د. مصطفى الضبع
فى أحد جوانبها تنبع بلاغة البليغ من قدرته على أن يختار ألفاظه، وأن يوظفها توظيفا جماليا فى سياق فنى، ولايتوقف ذلك عند الشاعر الذى يوصف دائما بالبلاغة وإنما هى سمة قارة فى الأديب الذى يحسن إختيار لغته، والعناصر التى يشكل منها خطابه الإبداعى، ويظل مبدأ الاختيار واحدا من أهم السمات التى تميز المبدع الذى يعتنى (أو عليه أن يعتنى) باللغة الأدبية، كما أن المبدأ نفسه يبقى مقياسا من المقاييس التى تميز الأديب عن غيره، فى قدرته على أن يختار الأشياء والعناصر التى يشكل منها جغرافية نصه، ويعطيه الطعم الخاص به.
ومن الطبيعى أن يكون الاختلاف سمة فارقة فى هذه العناصر التى يلجأإليها المبدع لتشكيل هذا العالم،الاختلاف فى النوعية تبعا لطبيعة الحياة المتطورة والمختلفة فى قوانينها وطرائق استخدامها لمتطلبات معيشتها.
ومن العناصر التى تمثل محورا من محاور الاهتمام فى النص الأدبى الحديث القطار بوصفه واحدا من أهم الوسائل الحياتية، وقد استثمر الأدب الطاقة الدلالية فيه للدرجة التى تبوأ فيها القطار مكانة تكاد تقارب مكانة الراحلة فى النص الشعرى القديم ، عند شاعر كانت راحلته وسيلة للحياة سلما وحربا.
لقد تباينت صور القطار فى ثقافتنا الحاضرة، ولم يقف عند كونه ملمحا حياتيا، يتجلى فى نصوصنا المكتوبة، إذ إنه قد أخذ طريقه إلى تراثنا الشعبى الشفوى وليس أدل على ذلك من المنظومة الشعبية التى يرددها الناس فى جنوب مصر ” ياوابور الساعة اتناشر يامقبل ع الصعيد “
القطار والقصة العربية القصيرة
لأن القصة القصيرة أقرب الفنون لروح العصر، وهى بقدراتها التعبيرية وطاقاتها الفنية يمكنها أن تقارب المجتمع الإنسانى فى تفاصيله اليومية جميعها، فقد تعددت صور القطار وبات قاسما مشتركا فى الكثير من الأعمال التى منحته أبعادا و قدرات تجعل المتلقى لا يستطيع تجاوز هذه الأبعاد فى سياق انتاجه الدلالة النصية.
والمتأمل للنتاج القصصى العربى يقف أمام نقطتين لهما أهميتهما فى هذا السياق:
- أن أكثر النصوص القصصية التى تعاملت مع القطار نصوص مصرية، حتى يمكننا القول أن القطار تيمة مصرية فى القص، وأنه يمثل صورة ,وعنصرا متكررين فى هذا النوع من القصة، لافرق بين الرواد فى القصة المصرية ( محمود البدوى، محمود تيمور على سبيل المثال ) أو الجيل الجديد من كتاب القصة المصرية ومرورا بالكتاب الذين يمثلون جيل الوسط.
- وأن أكثر تجليات القطار فى القصة المصرية ( وفى الإبداع المصرى بصفة عامة ) يكون عند هؤلاء الذين ينتمون بأصولهم إلى صعيد مصر، حيث يكون القطار بمثابة الحبل السرى الذى يربطهم بالعاصمة ( القاهرة ) أو بشمال مصر مما يجعل من تناول هؤلاء للقطار مختلفا عن تناول غيرهم ممن لاينتمون للجنوب.
والقطار الذى ظهر عند محمود البدوى بوصفه موضوعا قصصيا، واكب القصة القصيرة فى تطورها إلى أن أصبح علامة دالة على كونه تقنية لاموضوعا، تكنيكا قادرا على أن يبث الكثير من الدلالات فى النص القصصى، تظهر عبر مستويات متعددة قادرة على أن تكشف عن الأدوار التى يلعبها القطار فى القصة
أولا: المستوى الفنى والدلالى
يمثل القطار علامة منتجة قبل النص، كائنة قبل انتاج القصة، ماثلة فى واقع متعين، له أبعاده الإجتماعية والنفسية فى علاقته بالبشر وعلاقة البشر به ولكنه عندما ينتقل إلى سياق النص القصصى يكون له الصورة المغايرة التى يكون لمجرد اختيارها من الأسباب ما يحفز المتلقى على أن يبحث فى وعن هذه الأسباب وصولا إلى العلاقة التبادلية بين بين النص والعلامة المختارة، والنص عندما يستثمر الدلالات الكامنة فى القطار يخالف الواقع بأن يشحن العلامة المختارة بهذا الكم الهائل من الرموز والدلالات والإسقاطات التى من شأنها أن تجعل القطار علامة على الواقع قبل أن يكون عنصرا من عناصره، والقطار بدوره عندما يحل فى النص يغير الرموز الأخرى التى يمكن استخدامها فى هذا السياق نقلا من الواقع، فالسيارة مثلا قد يمتلكها الفرد فتكون علامة على وقع اجتماعى وعلى درجة فى السلم الإجتماعى، ويكون لذكر موديلها و زمن انتاجها الدلالة الواضحة على هذا التدرج الاجتماعى الواضح، ولكن لأن أحدا لايمتلك قطارا أو ليس هذا من المعهود فى حياة البشر، فإنه يصبح علامة على مجتمع ورمزا لتقدم أمة وتدرجها فى سلم المدنية.
لاتميل القصة القصيرة إلى رسم قطار ذى صفات مغايرة لما نعرفه من قطارات، والقصص جميعها تشترك فى:
- تصوير القطار فى أبعاده الفيزيائية والجغرافية.
- وأنها لاتعول كثيرا على الصفات المختلفة له،وإنما هى تعول على مايحدث فيه.
- وأنها تشير له عبر رحلة سفر، حيث يأتى حدث السفر سابقا للمتن الحكائى من خلال العتبة الأولى ( العنوان ) الذى يأتى محملا ببنية دلالية تشير للعنوان أو ما يتعلق به:
- (رحلة قطار ) إسماعيل بكر.
- ( سفر ) جمال الغيطانى.
- ( قطار إلى المرج) محمد مستجاب.
- ( قطار الخامسة والربع ) سيد جاد.
- (المزلقان ) أمين ريان.
- (القطار الملكى ) محمد البساطى.
- (التذكرة ) صالح الصياد.
- (قطار الشمال ) عز الدين نجيب.
- ( الرحلة ) زهير الشايب.
ثم يكون المتن مشيرا إلى مجموعة من العناصر التى تجتمع فى كثير من النصوص، مشكلة صورة تقليدية للقص:
- الزمان: إذ تهتم التى تقارب القطار بإبرازشخوص يتحدثون فى زمن معين، إما بصورة مباشرة:” قطارالعاشرة طويل، والمشوار إلى مدينتى أطول والليل بلاقمر “
أو بصورة غير مباشرة تفهم من السياق:” حرصت على حجز مقعد مفرد إلى الجانب الأيمن حيث يمكننى رؤية الطريق المحاذى للخط الحديدى والمدن المتعاقبة المطلة على الترعة، كذا المزارع الممتدة، والبيوت المتناثرة، وأشجار النخيل التى تزداد كثافة وتراصا كلما ازداد الإيغال جنوبا “
وهى صورة نستنتج منها دلالتين تمثلان قيمة واضحة:
- كون الوقت نهارا وإلا ما استطاع السارد أن يبصر هذه المجموعة من الصور التى يقدمها بوصفها صورة مدركة بصريا، تمتد من خلال العطف المتعدد الدال على امتداد المشهد بتعدد حرف العطف ( الواو)، وهو مالايمكن حدوثه إذا كان الوقت ليلا.
- كون السارد عالما بالطريق، على دراية بتفاصيله إلى حد كبير، والمكان ليس مجهولا بالنسبة له، وهو وإن كان يقطع الرحلة داخل الرحلة، بمعنى أنه يتحرك فى الذاكرة، فإنه ليس مقدما على مجهول واختياره للجانب الأيمن لارتباطه بذكرى / ذكريات خاصة بهذا الجانب، والأمر لن يختلف بالطبع بالنسبة لشخص يقطع رحلة مجهولة يقاربها للمرة الأولى، ولكنه فيما يبدو على دراية بالمكان فى جوانبه المختلفة،وبعض تفاصيله الدقيقة.
- المكان: وهو القطار الذى يعد مكانا داخل المكان، متحرك، يشبه حدثا متغيرا، والنصوص تعتمد على تصويره فى حالتين:
- الثبات/الحركة.
- الحركة/ الثبات.
والحركة من شأنها أن تحرك العالم خارج القطار وداخله من ناحية، وتحرك الإنفعالات والذكريات داخل الإنسان من ناحية أخرى، والأحداث فى هذه الحالة تتحرك عبر أمكنة ثلاثة متداخلة:
- الفضاء الخارجى ( خارج القطار ).
- القطار.
- المسافر.
مما يجعل المكان فى تداخله يشبه البصلة فى تداخل طبقاتها.
- الأشخاص: ولايتوقف القطار عند كونه مكانا ساكنا أو متحركا، وإنما يتحول إلى شخصية تبادل اللإنسان العلاقة أو لغة التواصل ” وكأن القطار كائن عاقل سيسمعنى “، وحالة الوحدة التى يعانيها المسافر فى القطار تجعله يشعر بإنسانية ما تجاه هذا القطار الذى يتحول بدوره إلى شخصية شبه إنسانية.
- الحدث: ما إن ينطرح القطار بوصفه محتضنا للحدث المسرود حتى يوضع المتلقى عند حافة التوقع، توقع الجديد المرتبط أو المترتب على حركة القطار، والأحداث ههنا تترتب على حركة القطار الآخذة فى التقدم فحركة القطار معناها حركة النص المسرود،وإذا كان ثبات المكان يحرك الخيال بدرجة ما فإن حركته تعمل على تدفق الخيال بصورة أكبر، ومن ثم تقــدم عملــية الحكى مكتســبة قدرا كبيرا من الخصــوبة التى تعمل على انتاج القدر الأكبر من دلالة النص وإمكانياته.
القطار بهذه الكيفية يقدم للسرد مجموعة من العلامات الدالة، والقادرة على المشاركة بقوة فى انتاج الدلالة:
- القطار المنتج للسرد: يترتب على حركة القطار أو الاستعداد لهذه الحركة أن تنتج مجموعة من النصوص السردية تشكل مجموعة قصصية قوامها سبعة عشر نصا ” قصص من النجيلى ” لأمين ريان. عند ما يمر قطار الصعيد فى منطقة النجيلى يقسمها قسمين، يصبح كل قسم منها عالما خاصا له حكاياته وخصوصيته وتحول القطار إلى قانون يحكم حياة الأفراد فى حركتهم بين قسمى المكان ” فصوت مكبر الآذان هو الشيء الوحيد الذى لايعوق عبوره المزلقان منذ شطرت السكة الحديد هذه المنطقة إلى قسمين.. يعرف أحدهما بالسبتية والآخر بحى النجيلى “، واستطاعت القصص أن تقدم عشرات الأشخاص والأحداث التى لازمت حركة القطار وترتبت عليها،مما جعل للمزلقان أسراره وللنجيلى أعرجه وهلاله وعنتره ،وغيرها من شخصيات العالم الذى قسمه القطار إلى عالمين متمايزين .
- القطار رؤية فنية:
لأن الإنسان محكوم فيه بحركته ( حركة القطار ) فإنه يتحول على مستوى المكان إلى معبر بين مكانين وبؤرة زمنية للذاكرة التى تنفتح أبوابها، ويصبح بإمكان الإنسان أن ينتقل بين ماقبل القطار ومابعده أى ماقبل الرحلة ومابعدها، الماضى والمستقبل، إنها رحلة روحية فى أعماق الذات التى بات بإمكانها أن تنفصل عن عالم القطارالمتحرك جانحة إلى عالمها شبه الساكن يقول جمال الغيطانى: ” عند بدء سفرى ألوذ بوحدتى، ولأرغب فى مخاطبة من يحاورنى ولاأسعى، أرحل فى رحيلى فأمضى إلى ماكان وأستشرف ماسيكون أحاول النفاذ فى كنه مالم يكن ومالن يكون، ماهو غير كائن، أرى مالم أره، مالم تساعدنى أيامى المنهكة على استبصاره ” .
إنه استثمار لحالة لايعيشها الإنسان إلافى القطار حيث هو محكوم بمسايرةحركة العالم الذى يجابه فيه هذه الحركة المسيطرة. فالإنسان يدخل هذا العالم بوعى سرعان مايتغير أو ينقلب إلى وعى يحرك خياله حركة ذاتية تغوص فى الزمن بفواصله ( الماضى – الحاضر – المستقبل ).
ثم تتعدد الرؤى الفنية التى يمكن من خلالها استكشاف الوظائف المتعددة للقطار ومنها:
- القطار / القدر: حيث القطار يمثل حركة قدرية إذ هو فى بداية النص يأتى حاملا شخصية معينة، ذات صفات محددة الملامح ” جاء القطار ولفظها.. سوداء، فحلة، لها أنف أفطس وشفتان غليظتان ” وبعد أحداث متعددة تمثل حياة كاملة للراوى ترحل المرأة وتأتى أخرى لها الصفات نفسها ” علا صفير القطار من فورها نهضت المرأة السوداء نفضت نفسها والتقطت أشياءها ومطاطئة الرأس اتجهت صوب المحطة وصعدت إلى القطار فيما هبطت من نفس العربة امرأة سوداء فحلة لها أنف أفطس وشفتان غليظتان “.
- القطار / الوطن: فى صورة رمزية دالة يأتى القطار جبارا قويا مهابا من الجميع ولكنه عندما تطوله الأيدى العابثة ” ذات يوم امتدت يد ملعونة عبثت بالآلات فى داخل القاطرة القائدة بحجة صيانتها وتجديد طاقتها، انطلق القطار فى رحلته المعتادة ولكنه لم يكن فى حالته المعهودة ” فبعد محاولات فنية لإصلاحه يأخذ فى السير ولكن للخلف مما يعكس فى مفارقة واضحة حالة الأوطان التى يعبث بها العابثون فتتخلف دون أن تخطو خطوة واحدة للأمام.
- القطار / المسرح: فى قصة ” ابن بهانة “ يأتى قطار فؤاد قنديل مسرحا لعملية حياتية عالية الدراما يقدم فيها صورة مختزلة للمسرح / الحياة فهو لايكتفى بما يدور داخل القطار بوصفه مكانا فاعلا، ولكنه يتجاوز ذلك إلى مجموعة من المستويات المتتالية أعلى القطار – أعلى الرف والمقعد من جمهور المتفرجين فى سلبيتهم التى تجعل من البطل بؤرة للقهر والخوف.
- القطار / حركة العالم: من خلال دخول ثلاثة مساجين وحارسهم إلى قطار المرج تبدأ حركة العالم الموازية لحركة العالم / القطار يقول محمد مستجاب فى قصته ” قطار إلى المرج ” عندما دلفوا إلى القطار كانوا يعتقدون أن القطار ليس قطارا ” حيث حالة القطار واقفا لاتوحى بأية حياة وإنما هى تصور العالم فى ركوده وحالة الخمول التى يعيشها.