجانس الذي يعني التشابه بدرجة ما) بين ( العيش – الجيش ) حيث المفردة الأولى علامة سردية على الشعب في حاجاته المحفزة للثورة طلبا وحفاظا، والثانية في طرحها الدلالة على القيد أولا واستبدال المطلب المحافظ على الحياة بالقوة في تأجيلها المطلب أو استبعاده من الصورة.
إن كثيرا من التفاصيل يمكنها أن تقدم نموذج الشاعر السارد، أو الشاعر الذي يكتب بالعناصر السردية ولا يكتب عنها، توظيفا لجماليات ينفرد بها شاعر بحجم الوطن، أو شاعر يرسم وطنا بحجم وعي الشاعر.
………..
هوامش وتعليقات
[1] – ولد الشاعر في القاهرة قريبا من الأحداث المؤثرة التي وظفها في تجربته.
[2] – ثورة الخبز أو انتفاضة الخبز أو أحداث 18 و19 يناير 1977 في مصر، مظاهرات وأعمال شغب شعبية ضد الغلاء، اندلعت في عدة مدن مصرية احتجاجا على قرارات رفع الأسعار للسلع الغذائية التي أعلنتها الحكومة آنذاك، الحكومة من ناحيتها أطلقت عليها انتفاضة الحرامية مصورة الأمر في صورة مؤامرة شيوعية لقلب نظام الحكم مسوغة بهذا التصور اعتقال عدد كبير من المثقفين والكتاب وأساتذة الجامعات في مصر.
[3] – في شهادتها عن الشاعر تقول الكاتبة صفاء عبد المنعم زوجته أن حرب الخليج (1991) غيرت مجرى الشعر عنده، كما تغيرت رؤيته وقناعاته، كان يبحث عن دور مختلف للشاعر غير كتابة الشعر، وفى إحدى الجلسات قال : ” لو تأخر ديوان أغسطس لبعد حرب الخليج ما كان أصدره أبدا.”