خالد البقالي القاسمي
إصرار المبدع البشير الأزمي على كتابة الرواية هو إصرار على رهان بناء تصور خاص عن عالمه المأهول. حيث نجد بأن رواية ” وجع الجذور ” تثير مجموعة من الإشكالات التي تترصد حياة كثير من الأفراد الذين يبدو بأنهم يتقاسمون مع السارد نفس التصورات والأفكار، ونفس المصير. لقد صدرت هذه الرواية في طبعتها الأولى سنة 2022 عن دار الفاصلة للنشر بمدينة ” طنجة ـ المملكة المغربية “، وتضم بين طياتها مائتين وست وخمسين صفحة متوسطة الحجم. كتب الروائي العربي الكبير ” البشير الدامون ” على ظهر غلاف الرواية: ” رواية وجع الجذور رواية عميقة، على غرار الروايات العربية الكبيرة، تحمل رؤية، وتصرخ في وجه التخلف، وقهر الإنسان عبر أحداث مشوقة، وممتعة. إن وجع الجذور هي وجعنا نحن، وهي وجع كل إنسان يحلم بحياة أجمل “.
انطلق الروائي في بناء عمله من العتبة الخاصة بالنص الروائي بإثبات عتمة ليل بهيم، بمعنى الظلمة والسواد، ويرتبط هذا المعنى بإنتاج مزيج مربك من الظلام النفسي، والتشاؤم، والخوف المباشر من الغموض الذي يلف حياة السارد من جميع الجوانب. مع التأكيد على أن تمهيد المبدع بهذا النوع من العتبات هو لخلق الظروف المناسبة للأحداث والمعاني اللاحقة، أي علينا أن نكون مستعدين نفسيا وأدبيا لتلقي ما وراء السواد، والذي يمكن أن يكون أشد قتامة من الحلكة نفسها.
أضف إلى ذلك تأكيد المبدع على لسان سارده على سريان برد قارس يهز الجسم ويحيله قشعريرة خالصة، وكأن المبدع يعلمنا منذ البداية بأن الوجع سيكون شديدا على جميع الأصعدة، بمعنى أن هذه الإطلالة هي التي تنبئ بأن هذه الجذور التي لا تنفك تتمدد وتتلوى سوف تكون شديدة الوقع على الجسم والنفس معا.
ويبدو أن نوعية الحياة التي بسطها الروائي في نصه على لسان سارده تدل على أن طموحه كان بواسطة عيار منفلت، عالي الجودة، إذ هو يهفو للوصول إلى تحقيق كمال الوجود، ولكن العناصر والشروط التي وجد ذاته المتشظية بها لم تكن مسعفة له بتاتا في تحقيق أمنيته السعيدة، لأن هذه الأمنية منيت بخيبات وعراقيل يصعب جدا الحد منها، أو تجنب آثارها المدمرة على حياة الجميع، حيث هي لم تكن مرتبطة بالسارد فقط بقدر ما كانت سارية ومؤثرة على جميع الشخصيات التي تعيش في القرية، والتي شاء حظها أن تجد تاريخها يمتد داخل نسيج هذه الرواية.
لماذا اختار الروائي أن ينطلق في روايته من مناقشة رسالة جامعية؟ الرواية عن الظلمة الشديدة، ومناقشة رسالة جامعية عبارة عن علامة ضوء مبشر بالخير، فلماذا كان هذا الاختيار إذا؟ لقد اختار المبدع أن يبني عالمه عبر تجربته الإنسانية انطلاقا من استحضار الوعي الجمالي، والوعي التاريخي.
الوعي الجمالي الذي اعتمد مكوناته الفنية في بناء سيرورة النص الروائي حيث إن: ” الجميل هو ما يعرف من دون مفهوم، بوصفه موضوعا لرضا ضروري “(1)، إنه الموضوع الذي يطاوعك عبر الإدراك الحسي، لأن الجميل عندما يتبدى تتم عملية إدراكه في كليته قبل أجزائه، ثم يصبح مطية لقبول تام لا اعتراض فيه أو عليه، وهو ما تم إنتاجه من طرف المبدع في هذا النص عبر الإدراك التام للوعي الجمالي بما هو شعور خاص، وتجربة نابعة من الذات الإنسانية، وإذا كنا على بينة واطلاع من كون أن: ” الوعي بالذات هو الانعكاس المشتق عن حضور العالم الحسي والعالم المدرك “(2)، فإن النص الروائي يصبح انعكاسا لمفهوم الوعي الجمالي في أبعاده التي عايشها السارد وعمل على نقلها من طابعها الحسي الشعوري إلى طابعها الجديد المرتبط باللغة، وبالكم الكبير من الأحاسيس المتعددة التي تقوم بإنشائها.
بالإضافة إلى الوعي الجمالي يحضر الوعي التاريخي كـأساس لترتيب الشخصيات، والأشياء، والموضوعات التي سوف تسهم في بناء الرواية. وفي عمق هذا الاختيار الخاص يثبت المبدع بأن الذاكرة لا تسعفه كثيرا في استرجاع أحداث الماضي المضطرب الذي عاشه بصعوبة، وألم، وإرهاق نفسي، بمعنى أنه علينا أن نكون حذرين إزاء التعامل مع المصادرات الواردة في أحكام وتفاصيل الشخصيات الروائية، خصوصا عندما يؤكد المبدع على لسان سارده على تلوث البيئة الصادر من نفايات أحد المصانع التي أصابت نهر قرية أهله، وقضت على آمال الناس في حياة طبيعية عادية، مع العلم أن سكان القرية الذين هم جميعا شخصيات الرواية لم يعرفوا أبدا معنى العادي أو الطبيعي، لقد كانت حياتهم كلها مبنية على العلامات الموغلة في التطرف المرتبط بالغلو الفاحش في الألم، والوجع، والمعاناة، والسواد…
ولذلك كان وصول السارد إلى الكلية، وخضوعه لمناقشة أطروحة عن البيئة والنفايات التي نالها بميزة مشرف جدا، عبارة عن انتقال، أو نقلة نوعية خاصة ونادرة للغاية من تركيز على الهموم والأحزان، إلى الانغماس في حدث هام جدا في الحياة العلمية والطبيعية، عمل المبدع مع سارده على اختصاره في أسطر قليلة. وهذا يدل على أنه لم يعتد بتاتا أن يفكر في العادي والطبيعي بقدر ما كانت ذاكرته قد تعودت، وانساقت بطريقة آلية إلى التفكير المرتبط بالأوجاع المستمرة، بسبب كثرة الانكسارات، والهزائم التي عرفتها شخصيات الرواية حسب حكي السارد بضمير المتكلم، ولذلك كان كثيرا ما يلجأ إلى الأحلام، إذ هي لدى السارد علاج من الأحزان، والهموم، وهروب من الماضي، وثبات عند عتبة الحاضر. كان الأب يريد، بل ويحرص دائما على أن يرافقه ابنه إلى المدينة، ولكن الإبن كان يتشبث بالنوم والأحلام وسحرهما، ويرفض التوجه إلى المدينة التي كانت أمه تعلن بأنها عنيفة، وكان عنف المدينة واحدا من المكونات السلبية التي أدت بالسارد وغيره في الرواية إلى المعاناة من الجذور وشدة وجعها المؤلم.
الوجود المتموضع، والمتجذر في الزمان الذي لم يكن السارد يستطيع استيعابه بعد، كان ينطلق على مستوى الجذور من مفهوم الظل الذي هو: ” ما نسخته الشمس، وهو من الطلوع إلى الزوال، وفي اصطلاح المشايخ هو الوجود الإضافي الظاهر بتعينات الأعيان الممكنة، وأحكامها التي هي معدومات ظهرت باسمه النور، الذي هو الوجود الخارجي المنسوب إليها “(3)، والذي لا ينبغي دوسه تبعا لوصية الجدة، لأن الظل جزء منا فلا يجوز أن ندوسه. وتعتبر هذه الصيغة ثابتا بنيويا في الرواية حيث تلخص لنا أهمية الانتماء، والارتباط الإنساني داخل الجماعة.
لقد كانت الجدة تمتلك من الوعي ما يؤهلها لكي تعمل على تسييج جذورها مع أقرب أقاربها، كان للجدة شعور حسي غريزي يدفعها للحرص باستمرار على صيانة وتحصين المقربين منها، والمحيطين بها بواسطة جملة من الوصايا والتوجيهات التي لم تكن تنتهي إلا لكي تبدأ من جديد.
لقد كانت حياة السارد مع أهله وسكان القرية تعرف تطورا مستمرا نحو الأسوأ، دون تحديد الهدف، ودون بيان الرؤية. فقد كانت اللغة بين الجميع عبارة عن اتفاق وتعاقد ضمنيين، ينطلق الكل منها من أجل التواصل، ووصف الأشياء، رغم أنها كانت تفتقر كليا إلى الوعي الأخلاقي الرادع، والمنظم للعلاقات بين الأفراد والجماعات وفق تصورات تضع كل تجاوز موضع رفض، واستنكار، واستهجان، بيد أن هذا المعنى كان غائبا كليا من خلال تعابير لغة أهل القرية فيما بينهم. لقد كان سكان القرية قد تعودوا على اقتحام خصوصيات بعضهم البعض بطريقة فجة، وسافرة، وعارية، وهو ما كان يرفضه السارد ويعتبره واحدا من منغصات العيش داخل القرية. ولهذا كان حضور المكان لدى السارد باعتباره علامة على النفور، وكان هذا القلق الذي يستشعره تجاه قريته وأهلها معقول جدا، ومدعاة لمحاولته بكل جهد وجدية لإيجاد أرضية مشتركة تستطيع بنودها أن تجمعه مع القرية وأهلها، ولكنه كان في كل مرة يفشل في مسعاه، ولا يتوصل بتاتا إلى تحقيق تصور من هذا النوع، خصوصا وأن البعض من سكان القرية كان يبغض أسرة ” سي العياشي ” ملحقا بهم الأذى بواسطة إضرام النار في بعض أجزاء البيت، أو سرقة المواشي.
عمق الحزن الذي استقر في نفس السارد مسببا له شدة الوجع يعود في أصله إلى علاقته بأبيه، فقد كان كثيرا ما يعود إلى الوراء، إلى ماضي الطفولة لكي يطلعنا على ما عايشه في قريته، بعد أن يطلعنا على الأفق الذي وصله في حياته، ويحدثنا بأن أباه كثيرا ما كان يريد، بل يصر أن يرافقه إلى المدينة، وفي المدينة التي كانت أمه تكرهها بشدة اكتشف السارد فسق أبيه، وقد ربط السارد بين المدينة وبين ” عشيرة العوراء ” بائعة المتعة في المقهى ربطا جعله يخاف من المدينة ويتوجس منها، وكأن الأب كان يتعمد أن يطلع ابنه على فسقه من خلال مرافقته له إلى المقهى التي كانت مسرحا لحريته الماجنة، وقد كانت هذه المقهى هي التي أثبتت للسارد اختلاف الحياة في المدينة عنها في القرية، إذ توجد بالمدينة نساء نزعن الحياء من سلوكهن وتصرفاتهن. حيث عندما دخل السارد لأول مرة مع أبيه إلى المقهى عمل على وصف أثاثها وأحوالها، مركزا على وجود مجموعة من الطاولات، والكراسي، واللوحات، والنساء الداعرات، وقد أقنعته الصورة العامة بالمكان بأن الأب يعيش مع نساء المقهى لحظات من المتعة المحرمة، ولذلك كان المكان في تصوره مصدرا للحرمة، وإقصاء النزعة الأخلاقية.
فشرع السارد في استحضار عناصر المفارقة، والتناقض في حياة الأب، عبر إشارة مكثفة إلى سلطته في البيت، وإشاعته لهيبة مفرطة بين الزوجة والأبناء، علامة على إيثاره الحياة بقناع مزيف فاقدا لأصله الطيب والشريف. وهكذا كان الأب يفقد بعده الذاتي بالتدريج نزوعا نحو المصير المحدد الذي لن يستطيع تجنبه في المستقبل. وقد كانت الأم تعتبر أن المدينة تستقطب الأب، وهي بذلك تعفي الجميع في البيت من عنفه الذي لا يطاق.
لقد كان الحزن سيد المكان في بيت ” سي العياشي “، حيث الكل يعيش في هم وغم، وكأن الهموم كانت لا تجد مرتعها إلا في هذا البيت، مع العلم أن أسبابا مختلفة كانت تتفاعل وتؤدي إلى نشر الهم، والوجع لدى جميع سكان القرية، وليس لدى ” آل بيت العياشي ” فقط، فالأب لا يظل طويلا في البيت مع أسرته، بل هو في غياب دائم. وقد عزم على بيع الأرض رغم رفض الجدة لرغبته، وهو يؤكد للجميع بأن الأعيان، والسلطة، وبتواطئ تام اتفقوا على سلب أرض القرية، وخصوصا أرض وبيت السي العياشي لتشييد مصنع بدلهما، فاستقر الهم بالبيت، وزرع جذوره عميقا في النفوس، ولذلك كان ترتيب البيت وجنباته من طرف الأم هو في الأصل ترتيب للذات، لكثرة ما تتحمله. أما السارد فإنه يكتفي بالأحلام لعلها تسعفه في التطهر من الحزن والأسى.
ومن هنا نلاحظ عملية تشتت القدرات الإنسانية الوجودية، وانغماسها في سلوكات غير آمنة، تؤدي بها إلى انعدام وجود المعنى، أو انعدام القدرة على الإمساك بالحقيقة، التي تؤدي إلى انبثاق البعد الذاتي الذي يساعد على الانخراط في التعامل مع الأحداث بوعي، وواقعية.
في رحاب مقهى القرية، أو مقهى الأشباح كما يسمى، كان أهل القرية يجتمعون، وكان الأب كثيرا ما يجلس على طاولة واحدة مع ” القدميري “، الجندي السابق الذي كان يحلم بالزواج من ” شامة ” الشابة، رغم أنه متزوج سابقا من زوجته الأولى ” السعدية “، وله منها بنتان. إن تأويل مقاصد وأغراض هذه الشخصية يعني أن أهدافها الخاصة لا تنسجم مع معطيات الواقع، والأحداث المزرية التي كانت تعيشها القرية وأهلها. حيث كانت القرية تعرف تغيرات طارئة، وغير منتظرة، أو غير متوقعة، وهو ما كان يستلزم التريث والحكمة، إذ كلما قدم السارد وصفا سريعا لواقع أبنية القرية مع الإشارة إلى بعض سكانها، خصوصا من المسنين الذين يقعدون في جنباتها منتظرين، إلا ووقفنا على هول الحقيقة المفزعة التي يحياها هؤلاء.
حيث إن تجربة الذاكرة الجماعية تفيد بأن القرية، وأهلها كانوا يعيشون في الحضيض، على مستوى كل شيء. ومن أجل محاولة تحقيق نوع من التوازن المقبول وظف الروائي رمزا ملحوظا في شكل شخصية / رجل من أهل القرية سماه الناس ” أوروبا “، وهو في الرواية بمثابة ضمير القرية، فهو شخص يقطن القرية، لقبه الناس بذلك لكثرة ترديده أوروبا التي عمل بها لفترة من عمره قبل عودته إلى القرية، ويبدو أن أفعال وسلوكات الناس كانت تقلقه، وتثير حفيظته، فينطلق كرد فعل في ترديد كلام عن النظام، و عن القانون… يعتبره الناس بعيدا عن واقعهم ومنطقهم، وقد كان ” أوروبا ” يعتبر أن ” اللأنسنة ” هي الصيغة السائدة بين أهل القرية، كونهم يعاملون بعضهم البعض كأشياء لا كموضوعات، فهم يعاملون كل واحد أو واحدة منهم كشيء، مع تجريده من صفاته وخصائصه الإنسانية، وينظرون إليه كأداة لتحقيق أهداف، وليس كغاية في حد ذاتها، بمعنى ينظرون إلى الأشخاص كملكية، وخصوصا نظرة الرجال إلى النساء.
وكان السارد يبذل مجهودا كبيرا في محاولة وصف جميع الأسباب والشروط التي تتشابك وتتداخل لكي تصنع واقع أهل القرية، من أجل تأملها وفحصها، وكان في كل مرة يقتنع باستحالة استقامة الحياة داخل القرية، ويعود للتفكير في رغبة والده بيع الأرض، والهجرة إلى المدينة، فيميل مرة إلى تبرير رغبته، ويعود أخرى ويرفضها، رحمة بأمه، وجدته، وأخيه، وأخته.
وقفت الجدة أمام المرآة، إنها واحدة من حلقات الفتوة وشحن الذات، تعكس المرآة صورة الجدة، وتصبح بذلك الجدة مرآة تعكس كل مراحل الماضي، إن الماضي والذاكرة هما أساس هذه الرواية، ماضي الجدة وذاكرة الجدة… الجدة مرآة الماضي، اسمها ” المهدية “، ولكنها عجزت تماما عن هداية ابنها إلى الرشد، وكانت دائما تحكي عن زوجها الجد ” السي العربي ” الذي مرض في الأخير وخانته صحته، وفارق الحياة، إنها تتذكر كل هذا، وما يحيط به بحسرة، وبألم، وبمعاناة لا حدود لها.
وهكذا كلما تصورنا أن الحكي سوف يتقدم إلى الأمام، نجده يعود خلسة إلى الوراء، لا يستقيم الحكي إلا في الماضي، عن طريق تشغيل الذاكرة، ولهذا السبب كان أفراد أسرة ” آل العياشي ” يتوارثون الحزن، والهم، والغم، والألم، ولم يستطع أي واحد منهم تغيير وجهة نظره بوجهة أخرى جديدة وحيوية.
إن البطل في الرواية هي الأرض، وحدها الأرض هنا يدور حولها كل الحديث، والتضارب، والتصادم. وأحيانا كثيرة نلاحظ كأن الزمن يتوقف ويجمد معه حركية الشخصيات بالإضافة إلى حركية السرد، وتظل الأرض ثابتة وراسخة بكل المفارقة التي تحدث بين جنباتها، وهي تعكس هموم الشخصيات التي تبدو عابرة سبيل في الحياة وفي القرية معا، حيث كل التجارب الإنسانية قابلة للتحقيق، وتبقى هذه التجارب التي تدعي الإنسانية في القرية عديمة الإنسانية والمنطق، ويكون تحقيقها مجرد سراب عابر.
يركز السارد كثيرا على أصوله التي يعتبرها أساسا لحياته في القرية، وفي المدينة، فهو يدور طيلة الرواية إيجابا وسلبا حول الأب، والأم، والجد، والجدة، وباقي أفراد العائلة. ويعود هذا الارتباط إلى ” نظرية التعلق “، في مقابل نظرية الفقد أو النفور. والتعلق عبارة عن: ” نزعة فردية داخلية لدى كل إنسان تجعله يميل إلى إقامة علاقة عاطفية حميمة مع الأشخاص الأكثر أهمية في حياته، تبدأ أسسها الأولى مع الولادة وتستمر مدى الحياة “(4).
ونظرية التعلق تربط بوثاق متين بين طالب العطف ومقدمه، لأنها: ” رابط أو وثاق عاطفي بين الشخص ومقدم الرعاية. وتكون مثل هذه الروابط تبادلية بين البالغين، إلا أنها تعتمد على حاجة الطفل إلى الأمن والأمان والحماية بين الطفل ومقدم الرعاية. وتحتل هذه الاحتياجات المكانة العليا في مراحل النمو المبكر والطفولة. وتفترض النظرية أن الطفل يتعلق بمقدم الرعاية بصفة غريزية بهدف البقاء من جهة، ولأسباب جوهرية وراثية من جهة أخرى مثل التطور البدني والاجتماعي والعاطفي “(5)، وهذا بالضبط هو ما كان يرجوه السارد.
ويظل الهدف البيولوجي من التعلق هو البقاء، أما الهدف النفسي المرجو من هذه النظرية فهو نشدان الأمان، وهو بالتأكيد ما كان يدور في عقل، ونفسية، ووجدان السارد. وتنتج عن نظرية، أو عاطفة التعلق ثلاثة أنماط: آمن – انطوائي – مضطرب، ونجد في الرواية أن مسيرة السارد الحياتية سواء وهو يتدرج نموا في القرية، أو وهو يتدرج يافعا ودارسا في المدينة لم تخرج عن هذه الأنماط الثلاثة التي عاشها بكل ثقلها وصعوبتها.
لقد عمل الروائي على استقصاء الذاكرة بطريقة جيدة، وبواسطتها عمل على بناء نصه الإبداعي، واستثمر الذاكرة بأنواعها المختلفة لكي يعمل على بسط تأثيره على جميع المعطيات التي عرفتها قريته وأهلها، وذلك على أساس أن الذاكرة في الرواية تحاول دائما أن تستقصي ما يستعصي على النسيان من الأماكن، والأسماء، والأحداث، وهكذا استعمل الروائي الذاكرة التي يمكن أن نسميها تصريحية من خلال التذكر الواعي، والمضبوط لكل الأحداث والأشخاص التي عرفها بيت الأسرة، فعمل على وصف كل ما يتعلق بأبيه، وجدته، وأمه، وأخيه، وأخته، وتعتبر هذه الذاكرة تصريحية لأنها تساعد على التصريح الواضح والجلي بكل ما يحدث مع الفرد من زاوية أو زوايا قريبة وحميمية. الذاكرة التصريحية تقابلها في قيمتها الذاكرة غير التصريحية، وهي التي اعتمدها الروائي عن طريق سارده في الحديث عن عادات، وأحوال معيشة أهل القرية، وهذا النوع من الأحداث يستطيع الواحد أن يتذكرها، ويسترجعها بطريقة تلقائية، إذ هي لا تحتاج بتاتا إلى التفكير، وإعمال العقل، والبحث.
وظف الروائي بواسطة سارده كذلك الذاكرة ذات النطاق الضيق، أو الذاكرة الآنية، التي تستقصي أشياء قديمة، ويكون مآلها تقريبا النسيان، مثل حكاية الشخصية التي كانت تقريبا متوارية في الرواية ” عبد الرحمن ” الذي غاب عن القرية طويلا، حتى أوشك أهلها على نسيانه مع حكايته. وفي مقابل هذا النوع نجد الذاكرة ذات النطاق الواسع، وهي التي تركز على تمييز الأشياء وضروبها، كما تركز على العادات من خلال تحليلها، وبيان الهدف منها، والرمزية التي تحتويها.
أما الذاكرة السير ذاتية فهي التي اعتمدها الروائي مع سارده كثيرا، ووظفها في الحديث عن ماضي شخصيات القرية، وأحوالهم المعيشية، مع استعادة قيمة الأفكار والمفاهيم التي تمكن من الحكم على الأشياء والموضوعات، وتقويمها بطريقة صحيحة، ومقبولة، ومبررة. ويجب أن نكون على يقين بأن لعبة الحكي في الرواية كانت تراوح بين التذكر والنسيان، إما عفويا، وإما عمدا، من خلال طمس بعض المعطيات التي لن يكون لها بالغ تأثير، أو فائدة في توجيه الحكي. ولا ينبغي لنا أن نعتبر الكتابة بواسطة الذاكرة عبارة عن استرجاع صرف، بل حتى في كتابة الذاكرة يكمن نوع من التخييل الذي يستطيع أن يكون أكثر تعبيرا على المستوى الإبداعي. ونعتبر بأن رواية ” وجع الجذور” تشبه كثيرا رواية “عائد إلى حيفا لغسان كنفاني ” على مستوى استحضار الذاكرة زمانا ومكانا.
حضور الألم كان طاغيا في الرواية، لأن المبدع الروائي ” البشير الأزمي ” اختار أن يكتب الألم بالألم، وهو عبء كبير، وليس بالهين، ولذلك كان للألم دور كبير في بناء الرواية، لأن المبدع كان يتوفر على وعي كبير بالطابع الخاص لمنظور الكتابة بالألم، حيث كان يفهم جيدا معنى الألم الذي عايشه السارد مع أهله ووظفه منظورا للكتابة الإبداعية. لقد كان للسارد صوت بارز يعرف كيف يجوس في الماضي، ثم يعود إلى الحاضر لكي يوثق بين الفترات، والحقب، ودائما بواسطة الألم، فكان علينا أن نركز أكثر لكي نكتشف المعاني الحقيقية لعمق الألم التي تتوارى خلف الشخصيات، والأشياء، والأفعال، والسلوكات. وقد كان الحوار الذي يباشره مع الماضي متباينا مع نظيره في الحاضر، وإن كان أثره، وتأثيره يظل موجعا بلا هوادة، لقد عرف السارد الألم في صور متعددة وصادمة حتى قبل أن يعرف ماذا يعني؟ وما هي مقوماته؟ وآثاره المدمرة على الجميع؟ واكتسب مع مرور الوقت الخبرة الكافية بكيفية توظيف الألم في الرواية.
وشكلت الرواية في مجموعها مصدرا خصبا من مصادر صناعة الألم، وتشكيله، من خلال تجسيده في الخيانة، والفقدان، والاعتداء، والإذلال، والعزلة، وقد ارتبطت هذه المصادر جميعها مع غيرها، وأدت إلى تعميق أسباب الألم في كثرة خيبات الأمل، وتناسل المصائب التي لا يتوقف جريانها في مجموع الرواية، حتى المكان ورغم توظيف جماليته النسبية أحيانا فإنه كان دائم التعبير عن الألم والحزن. إن رواية الألم بصفة عامة هي الرواية التي ترتكز على المرض، أو السجن، أو التعذيب، أو الخلاص من مستعمر، أو أحداث ثورة دامية، وفي رواية ” وجع الجذور ” يبدو لنا وكأن هذه العناصر كلها قد اتحدت مع بعضها البعض، وتداخلت، وأصرت على أن تكون شديدة العمق، والتأثير في تثبيت ليس الألم فقط، بل فائض غزير منه، ولذلك فإن الألم استقر راسخا في الأرض والغربة في ” وجع الجذور “، وقد كان هذا الألم ينتج غالبا عن التغيير، والتحولات التي تطرأ على الحياة الخاصة، والعامة داخل القرية، وفي المدينة، داخل القرية لأنها كانت تشكل فضاء طبيعيا للرواية، وداخل المدينة لأن المبدع وظفها بصورة سوداء لا تختلف سوداويتها عن تلك التي في القرية.
والمرأة بدورها عانت كثيرا من الألم، لكون المجتمع، ومجتمع القرية بصفة خاصة يرفض تحطيم معوقاته الداخلية المسيئة إليها، فكان الألم في الرواية يمس الحرية، والكرامة، والأمن. كما أن ذاكرة الألم ترتبط بالمكان، وتنتج الحزن في ” وجع الجذور “، حتى أضحت القرية في الرواية مكانا أثيرا للفقد، والدفن، وليس للعيش، ولذلك كانت طقوس الجنائز تحمل بشائر الفرح أكثر من طقوس الولادات، وذلك بواسطة التكرار المنتج للفعل الأصلي. وقد منحت الكتابة بالألم للروائي فرصة كبيرة للبناء بالثنائيات طريقا إلى تجاوز قليل، قليل فقط من الألم، والحزن، والعقم، مثل الألم والمتعة، الحزن والفرح، الحلم والكابوس…
…………………..
الهوامش:
- إيمانويل كانط ـ نقد ملكة الحكم ـ كلمة ومنشورات الجمل ـ ترجمة سعيد الغانمي ـ بيروت ـ لبنان ـ ط.1 ـ 2009 ـ ص.165.
- جورج فيلهلم فريديريك هيجل ـ علم ظهور العقل ( المجلد الأول ) ـ دار الطليعة للطباعة والنشر ـ ترجمة مصطفى صفوان ـ بيروت ـ لبنان ـ ط.3 ـ فبراير 2001 ـ ص.134.
- علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني ( ت.816هـ ) ـ كتاب التعريفات ـ دار الكتب العلمية ـ ضبطه وصححه مجموعة من العلماء بإشراف الناشر ـ بيروت ـ لبنان ـ ط.1 ـ 1403 هـ ـ 1983م ـ المجلد الأول ـ ص.144.
- إدوارد جون موستين بولبي 1907 / 1990 ـ التعلق والفقدان Attachement and Lose ـ المكتب العربي للمعارف ـ ترجمة: محمد أحمد محمود خطاب ـ محافظة القاهرة ـ جمهورية مصر العربية ـ ط.1 ـ يناير 2025 ـ ص.ص.10/20.
- الدكتور مصطفى عبد السلام ـ نظرية التعلق Théorie D’attachement ـ دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع ـ عمان ـ المملكة الأردنية ـ ط.1 ـ نوفمبر 2023 ـ ص.18.