حاورها: أسعد الجبوري
قالت لي عبر جهاز الموبايل إنها ستكون جاهزة للحوار بمجرد عودة أعضاء جسدها إليها بعد أن يذهب كلٌّ منهم إلى مكان بشكل يومي، لذا انتظرنا لحظة تجميع قطع غيارها دون نقصان.
وما أن وضعتنا الشاعرة السويدية كارلا بيترسن (08/07/1912 — 22/04/2003)، التي استعملت الاسم المستعار “ماريا واين” للكتابة والنشر والشهرة، حتى قام طائر “اليورا” بنقلنا تحت جناحيه إلى قصر البلور المتاخم لنهر السكارى القريب من محطة إذاعة وتلفزيون التلال.
بعد أقل من ساعة، أطلت علينا الشاعرة وهي تسوق راكبةً على سكوتر كهربائي خاص بالتنقلات السريعة تفاديًا للزحام المروري.
توقفت وصافحتنا. بعد ذلك توجهت بنا إلى شرفة تملؤها أريكة عريضة من القماش الأزرق. جلسنا على أنغام أغنية “أكذب عليك” للمغنية وردة الجزائرية، تحيط بنا جوقة من فتيات الغيشا وهنّ يوزعن الكؤوس والفواكه وأنواع المكسرات من جوز وفستق ولوز وكاجو.
ها نحن معًا. ماذا بذهنك من أسئلة يا أسعد؟
سألتني الشاعرة ماريا، ففتحتُ عليها باب الحوار بالسؤال الأول:
س: ما الأحب إلى نفسك يا ماريا: النسمة أم العاصفة؟
ج: كان الأحب لنفسي من الاثنين قطعة من الأثير المعطّر.
س: المعطّر بماذا؟ بزيت الحوت، بروح الأناناس، بأوراق البتشولي، أم بشغاف الفلفل الأحمر وأزهار الياقوت؟
ج: بالندم ليس إلا.
س: هل يمكن للشعر أن يكون برائحة مثلًا؟
ج: نعم، الشعر هو تلك الرائحة التي تفيض من رحم اللغة إلى الفضاءات المفتوحة على الأبدية.
س: هل تفيض تلك الرائحة دون دوافع؟
ج: لا، ذلك ما لا يحدث دون دوافع البتة. وأنا عشت تلك الجريمة في الفصل الابتدائي من حياتي. فبعد انتزاعي من رحم أمي، سرعان ما قُذف بي إلى أحد ملاجئ كوبنهاغن. شعرت بعاصفة من الروائح الخانقة تطوقني وتخنق صدري.
س: كيف يمكن أن تكون الرائحة مؤلمة؟
ج: عندما تقتحم جسدك كالأخطبوط، ولا تملك أنت قوة للدفاع عن نفسك.
س: وهل تكوّنت رائحة الشعر منذ تلك اللحظة يا ماريا؟
ج: بالضبط. آنذاك أحسستُ أن الشعر بدأ بالتكوّن في رائحة الملاجئ، تلك الرائحة التي حملت جنحة التخلي حتى عن اسمي “كارلا بيترسن”، لأنمو تحت اسمي المستعار “ماريا واين”.
س: هل كان من خطأ في الخريطة الجينية ليحدث لطفولتك كلّ ذلك؟
ج: لا أعرف لمَ حدث لي ذلك. وحينما كنت أسأل والدي البيولوجي، المخرج كارل كيفر، الذي التقيته عدة مرات في حياتي، لم يظهر لي سوى الصمت.
س: ولم يأكل والداك فاكهة الندم؟
ج: لا أبدًا. كأنهما جُبلا بمادة التخلي الخام بيولوجيًا وسيكولوجيًا وروحيًا.
س: ألا تعتقدين بأن الطفولة تنبت في الشعر كما النباتات بالتربة؟
ج: قد لا يتم ذلك بشكل دائم، لأن طفولات الملاجئ ودور الأيتام عادةً ما تنبت على غرار الألغام تحت الأقدام.
س: كيف كنتِ مع الكلمات؟
ج: كانت علاقتي معها أشبه بتلك العلاقة التي تربط “توم” بـ”جيري”، كلٌّ منا ينصب فخًا للآخر.
س: ألم يكن ذلك جميلًا؟
ج: أنا مع القصيدة التي تمتلئ بالفخاخ ونقاط التفتيش والحراس.
س: هل كنتِ تخافين أثناء كتابة القصائد يا ماريا واين؟
ج: بالضبط.
س: وممّن كنت تخافين؟
ج: من أولئك الذين يتساقطون ما بين أصابعي وأنا ألتهم الكلمات بالكتابة.
س: أهم من فصيلة الملائكة أم من الأشباح أم كانوا مخلوقات أخرى؟
ج: أظنهم من المخلوقات التي لم نرَ منها أمثلةً على الأرض. هم مخلوقات تارة تقبّل شفتي، وتارة أخرى تأخذني بمداعبة الثديين. كما أن بعضهم يكسر عمودي الفقري مع تحطم السرير.
س: أكانوا وقحين يا ماريا؟
ج: لا، ليسوا وقحين، بقدر ما كانوا متمكنين من وظائفهم أثناء بلوغ الشعر الذروة.
س: هل كنت تكتبين قصائدك بمساعدة منهم؟
ج: بالضبط، فكلما وقعت لغتي تحت تأثير الجليد، كنت أستنجد بعضلاتهم لتوليد النيران واستعادة حرارة اللغة.
س: بمن كنتِ تتأثرين يا ماريا واين؟
ج: بالشيطان الحيوي، صاحب الكرافيته الحمراء والجاكيت المفتوح من الخلف كحصان طروادة.
س: ما نسبة الحب في دمكِ الشعري؟
ج: ربما كانت هي الأعلى من نسبة الدمع في أغنية الروح الذابلة خلف ستارة المسرح الذي كنا نعيش تجاربه في ذلك الوجود.
س: هل يُلخص كتابك الشعري “لماذا أنكرتني” مسيرة حياتك كلها؟
ج: لا وأبدًا، فلا الندم يستهويني كلازمة غنائية، ولا تقريع الذات أو تأنيب الزمن بنافع عندي. والشعر الذي لا يستطيع إخراجي من العتمة، لا يمكنني التعايش معه تحت الضوء.
س: هل سبق لكِ أن أحببتِ سيغموند فرويد؟
ج: كثيرًا ما كان يراودني عن نفسي في المنام، لكن زوجي “آرتور لوندكفيست” يقوم بطرده من تحت السرير.
س: هل كان زوجك آرتور منقذًا لوجودكِ الذي كنتِ تعتبرينه هشًا؟
ج: بالضبط، كان لقاء القطار بآرتور أجمل مخلّص لي من الهشاشة التي عشتها قبل 23 سنة من عمري. تزوجت به في كوبنهاغن عام 1936، وعشت معه حتى رحل في ديسمبر 1991.
س: ما الفكرة التي برأسك عن الموت؟
ج: الموت يمنح كلّ مغادر منا جائزة تُسمى الأرض. هل هناك ما هو أعظم من تلك الجائزة؟
س: الجائزة بطابو؟
ج: أجل، فكلّ ميتٍ من الموتى يكون صاحب الأرض، ومن خلال الصراع ما بيننا نحن الموتى، ستخرج الابتكارات وحالات الخلق.
س: أنتِ، هل اخترعتِ بعد الموت شيئًا؟
ج: بالتأكيد، أنا صنعت من أمي كتلة نار سوداء، تهرول بين الموتى ولا تكف عن الهذيان بالحديث عن الندم.
س: هل عشتِ حياتك كقصيدة كما قلتِ ذات مرة: “سأجعل حياتي قصيدة، قصيدة مهمتها الوحيدة البحث عن عشّ الآلهة الصامتة”؟ وهل عثرتِ بعد الموت على ذلك العش؟
ج: أنا بداخل ذلك العش الآن، وأتمتع بالدفء العاطفي المثالي بأعلى درجاته. فالآلهة هنا صُنّاع متع، ويسكبون الأنوار في الأجساد لتختلط باللحوم وتنجب الشهوات العظيمة.
س: الشهوات بأجنحة أم بأقدام يا ماريا واين؟
ج: لا وجود للأقدام هنا، فترابنا الأرضي القديم الذي منحنا إياه الموت، سرعان ما تمّ محوه بفعل ذوبان الأرض في الأنفس وتحولنا إلى كائنات بظلال الفالس.
س: هل تؤمنين بالشهوات العابرة للأجساد؟
ج: لا، ولكنني أؤمن بقوة أعين الشهوات ذات النظرات الحادّة حين تجرف كلّ جبال الجليد بطريقها فيما لو رغبت الاحتراق بالمحبوب.
س: ما مدى مفعول الأعمال الجنسية هنا؟
ج: كلّ الأجساد تؤدي إلى الجنس، إنه طاحونة عظمى، كلما دخلناها للتمتع والتبرّج والتزلج، سرعان ما نخرج منها بأعضاء تناسلية متطورة وذات أشكال لا تشبه تلك الأعضاء القديمة التي كانت لنا يوم كنا على الكرة الأرضية. هناك… هناك.
س: ألا تعتقدين بأن على الشعراء أن يقوموا بتنقيح أحلامهم على غرار تنقيح مواقع موتهم بالانتقال من تحت التراب إلى منازل الأثير؟
ج: أنت تحكي عن الضرورة، وأنا مع تنقيح الموت أيضًا. الضرورات طريقٌ سريع إلى التبدّلات.
س: هل الشعراء سلسلة جبلية لا تنتهي بموضع أو بمقام أو عند فاصل جغرافي؟
ج: هذا الأمر هو ما يخشاه الشعر على نفسه من وراء عدم منفعة التواصل فيما بين جبال تلك السلسلة.
س: لماذا تعتقدين بذلك يا ماريا واين؟
ج: أعتقد بأن التواصل الاندماجي فيما بين الشعراء سيقودنا إلى عدوى تأثّر النصوص بعضها بالبعض الآخر. ذلك لا يسلب الشعر طاقته الحيوية بالاختلاف فحسب، إنما يعرّضه للسبي اللغوي حكمًا.
س: وأنتِ كامرأة شاعرة يا ماريا واين، هل لامستِ سقف الرومانسية؟
ج: أنا لم أستعن بالرومانسية لتنقذ قصائدي من التلف أو من التجلّد، إنما وجدتها تخرخش بأجراسها تحت ملابسي الداخلية، وربما كانت تحشر رأسها بنبع الربيع الأحمر. هناك أمور ربما لا مهرب منها.
س: متى رأيت البحرَ حائطًا أزرق؟
ج: حين فقداني لإيقاع الشغف، يوم كنت أتدلّى من على خيط الاستواء.
س: هل كانت الهاوية تنتظرك؟
ج: لا، أغنيتي وحدها هي من كانت تنتظر عودتي مع عصفور الفجر الذي هرب من دار الأيتام، وطار محلّقًا بقلبي الشبيه بزهرة عباد الشمس.






