رسالة

ناجي العلي فلسطين
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سجى صلاح الدين

إِلي صديقتِي في العالِم الآخر، في مدينة ما بين السهلِ والجبل،،

دَعيني أخبركِ وأفرغ لكَ ما بجوفِي، دعيني أخبركِ كَعادتِي حِين تتمكنُ الحرب مني وتجعلنّي فتاةً تائهة تَبحث عن فُتات النجاةِ في مجارِي الأيام، دعِيني أشكُو وأتذمر دون فاتورةٍ تُجبرنِي أن أتحلَى بالصبر، أو أنحاز تحت عباءَة القدر يا صدِيقتي، دَعيني أحادثكِ دون توقف، أخبركِ عن عجائب الحَرب وكعادتكِ دوماً يا صدِيقتي تقابلِيني بإهتمام فائض واستنكار من أحداثِ مدينة الفانتازيا العمِيقة.
اليوم، كُنت في مقصدِي اليومي للسُوق، فكَما أخبرتكِ قبلاً يا صديقتِي تهترئُ روحِي من الجلُوس معي، أهَرب منّي إليهم، أُقابل الناس وأُبالغ فِي وصف وجوهِهم ، أحَاول تجريدهم من ملامحِ الحرب، مِن تلك البناياتِ المهدومةِ بين حواجبهم، من انهياراتِ البيوت علي جبِينهم، وتساقطِ الشظايا من أعيُنهم، 
أحاول جاهدةً معرفة كيف كَانت وجوهم قبل هذهِ الحرب، دونَ أن تكتسيهُم ملامحُها عُنوة، كَيف كَانت حياتهم سَلفًا قبلَ أن تقتل الميراكفَا الياسمين. 
لا أُخفيكِ سرًا يا صدِيقتي أنّي أحاول التعَايش والتأقلم مع هذهِ الحرب كمَا فعل سكان هذِه المدينة، ولكنّي أفشل فِي معظم الأحيان، تأتِيني الذكريات وتَجرني خلْفها بلا أدنى رحَمة وتلقِيني في نوستالجيَا الحَاضر ، حاولت مرارًا وتكرارًا يا صدِيقتي ولكن مجيئي لكِ حزينةً هو خير برهانٍ على فشلِي الدائم.
بينمَا كُنت أتجول في السُوق أطالع البِضاعة بخوفٍ ورعُب من قيمتها المُبالغ فيها وتداولها كأنّها ممنوعات، شاهدَت امرأةً تتجول بينَ الوجوه بترقب وخوف، أثارَ هذا المَشهد فضُولي وجعلني أترقب معها، كانت تبحثُ في الإتجاهِ الشرقِي فقط، أدرت رأسِي معها وبِت أنتظر المعلوم لهَا والمجهول لِي، فإِذ بها تركَض بإتجاه أحد الشبابِ العائدين من مصائِد الموت ” نتسرِيم” وقتها أدَركت الحَلقة المفقودة وصرتُ أراقبُ بصمت حديثهما.
-“الحمدلله رجعتلي يما الحمدلله، والله بقيت خايفة”
=”جبتلك طحين يما، جبتلك أكل يما، جبتلك اكل وجيت يما، كانو هيطخوني يما بس جبتلك أكل “
أمعنت النَظر بهما، لمشهد العودةِ من الموتِ لأجل الحياة، ألم يكُن هذا الترّقب والشوق لمسافرٍ عائد من الغُربة؟ أم أنّ كلاهما مسافرًا ولكن بإختلاف الوجهة؟ لم يعُد للوقت قِيمة هنا، فالمدُة الزمنية لا تحدد مقدار الشوقِ والترقب بل زخّات الرصاص وحدها من تفعُل ذلك.
صدِيقتي، أدركَ دومًا خوفكِ علينا، تفكِيرك الدائم بِنا، ورغبتكِ الأبدية بفعل أي شيء لإيقاف تلك الحربِ اللعينة، أن تكُف تلك الحَرب عن الزجِ بنا تحت مقصلةِ الموت، وأن تُحلق بنا إلى رصيفِ النجاة، أن تحَمل الأطفال على أجنحة الغيم ليلعبُوا مع الملائكِة، وأن تمنَح الأمهات عمرًا لا يقصُر، أنَ تجعل الخيام قصورًا كما في عالم الخيَال، وأن تبنّي من طابور ” التكِية” سُلمًا نحو النعيم.
  هذِه الحرب لَم تكتِسب اسمها عَبثًا، ولم تُولد من رحمٍ نجس، لم تَكن سوى ظِلٍ خائف مرجفٍ يتستر خلف أجسامِ الآمنين، كانَت كأخطبوطٍ كامنٍ لا يصدر صوتًا حَتى حان الوقت وبخّت أول حبرِها على بُردى الأرض. تَساءل البَشر عنها حِين لطَخت حصادهُم، ولوثَت دواوين شعرِهم، فأجابهم البحر من بينِ الرماد: إنه الصِراع، بعدَها حينما نامَت المباني الساهِرة، وصار الأطفال يتعلمون عدّ الرصاص بدلًا من الأرقام، وأمست النسوة تخِيطُ الكفن بدلًا من فساتينِ الزفاف، ودفاتر الطُلاب أصبحت أداة إحصاء لأَسماء من التهمهُم ذاك الشيء، وتَصاعد بُخار تحلل الأجساد بدلًا من صحن حساء لَذيذ، وأعلنت الوُرود تكاتفها لتَقف في وجهِ الموت فأخرستها فُوهات البنادق وجعلتها رَصاصًا لها، وَقتها تدَخلت الإنسانية بعد أن رأت كُل هذا الخراب وبأنهُ يحتَرف تحرِيف المعانُي وقِتال الزَمن، وجعل المكان طُوفان ،غيرت اسمهُ للحَرب.
صَدِيقتي هَذه الحَرب لم تمنحنا سِوى الدمَار، ولم تُقدم لنا موائد سوى أصناف المَوت، فكما أخبِرك دومًا يا صَديقتي بأن أُقضي معظم يومِي في الشُرفة؛ لأَني لا أطيق الحصار المضاعفِ بين أربعة جدران، أُنهي أعمالِي اليومية، وأطالع يوم العالم كَيف يمضِي، وقتهَا قُصف مكانٌ ما ، هَذا شيء لا يدعُو للاستغرابِ في هذا الوقت ولا حَتى ملحقاته، المُهم بعدَه بدقائق سمعت صوت أبواقٍ تصرخ بجنون فأدركت بأنها مخلّفات القصف، مر ” تكتك” يحمل بعض الإصابات، المحزِن يا صديقتي أنه جميعُهم أطفال، لوّث الدم أجسادهم ، وأَوسخ رمادُ الصاروخِ ملابسهم الجميلة، لم ينقلوا في إسعافٍ كما باقي مُصابي العالم، بل في ” تكتك” يهتز أكثر من وترِ العُود، وكما هُو متوقع جميع أولئك الأطفال استشهدُوا ، ولسوءِ الحظِ أنهم إخوة،أُخذوا من المستقبلِ للجنة، كم رغِبت بالبكاءِ، ولكن أدركت بأن اعتياد المشاهد والمَوت جعل دموعي تتشبثُ بعيناي دون رغبةٍ منها لسُقيا خدّاي، بعدها بوقتٍ قصير مرّت جنازتهم مُسرعة، تساءلتُ لم أمسينا نستعجل للموت دون فرامِل؟ أن نمنع الميّت من بضع دقائق يودع الحياة بِها؟ أو آخر فرصة ليتشبث بالحياةِ؟ ولكنهُ سؤال غير منطقي يا صدِيقتي، لأن أحد الأطباء سيجيبني أنه بحاجة كفنه لميّتٍ آخر في أسرع وقت، ولا وقتَ لرمسنةِ الأحداث وتراجيديا المواقف تلك، فِي أثناء تفكيرِي كانت والدتهم تركَض خلف الجنَازة وتصرخ :” خلولي واحد أمانة أنا راضية، واحد بس”، لم يلتفت أحدٌ لها، لم يعِيروها أي اهتمامٍ خلفهم جنازات مؤجلة، والتخلفِ عن الوقت سيجعله يهذِي بتعاويذ الموت، لم يوقفُوا الجنازة لأجلها، ولم يمنحوها طفلًا لتحتفظَ به، أكملوا طريقهُم وحسب وتركُوها وحيدةً بلا أي طفل رغم توسلها.
صدِيقتي في الشِق الآخر من الوطن، أحادثكِ الآن وأنا فِي الشرفة كالعادة، أُجاور القمر، وأستمعُ لإحدى المزجات الموسيقيةِ التي شاركتكِ إياها سابقًا، ويبدُو أنها لم تنل إعجابكِ أنت وحسب فقبل دقائق نادتني فتاةٌ من جيراننا الجُدد وطلبت أن أُشاركها هذا المزجِ الموسيقي عبر ” البلوثوت”، أترينّ يا صديقتي كَيف نحب الحياة والموسيقَى والفن، كَيف نتمسك بذراعِ النجاةِ على أعتابِ بابِ المعركة ، كَيف نسمع “أم كلثُوم” ومزامير الصوارِيخ لا تتوقف، كَيف نرقص طَربًا وحجارة من السجيل تنزل علينا، نحن نُحب الحياة يا صدِيقتي ونرغب بالعيش فيهَا ما استطعنا إليها سبيلا.
صديقتي، أدركُ بأني أطلت عليك بحدِيثي، آلمت قلبك على حالنا، وحملتُك هم الوطن والحَرب كاملًا على أكتافك ولكن لا بأس ، أرجوكِ بأن تسمعِيني دومًا، أن تدعيني أحادثك دون أي توقف أو خوفٍ من سَأمِك، دعِيني أكتب لك رسائل دومًا، وأن أرسل لك رسائل صوتية لا تتوقف .
صدِيقتي نسيت أن أسألك، كَيف حالك؟
 

مقالات من نفس القسم