د. مصطفى الضبع
عبر حياته التعليمية يمر الطالب المصري بثلاث دوائر قاتلة: الإلزامي(الابتدائي والإعدادي) – الثانوي –الجامعي، منطقيا تفضي كل مرحلة إلى الأخرى محققة طبيعة التعلم التراكمية، غير أن التلقين وطرائقه يجعلها مراحل منفصلة لا تلتقي، متنافرة لا تعارف بينها، فكل مرحلة تعد حلقة منفصلة عما سبقها،ولا يربط بين المراحل المتوالية سوى كونها ترسخ لجهل بعيد القرار.
وفي الدوائر الثلاثة يترسخ في ذهنه أن مايدرسه شيء وما يتفاعل معه في الحياة شيء آخر، حتى راح طلاب الكليات النظرية ودارسو مقررات العلوم الإنسانية، وخاصة من يدرسون اللغة العربية وفروعها على سبيل المثال، راحوا يرددون كلاما عن جدوى دراستهم علوما لا تفيدهم في حياتهم العملية (يستخدم هذا التعبير بكثرة حول النحو والأدب والبلاغة) والسبب يكمن في طريقة تدريس هذه المقررات حيث لا يجتهد الأساتذة والمعلمون في ربط هذه العلوم بالحياة (لم تعرف البشرية بعد علما ليس مرتبطا بالحياة الإنسانية) فالبلاغة على سبيل المثال حصرها أهل التعليم على الشعر والأدب دون إدراك أنها من أكثر العلوم ارتباطا بالحياة إذ تتجلى في سلوك الإنسان وفي ملابسه وفي علاقاته، وهل اختيارك لما ترتدي من ملابس مناسبة سوى مطابقة الكلام لمقتضى الحال (وهو التعريف الأشهر للبلاغة)، أليس فى اختيار اللغة المناسبة في الحوار اليومي مع مستويات من البشر نتعامل معهم يوميا تطبيقا للمفهوم ذاته (لغة أتعامل بها مع صديقي غير لغة أتعامل بها مع زوجتي غير لغة أتعامل بها مع مديري فى العمل وهكذا).
هنا يكون السؤال المنطقي، المعياري: ماذا أفاد دارس الآداب الإنسانية المختلفة مما تعلمه (على افتراض تعلمه) طوال سنوات الدراسة (يكفى التوقف عند أربع سنوات جامعية يمر بها الطالب في مرحلة النضج وفي ريعان الوعي)؟ ويتلوه سؤال جارح: كم كتابا قرأه طالب جامعي من الطبيعي أن جامعته وكليته تضمان مكتبة واحدة على الأقل؟ هل أكون مبالغا فى الحكم على هؤلاء بأنهم فرطوا كثيرا في إنسانيتهم، لك أن تتابع الأثر السلبي في شخصية من لم يقرأ كتابا أدبيا فى حياته بدءا من شباب صغار ومرورا برئيسك في العمل وانتهاء بوزراء ورؤساء حكومات ورؤساء دول (هل سمعتم يوما أن مبارك قرأ كتابا واحدا؟ أو اشتبكت أفكاره مع أفكار نجيب محفوظ في واحدة من رواياته مثلا؟) يمكنك تجاوز هؤلاء إلى ماهو أخطر من وجهة نظري: أمهات جامعيات لم يقرأن يوما رواية واحدة (ساهم معي فى وضع علامات استفهام وتعجب)
إنه التضييق الممارس على عقلية الأجيال ذلك الناتج عن اعتماد آلية التلقين والحفظ دون غيرها، ولأن طالب اليوم هو معلم الغد فقد انغلقت الدائرة على نوعية واحدة من العقليات، تلك المنغلقة أفقا، الضيقة تفكيرا مما يحول العلوم إلى مجرد أكلاشيهات جاهزة وتعبيرات معلبة يرددها طالب تحول إلى جهاز كاسيت يتساوى لديه ترديد الكفر مع ترديد الإيمان، وتكرار القبح مع تكرار الجمال، لافرق عنده بين شعر المتنبي وأغاني مطربي الميكروباص وتتساوى المعلقات مع أغانى محمود عبد العزيز في فيلم “الكيف ” (لا تسأل بعدها عن أسباب انهيار الذائقة الجماعية أو الشعبية سمها ما تشاء، ولا تتساءل عن سبب انفراد الساحة الغنائية بطغيان الأسوأ من كلمات الأغاني ولا عن تردي الذائقة في تعاطي المسلسلات الهابطة، ولا عن تفشي البذئ من الألفاظ والفاحش من القول على ألسنة شبابنا في الأماكن العامة) إنها الذائقة التي لم تربها بلاغة ولم تؤثر فيها أدبيات اللغة العربية بكل ماتحويه من عبقري الجمال ولا روعة الخيال.
وللحديث بقايا
