عودةٌ إلى باريسْ:المؤلفُ وراءَ جهازِ كمبيوتره..وسَطَ قواميسِهِ هذه المَرّةْ.
هو مُولعٌ بها..يقولْ.مِنْ جهةٍ أُخْرى نعْرفُ وهذه هي خُلاصةِ الفيلمِ:أنّه دخلَ قاموسَ لو روبير[3] إلى حَرْفِ (ب/B) تحْتَ اسْمِ بناكْ مِنْ اسْمهِ الكامل بناكشيوني.. دانيال مِنْ اسْمه[4].أمّي..والحالةُ هذه..تشاهدُ هذا الفيلم في رفْقةِ أخي برْنارْ الذي سَجَّلهُ مِنْ أجْلها.تشاهده مِنْ أَوّلهِ إلى آخرهِ وهي لا تتحرّكُ فوْقَ مقْعدِها..عيْناها في حالةِ ترْكيزٍ شديدٍ..دونَ أنْ تنْبسَ بِبِنْتِ شَفةٍ في المساءِ الذي حَلَّ.
نهايةُ الفيلمْ.
مُقدّمةُ الفيلمْ.
سكوتْ.
بعْدَ ذلكَ تسْتديرُ ناحيةَ برْنارْ وتسْألْ:أتعْتقدُ أنَّهُ سَيُشْفى ذاتَ يوْمٍ؟
(2)
كمْ كنتُ تلميذاً سيّئاً[5] غيْرَ أنَّها لمْ تصلْ تماماً إلى درجةِ أنْ تَزْجرَني.اليوْمَ شعورها شعورُ امْرأةٍ عجوزٍ جِدَّاً تهْجرُ شواطيءَ الحاضرِ كي تَرْتَدَّ بهدوءٍ في اتجاهِ أرْخبيلِ الذاكرةِ البعيدِ..الحشَفة[6] الأولى ـ كي تنْبثقَ مَرَّةً أخْرى ـ تُذكّرها بانْشغالِ البالِ هذا الذي كانَ يَقْضمُها طوالَ فتْرةِ دراستي.
تُلْقي إليَّ نظْرةً مهْمومةً وببطءْ:
ـ ماذا تفْعلُ في الحياةْ؟
في وقْتٍ مُبكّرٍ جِداً بَدا لها مُسْتقبلي قاتماً للغايةِ درجةَ أنَّها لمْ تَطْمئنْ تماماً لِحاضري.لمْ أكُنْ شَيْئاً كي أصْبحَ شيْئاً..لمْ أكنْ أبْدو لها مُسلَّحاً حتَّى أدومْ.كنتُ طفْلها الوقْتيّ.لقدْ عرفتْني مع هذا وأنا أتخلّصُ مِنْ مآزقي منْذُ شهْرِ سبتمبر 1969 يوْمَ أنْ دخلْتُ فصْلِي الأوَّلَ بصفتي مُدرّسَاً.لكنْ في غضونِ عشراتِ السنينِ التي تَلَتْ هذا (هذا يعْني أثناءَ مُدّةِ حياتي وأنا بالغ) قاومَ انْشغالُ بالِها سِراً كلَّ (براهين النجاح) التي جَلَبتْ عليها مُكالماتي الهاتفية..خطاباتي..زياراتي..صُدور كتبي..مقالات الجرائد أوْ مروري عند بيڤو.لا اسْتقرارُ حياتي المِهنيّةِ ولا معْرفةُ عمَلي الأدبيّ..لا شَيءَ ممَّا كانتْ تسْمعهُ يُقالُ عنِّي بواسطةِ آخرين أوْ ما كانتْ تسْتطيعُ أنْ تُطالعهُ في الصحفِ لمْ يُطَمْئنْها كُلّيّةً.بالتأكيدِ..كانتْ تبْتهجُ بنجاحاتي مُتحدّثةً عنْها مع أصْدقائها مُعْترفةً أنَّ أبي ـ الذي ماتَ قبْلَ أنْ يتعرَّفَ إليْهمْ ـ كانَ يُمْكنُ أنْ يُسَرَّ بنجاحاتي..لكنْ في قرارةِ نفْسها كانَ يقْطنُ قَلقُ أنّها تَسبَّبتْ وإلى الأبدِ في ولادةِ تلميذٍ سييءٍ منْذُ البداية. هكذا كانتْ تُعبِّرُ عن حبِّ الأمِ..حينَ كنْتُ أمْزحُ معَها فيما يَخصُّ لذَّاتِ القلقِ الأُموميِّ كانتْ تَردُّ بلُطْفٍ بِنُكْتةٍ على طريقةِ وودي ألين:
ـ ماذا تريدُ..كلُّ الرحَّالاتِ ليْستْ أُمّهاتٍ لكنْ كلُّ الأمهاتِ رحالاتْ.
و..اليومَ لمْ تعدْ أمي العجوزُ الرحالةُ حاضرةً..إنّه مِنْ جديدٍ ذلك القَلقُ الذي يبْدو في عيْنيْها حينَ يسْتقرّانِ على صغيرها الأخير ذي الستين عاماً.قلقٌ قلَّلَ مِنْ شِدَّتِها..هَمٌّ مُتحجّرٌ..لمْ يعدْ سوى عادتها هي نفْسها..لكنْ ما يمْكثُ صَلْباً بالقدْرِ الكافي مِنْ أجْلِ أنْ تسْألني أمّي..هو يَدُها المَوْضوعةُ فوْقَ يَدي حينَ أتْركها:
ـ أَلديْكَ شَقَّةٌ في باريسْ؟
(3)
إذاً.. كنْتُ تلميذاً سَيّئاً.كلَّ مساءٍ مِنْ مساءاتِ طفولتي كنْتُ أعودُ إلى منْزلي تُلاحقني مَدْرستي.كانتْ كرّاساتي تَرْوي توْبيخَ أساتذتي الشديدَ لي.حينَ لا أكونُ الأخيرَ في الترتيبِ على الفصْلِ فهذا يعْني أنَّ ترْتيبي هو قبل الأخيرْ.
(سَهْلٌ طبَاشيريٌّ!)
عصيُّ الذّهْنِ على الحسابِ أوَّلاً..ثمَّ على الرياضياتِ بعْدَ ذلكَ..ثمَّةَ أخْطاءٌ إمْلائيةٌ بعُمْقٍ..مُتمرّدٌ على حِفْظِ التواريخِ..على حَصْرِ الأماكنِ الجُغْرافيةِ..غيْرُ جديرٍ بالتدرّبِ على اللغاتِ الأجنبيةِ ..مَشْهورٌ بالكسَلِ (دروسٌ لا تُسْتذْكرُ..عملٌ لا يُؤدّى)..
كنْتُ أَجْلبُ إلى المنْزلِ نتائجَ تَدْعو إلى الرثاءِ..لمْ تكنْ تُكفّرُ عنْها لا الموسيقى ولا الرياضةُ ولا حتَّى أيُّ نشاطٍ دراسيٍّ آخرْ.
ـ هلْ تفْهمْ؟..هلْ تفْهمُ ما أقومُ بشرْحهِ لكَ فقطْ؟
لمْ أكنْ أفْهمْ.كان عَدمُ القُدْرةِ على الفهْمِ هذا يعودُ إلى طفولتي أبْعدَ كثيراً مِن الأسطورةِ التي تَخيَّلتْها أُسْرتي كي تُؤرّخَ منْها للأساسياتِ:تَدرّبي على الحروفِ الأبجديةِ.كنْتُ أسْمعُ مَنْ يقولُ بأنّني أحْتاجُ إلى عامٍ كاملٍ كي أحْفظَ حرْفَ الـ (a).حرفُ الـ (a) في عامٍ.
كانتْ صحْراءُ غبائي تبْدأُ بعْد ذلكَ مِنْ حرْفِ الـ (b) الذي لا يُقْهرُ.مَا مِنْ هَلعٍ..في غضونِ ستّةٍ وعشرينَ عاماً سيعْرفُ حروفَ أبجديّتهِ بامْتيازٍ.هكذا كان أبي يتهكَّمُ كي يُلْهي نفْسهُ عمَّا في داخلهِ مِنْ خَوْفٍ.فيما بعدُ بسنواتٍ عديدةٍ كنْتُ أُعيد سَنَتِي النهائيةَ لِنَيْلِ الشهادةِ الثانويةِ التي أفْلتتْ منِّي بإصرارٍ..ثمَّ سيقولُ أبي هذه العبارةْ:
ـ لا تقْلقْ..حتَّى بالنسبةِ للثانويةِ العامةِ ستحْصلُ عليْها بشْكلٍ آلي…
أو..في سبتمبر1968 كانتْ شهادةُ ليسانسِ الآدابِ أخيراً في جيْبي:
ـ كنْتَ تحْتاجُ إلى انْقلابٍ مِنْ أجْلِ شهادةِ الليسانس..أَلابُدَّ أنْ نخْشى وقوعَ حَرْبٍ عالميةٍ مِنْ أجْلِ شهادةِ الأسْتاذية؟
قيلَ هذا دونَ سُوءِ نِيَّةٍ شخْصيةٍ.كانَ هذا هو حَالنا في التواطؤ.بسرعةٍ تكفي فَضَّلْنا الابتسامَ..أبي وأنا.
لكنْ لِنعودَ إلى بداياتي.كنْتُ المولودَ الأخيرَ بيْنَ أرْبعةِ أخوةٍ..وكنتُ حالةً شَاذةً.لمْ يكنْ لَدَى أبي وأمي وقْتٌ لِيتدرَّبا مع أخْوتي الذين كانوا يَكْبرونني والذينَ جرَتْ الأمورُ دونما مُعارضةٍ كي لا تكون دراستهمْ مُتألقةً بشكْلٍ اسْتثنائيٍّ.كنْتُ مَثارَ ذهولٍ..ذهولٍ دائمٍ إذْ أنَّ السنواتِ كانتْ تَمرُّ دونَ أنْ تحْملَ لي معها أدْنى تَحسّنٍ في حالةٍ بلادتي الدراسيةِ.(يُذْهلني هذا)..(لمْ أُصرّْ على التفكيرِ فيه)..كانَ ثمَّةَ تَعجّبٌ عائليٌّ يُشاركني نظراتِ بلوغي حيْثما أرى بشكلٍ جيدٍ أنَّ عجْزي عن الاستيعابِ أيّاً ما كان يُشْبهُ حَفْرَ هاويةٍ مِنْ جحودْ.
ظَاهريّاً..كانَ الجميعُ يفْهمونَ أسْرع منّي بكثيرٍ.
ـ أنْتَ بليدُ الذهْنِ تمامَاً!
ذاتَ ظهيرةٍ ما في سَنةٍ مِنْ سنواتِ الشهادةِ الثانويةِ (إحْدى سنواتِ الثانويةِ)..أعْطاني أبي درْساً في مادةِ حسابِ المُثلّثاتِ في الحُجْرةِ التي كانتْ تُؤدّي دوْرَ حجْرةِ المَكْتبةِ.كانَ كلْبُنا يرْقدُ في هدوءٍ فوْقَ السريرِ خَلْفنا.لافتاً الأنْظارَ مالَ أبي إلى الوراء بجفاءٍ وقالَ:
ـ اخْرجْ أيُّها الكلبُ مِنْ هنا!
بعْدَ ذلكَ بخمْسِ دقائقَ كان الكلبُ مرةً أخْرى فوقَ السريرِ.تحْديداً تَعهَّدَ بأنْ يبْحثَ عن الغطاءِ القديمِ الذي كانَ يَقي مقْعدهُ وأنْ ينامَ فوْقهُ.
إعْجابٌ عامٌ..بكلِّ تأكيدٍ..ومُبرّرٌ:أنْ يستطيعَ حيوانٌ أنْ يرْبطَ ما بيْنَ المنْعِ والفكْرةِ المُجرّدةِ للنظافةِ ويخْرجُ منها بالخلاصةِ التي يُرتّبُ فِراشَهُ بناءً عليْها كي ينْعمَ بصُحْبةِ مَالكيهِ..فلأرْفعْ له قُبّعتي..بالتأكيدِ هذا مَنْطقٌ يُوثقُ بِهْ!
كانَ هذا موْضوعاً للمُحادثاتِ العائليةِ التي عبرتْ العصورَ.شخْصياً..فررْتُ من التعليمِ الذي حتّى كلبُ المنزلِ كان يسْتوعبهُ أكْثر سرعةً منّي.أعْتقدُ أنني سَأهْمسُ في أُذنِهِ:
غَداً..أنْتَ مَنْ سَيذْهبُ إلى المَدْرسةِ..مُتملّقاً.
(4)
سَيِّدانِ مُسنّانِ يَتنزَّهانِ على شاطيء اللوب..نهْر طفولتهما.أَخَّانِ.أخي برنار وأنا.كانا يغوصانِ في هذا النقاءِ منذ نِصْفِ قَرْنٍ مضى.كانا يسْبحانِ وسَطَ أسْماكِ الطّحَّانِ التي لمْ يكنْ يُرْعبها ضجيجُهما.أتاحتْ أُلْفةُ الأسماكِ لهما أنْ يَظنَّا أنَّ هذا السرورَ سيدومْ.كانَ النهرُ يجْري بيْن مُنْحدريْنِ.حينَ تَتَبَّعهُ الأخانِ حتَّى البحْرِ..تَارةً يحْملهما التيارُ وتَارةً يمْشيانِ على الصخورِ أدْركا أنَّهما سوْفَ يتوهانْ.كي يلْتقيا مرةً أخْرى كانا قدْ تعلَّما كيْفَ يُصَفّرانِ باسْتخدامِ أصابعهما.كانَ ثمَّةَ صَريرٌ طويلٌ يَرْتدُّ مِن الحواجزِ الصَخْريةْ.
اليوْمَ..انْخفضَ مُسْتوى المياهِ..اخْتفت الأسماكُ..زَبَدٌ لَزِجٌ وراكدٌ يُعْلنُ انْتصارَ المُبيداتِ المُنظّفةِ على الطبيعةِ.لمْ يَبْقَ مِنْ طفولتنا سوى شَدْوِ عصافيرِ الحصادِ..سوى حرارةِ الشمْسِ الصمْغيّةِ.ثمَّ نعْرفُ دائماً كيْفَ نُصفِّرُ باسْتخدامِ أصابعنا..لمْ نفْقدْ أبداً أذُناً.
أقولُ لبرنار إنّني أحْلمُ بتأليفِ كتابٍ يتعلَّقُ بالمدرسةِ. ليْست المَدْرسةُ التي تتَغيّرُ في المُجْتمعِ الذي يتغيَّرُ كما تَغيَّرَ هذا النهْرُ..لكنْ في قلْبِ هذه البَلْبلةِ المُتواصلةِ يتعلَّقُ بما لا يتغيّرُ.تحْديداً..بشيءٍ دائمٍ لمْ أسْمعْ أحداً يتحدثُ عنْه أبداً:الألمُ الذي يشْطرُ التلميذَ الكسولَ إلى نصْفيْنِ..ألَمُ الآباءِ..ألمُ المُدرّسينَ..كتابٌ يتعلقُ بتفاعُلِ كلِّ هذه الأحْزانِ المَدْرسيةْ.
ـ مَنْهجٌ ضَخْمٌ..كيْفَ سَتُلمُّ به؟
ـ مُهيّئاً الطعامَ على سبيل المثال.أيّةُ ذكْرياتٍ مازلْتَ تحْتفظُ بها عَنْ عدَمِ كفاءتي..فلْنَقُلْ في الرياضياتِ مثْلاً؟
كانَ أخي برنار الفَرْدُ الوحيدُ في أُسْرتي الذي لديْهِ القُدْرةُ على مُساعدتي في عمَلي الدراسيِّ دونَ أنْ ألْجأ إلى حَبْسِ نفْسي كَمَحَارةٍ.كنَّا نتقاسمُ الحُجْرةَ نفْسَها حتَّى دخولي الصفَّ الخامسَ حيْثُ قُبلْتُ في مدرسةٍ داخليةٍ.
ـ في الرياضياتِ؟ بدأَ هذا بالحسابِ..أنتَ تعْرفُ!
ذاتَ يوْمٍ سألْتُكَ ماذا تفْعلُ بهذا الكَسْر الاعتيادي الذي تراه أسْفلَ عينيْكَ.فأجبْتني بشكْلٍ آليٍّ:(يجبُ أنْ نُحوّلهُ إلى عَامِلٍ مُشْتَرَكٍ[7].)
لمْ يكنْ سوى عاملٍ مشترَكٍ ..إذاً عاملٌ مشتركٌ وحيدٌ.لكنّكَ لا ترْجعُ عمَّا أنْتَ فيهِ:ألابُدَّ مِنْ تحْويلهِ إلى عاملٍ مُشْترَكٍ!
كمْ كنْتُ لَحوحاً:فَكِّر قليلاً..يا دانيَل لا يُوجدُ هنا سوى عاملٍ مشتركٍ وحيدٍ.سخرْتَ منِّي غَاضباً:إنّه المُدرّسُ الذي قال ذلكَ.يجبُ تحْويلُ الكسورِ إلى عواملَ مُشْتركةٍ!
كانَ السيدانِ يبْتسمانِ طوالَ نُزْهتهما.كلُّ هذا بعيدٌ جداً خلْفهما.عمِلَ أحدُهما مُدرّساً خلالَ خمْسةٍ وعشرينَ عاماً:ألْفانِ وخمْسِمائةِ تلْميذٍ تقْريباً..كانَ عددٌ أكيدٌ منْهمْ في [صعوبةٍ بالغةٍ]..حسْبَ التعبيرِ الشائعِ.
كانَ كلا الاثْنيْنِ ربَّ أُسْرةٍ.(قال المدرسُ أنَّ…).. يعْرفانْ.الأملُ الذي يضعهُ تلميذٌ كسولٌ في كثْرةِ الطلبات..نعمْ..كلماتُ المدرسِ لمْ تكنْ سوى ألْواحٍ خشبيةٍ يتشبَّثُ التلميذُ السييءُ بها فوْقَ نهْرٍ يجْرفهُ تيَّارهُ حتَّى الشلالاتِ.ردَّدَ ما قاله المدرسُ.ليْسَ لأنَّ هذا كان ذا معْنى..وليسَ لأن القاعدةَ قدْ تَجسَّدتْ..كلا..بلْ كي يتخلَّصَ مِنْ مَآزقه المُؤقّتةِ..كي [أُحَرَّرَ].أوْ كي أُحَبَّ. بأيِّ ثَمنٍ.
ـ …
ـ كتابٌ عَن المَدْرسةِ حينئذٍ؟
ألا تَرى أنَّ الكتبَ التي تتناولُ هذا الموضوعَ ليْستْ موجودةً بالقدْرِ الكافي؟
ـ ليْسَ عَن المدْرسةِ!فالجميعُ مُهْتمونَ بالمدرسةِ..نِزاعٌ أبديٌّ للقدماءِ والمُحْدثينَ:مناهجها..دورها المُجْتمعيُّ.. قَصْديَّاتها..مَدْرسةُ الأمْسِ..ومَدْرسةُ الغدِ..لا..كتابٌ عَن التلميذِ الكسولِ!
عنْ ألمِ عَدَمِ الفَهْمِ وآثارهِ الجانبيةِ.
ـ …
ـ …
ـ أتستطيعُ أنْ تقولَ لي شيْئاً آخرَعن التلميذِ الكسولِ الذي كنتُهُ؟
ـ أنْتَ تتذمَّرُ مِنْ عدَمِ امْتلاكِ ذاكرةٍ.لقدْ كانت الدروسُ التي أشْرحها لكَ في المساءِ تتبخّرُ حالما يَجيءُ الليلُ. وتكونُ في صباح اليوم التالي وقد نسيتها كلَّها.
الحقيقة أنَّ…
لمْ يكن شيء يرسخ في ذاكرتي كما يقولُ شبابُ اليوْمِ.
لمْ يكن ثمة ما يجذبني.لمْ يكن شيء يرسخ في ذاكرتي. كانت أبسط الكلمات تفقد فحواها ما إنْ يُطلب مني أنْ أتأملها كمادةٍ للمعرفة.لو كان عليّ أنْ أتعلم درساً عن مرتفعات ﭼورا[8] على سبيل المثال (أكثر من مثال..فإنه بالنظر إلى ذلك تَذكّر دقيق جداً)..هذه الكلمة الصغيرة ذات المقطعين تتحلل في الحال حتى أفقد كل ألفةٍ مع (فرانش ـ كومبيه..لين)..متجر الساعات..الفراديس.. الغليون..الارتفاع..البقر..صعوبات الشتاء..سويسرا المتاخمة لحدودنا.مرتفعات الألب أو الجبل السهل.لم تعد تُمثّل تِلْكمُ الكلمة لي أي شيء.. ﭼورا..قلتها لنفسي.. ﭼورا؟ ﭼورا..ورحتُ أردد الكلمة دون أن أَكِلَّ كطفل لم يَنْتَهِ بعْدُ من مَضْغها..مضْغها لا ابتلاعها..ترديدها لا تَأمُّلها..حتى تحلّلها التام مَذاقاً ومعنىً.أمضغ..أردد.. ﭼورا..ﭼورا..ﭼورا..ﭼو…را..ﭼو..را ﭼو را ﭼو را ﭼورا ﭼورا ﭼورا..حتى تصبح الكلمة مطرقةً ضخمة ترن بلا نهاية..دون أقل بقايا المعنى..ضجة دبِقة لسِكِّيرٍ داخل مخ إسفنجي..على هذا النحو أنام على درس الجغرافيا.
ـ كنتَ تؤكد أنك تكره حروف البداية[9]!
آه! حروف البداية هذه ديدبانات مُفزعة!
كان يبدو لي أنها تنتصب داخل أسماء الأعلام وداخلي أنا كي تمتنع عن مُخالطتي.كل كلمة لَحِقَ بها حرف بدايةٍ كانت منذورة للنسيان الآنيّ:مدن..أنهار..معارك.. أبطال..معاهدات..شعراء..مجرَّات..نظريات..
محظورات الذاكرة بسبب حرف البداية المذهول. قف..كان حرف البداية يتعجب..لم أَعْبر باب هذا الاسم ..إنه أكثر خصوصية..لستُ جديراً به..أنا أبْله!
كان برنار دقيقاً ..طوال طريقنا:
ـ حرف صغير جداً..أبْلهْ!
ضحكاتُُ أخّيْن.
ـ فيما بعد..كان ثمة تمرد على اللغات الأجنبية:لم أكن أستطيع أن أنتزعني من فكرة أنَّ هناك فيها أشياء أكثر ذكاءً بالقياس إليَّ.
ـ ما كان يُعفيك من تعلم قوائم المفردات.
ـ كانت كلمات اللغة الإنجليزية تتبخر كأسماء الأعلام…
ـ …
ـ …
ـ كنتَ تروي لنفسك حكايات..في مُجْملها.
نعم إنها ميزة التلاميذ الكُسالى..يحكون لأنفسهم في حلقاتٍ قصة تكاسلهم:أنا بلا فائدة.لن أتوصل أبداً إلى أن أكون ذا فائدة..أنا لستُ أهلاً لتحَمّل مشقة التجربة..أنا مُفْلسٌ سلَفاً.نِعْم ما أخبرتكم به..المَدْرسة ليست مُهيّأةً لي…
يُخيّل للكسالى أنَّ المدرسة نادٍ مغلقٍ بإحكام يُمْنعون من دخوله..بمساعدة بعض المدرسين..أحياناً.
ـ …
ـ …
سيدان مُسنّان يتنزهان بمحاذاة نهر.في نهاية نزهتهما يسقطان في مسطح مائيّ تُطوّقه شبكات من الحصى.
يسأل برنار:
ـ أأنتَ كذلك جيدٌ في قفزاتك دائماً؟
(5)
بطبيعةِ الحالِ ثمَّة سؤالٌ يُمْكنُ أنْ يُوجّهَ عن السببِ الأساسي.مِنْ أيْنَ كان يأتي تكاسلي؟
طفلٌ ينْتمي إلى الطبقة الوسطى في الدولة..سَليلُ عائلةٍ ودودةٍ..دونَ شِقاقٍ..مُحاطٌ ببالغين على قدْرِ المسئولية كانوا يُساعدونني في أداء واجباتي…
أبٌ بوليتكْنيكيّ[10]..أمٌ ربةُ منزل..ليْسَ هناك انفصالٌ..ليس هناك مدْمنو خمْرٍ..ليس هناك أشخاص انفعاليين[11]..ليس هناك عاهاتٌ وراثية..ثلاثةُ أخْوةٍ حصلوا على شهادة البكالوريا (مُغْرمون بالرياضيات.. عما قريب سيصبحون مهندسيْن وضابطاً)..نظامٌ عائليٌّ سَوِيّ.. طعامٌ صحيٌّ..مكتبةٌ في المنزل..ثقافةٌ مُحيطةٌ تُناسبُ وسَط وحاضر القرن (أبٌ وأمٌّ مولودانِ قبْل عام 1914) :فنُّ الرسم حتى الانطباعيين[12]..الشِّعر حتى مالارميه.. الموسيقى حتى دبوسي..روايات روسية.. حقْبةُ تيلار دو شاردان..ﭼواس وسيوران التي لا مفر منها من أجل الجرأة…أحاديثُ مائدةٍ مُضْحكةٌ ومُثقَّفةٌ تتمُّ في هدوء.
ومع هذا ثمة تلميذ كسول.
كذلك ما من تفسير لِجذْبهِ من الواقع الأُسريّ.إنه تَدرُّجٌ اجتماعي في ثلاثة أجيال بفضل المدرسة العِلْمانية.. المجانية والإلزامية.ارتقاء جمهوري في مُجْمله.انتصارٌ على طريقة ﭼول فيري.. ﭼول آخر..عمُّ أبي..العم ﭼول بناكشيوني..قاد أبناء جارجاليه وبيلا ـ كانال..قُرَى العائلة الكورسيكية[13]في الحصول على شهادات دراسية. الجميع مَدينون له بأجيالٍ من مُدرِّسي المرحلة الإبتدائية ..من سُعاة البريد..من رجال الشرطة..من موظفي فرنسا الاستعمارية والأسقفية آخرين…(كذلك ربما نكون مَدينين له بعددٍ من قُطَّاع الطُّرقِ..لكنه جعلَ مِنْهم قُرّاءً.)
يُقال إنَّ العمَّ كان يُكلّفُ الجميع في الحِلِّ والترحال بالإملاء..بتمرينات الحساب..كذلك يقالُ إنّه وصل به الحالُ إلى خطْفِ الأطفال الذين كان آباؤهم يضطرون لتغييبهم عن المدرسة أثناء قطاف الكستناء.كان يعيدهم إلى الأدغال ويصحبهم إلى حيث يقيم ويخبر الأب الرّقّيّ[14]:
ـ سأردُّ إليكَ ابنكَ فوْرَ حصوله على شهادته!
إنْ كانت هذه أسطورة فأنا أحبها.أنا لا أعتقد أننا نستطيع أنْ نتصور ـ على خلاف ذلك ـ مهنة المدرس.كل الأذى الذي نُلْحقه بالمدرسة يُخفي عن أعيننا عدد الأطفال الذين تنقذهم المدرسة من الفساد..من التعصب..من العجرفة..من الجهل..من الحماقة..من الجشع..من الجمود..أو من جَبْريّة العائلات.
كذا كان العمُّ.على الرغم من هذا ثمة أجيال ثلاثة فيما بعد..أنا..التلميذ الكسول!
ماذا لو عرف العمُّ بي!
مِنْ حُسْنِ حظه أنه مات قبل أنْ يشهد مولدي وإلا لألحقتُ به الخزيَّ والعار.ليس فقط مَنْ سبقوني كانوا يمْنعونني من التكاسل..لكن آخر مَنْ يمثّل الذرية يحْملُ شهادةً.كنتُ مُبرمَجاً اجتماعياً كي أصبحَ زهرةَ العائلة:
بوليتكنيكيّا..أو طالباً في دار المعلمين..أو خِرّيجَ المدرسة الوطنية للإدارة..ديوان المحاسبة..أو وزيراً .. ستعرف العائلة التي لم تكن تستطيع أنْ تحلم بأقل مِنْ هذا.على ذلك ثمة اتحاد مؤثر مع الوضع في عالم الأطفال المُقَدَّر لهم منذ الصغر دخول صَفِّ لويس لو جران الإعدادي والمدفوعين جهة عرش الإليزيه[15]أو جهة اتحاد التجميل العالمي.
نمط الدارونية[16]الاجتماعية..إنتاج النُخَب…
وبعد تلميذ كسول.
تلميذ كسول دون سَنَدٍ تاريخي..دون دراية اجتماعية.. دون انكفاء:
لماذا؟
ربما تكون الإجابة راقدة في حُجرة العالِم النفسيَّ..لكن لم يكن ذاك هو زمن عالِم الطلاب النفسي الذي يتأملهم كبديل عائلي.كنا نصنع طاقات من الشاطيء.
مِنْ جانبه كان برنار يُبدي تفسيره:
ـ وأنتَ في عمر ست سنوات سقطْتَ في صندوق قمامة ﭼيبوتي.
ـ ستْ سنوات؟عام حرف الـ ((A ؟
ـ نعم.كان إخراج ريح في هواء طلق حقاً.
لقد سقطتَ فيه من أعلى جدار.لا أذكر كمْ من الوقت ظللتَ منقوعاً فيه.كنتَ قد اختفيتَ..بحثْنا عنكَ في كل مكان فيما كنتَ تتخبَّطُ في هذا المكان..في حرارة شمسٍ قاربت على الستين درجة مئوية.
أنا أُفضِّلُ ألا أتخيل ما كان يشبهه هذا المنظر.
صورة صندوق القمامة إنْ أردنا الدقة تقترب بشكل كافٍ من الإحساس بالنقص الذي يشعر به تلميذ ضائع في علاقته بالمدرسة.من جهة أخرى سمعتُ كلمة (صندوق القمامة) تُنطق لمراتٍ عديدة كي تصف هذه الصناديق الخاصة التي تقْبلُ دون تعاقدٍ (بأي ثمنٍ؟) أنْ تجْمعَ حُثالةَ مَدْرسةٍ ثانوية.لقد عشتُ فيها من الصف الأول حتى الصف الخامس طالباً داخلياً.من بين المدرسين الذين كنتُ أخضع لهم أربعة منهم أنقذوني.
عندما أخرجناكَ من كومة القذارة تلك كان دمك قد تسمّم فظللنا نحْقنكَ بالبنسلين لعدة أشهر.
كان هذا يؤلمك كثيراً..كدتَ تموت خوفاً.كنا نقضي ساعات نبحث عنك في المنزل حال وصول الممرض. ذات يوم اختبأتَ في دولاب فسقط فوق رأسك..خوفاً من وخزة الحقنة.ها هو المجاز يتحدث:
انقضتْ فترة دراستي كلها وأنا أفرُّ من المدرسين الذين كانوا يترصدون لي كأشباح تتسلح بإبَرٍ عملاقة ومُعبّأة لتلقيحي بهذا الحرق السميك..بنسلين سنوات الخمسينيات ـ التي أتذكرها جيداً ـ هو نوع من الرصاص المُذاب الذي كانوا يضخّونه في جسد طفل.
على أيَّةِ حالٍ..نعم..كان الخوف حقيقةً أكبرَ مشكلة طوال مدة دراستي..وكان هو حاجزها.
إلحاح المدرس الذي أصبحته أنا كان لعلاج خوفِ أكثرَ تلاميذي سُوءاً كي يجعلهم يُهشّمون هذا الحاجز..ومِنْ ثَمَّ يُتِيحون للمعرفةِ فُرْصةً للْمرورْ.
(6)
أَحْلمُ.ليْسَ حُلْمَ طفْل..إنَّهُ حُلْمُ اليوْمِ..فيما أُدَوِّنُ هذا الكتاب.تحْديداً بعْد البابِ السابقِ..الحقُّ يُقالْ.أجْلس مُرْتدياً بيـﭼامتي على حافةِ سريري.ثمَّة أرقامٌ بلاستيكيةٌ ضخْمةٌ كتلكَ التي يلعبُ بها الأطفال الصغار..منثورةٌ فوق السجادة..أمامي.عليَّ أنْ (أُرتّبها).
إنه النَصُّ المنطوق.
تبْدو العمليةُ سهلةً بالنسبةِ لي..ولذا فأنا سعيد.أنْحني..أَمدُّ ذراعيَّ ناحيةَ هذه الأرقام.يتبيّنُ لي أنَّ يَديَّ قد اختفيتا.لمْ تعدْ هناك يدانِ في طَرفيّ بيـﭼامتي.أكْمامي خاويةٌ.ليْسَ اختفاءُ يَديّ هو الذي أفْقدني عقْلي إنَّما عدمُ استطاعتي أنْ أصلَ إلى الأرقامِ كي أُرتّبَها.ليْتني أعرفُ كيْف أفعلُ هذا.
[1]نسبة إلى مدينة البندقية الإيطالية.(المترجم).
[2]نسبة إلى جبال الألب.(المترجم).
[3]اسم أهم وأشهر قواميس اللغة الفرنسية.(المترجم).
[4]اسم المؤلف كاملاً هو:دانيل بناكشيوني.(المترجم).
[5] يقصد كان مستواه التعليمي سيئاً.(المترجم).
[6]صخرة كبيرة قرب شاطيء البحر والكلمة مأخوذة من الكلمة العربية:رصيف.(المترجم).
[7]العامل المشترك هو رقم يقبل حدَّا الكسر الاعتيادي القسمةَ عليه.(المترجم).
[8]منطقة جبلية في فرنسا.(المترجم).
[9]حروف كبيرة تبدأ بها أسماء الأعلام في معظم اللغات الأجنبية ونسميها في العربية بحروف [كابتال].(المترجم).
[10]خريج مدرسة البوليتكنيك في فرنسا.(المترجم).
[13]نسبة إلى جزيرة كورسيكا والوصف هنا للقرى.(المترجم).
[14]نسبة إلى تجارة الرقيق.(المترجم).
[15]أشهر شوارع العاصمة الفرنسية باريس.(المترجم).
[16]نسبة إلى نظرية دارون في أصل الأنواع.(المترجم).
ــــــــــــــــــــــــــــ
*حزن مدرسى، رواية للفرنسي دانيال بناك صدرت عن سلسلة الجوائز، بهيئة الكتاب، وحصلت على جائزة “رينودو”
*عاطف عبد المجيد ، شاعر ومترجم مصري
خاص الكتابة