د. مصطفى الضبع
الدين والوطن، مصطلحان يعتقد البعض أنهما في حالة من الخلاف شبه الدائم دون محاولة لتجاوز الاعتقاد أو الخروج منه لاعتقاد أقوى يراهما عنصرين لقوة واحدة، قوة إنسانية، الوطن يمثل القوة المادية (الهارد وير) والدين يمثل القوة الناعمة (السوفت وير)، الأولى قوة تنطلق من المادي إلى الروحي حيث يتجسد الوطن في نظرك مجموعة من الصور للمكان والبشر والمناخ والطبيعة ويروح يتبلور حتى يصبح عنصرا أساسيا في تركيبتك الروحية إنه، التدرج من المادي إلى المعنوي حيث يصبح الوطن بالنسبة لك معني من أقوى المعاني التي تدركها في حياتك وهو معنى غير قابل للتغيير أو التزييف، الدين يتحرك حركة في اتجاه مقابل ينطلق من الروحي ليتجسد إلى المادي، أنت تؤمن بالدين بوصفه غذاء روحيا يتجسد في معاملاتك وفي علاقاتك (الدين المعاملة) والمعاملة هنا تجسيد لعقيدتك الإيمانية (الإيمان ماوقر في القلب وصدقه العمل) وعند نقطة الروحية يتقابلان في وجدان الإنسان، والاثنان لا مجال للتضاد بينهما وليس معنى حرصك على الدين أن تفقد الوطن والعكس صحيح (بروايات مختلفة لا اختلاف بينها فيما تتضمنه من معان تذكر المصادر موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة حين الهجرة استلم الحجر وقام وسط المسجد والتفت إلى البيت فقال إني لأعلم ما وضع الله في الأرض بيتا أحب إليه منك وما في الأرض بلد أحب إليه منك وما خرجت عنك رغبة ولكن الذين كفروا هم أخرجوني).
الوطن والدين كلاهما فعلان غير قابلين للتفاوت فأنت إما وطني أولا وطني وأنت إما متدين أولا لا متدين وليس منطقيا أن تكون وطنيا في يوم وغير وطني في يوم آخر، وكذلك الأمر في الدين، ليس منطقيا أن تكون مؤمنا صباحا وعكس ذلك في المساء، إنهما فعلان ما إن يستقر أحدهما في روحك فليس هناك مجال للتغيير أو التجاوز.
والإنسان منذ مولده على دين أبائه ووطنهم له حقوق المواطنة التي تمنحه حق الانتماء الأول لدين أبائه أو لنقل عقيدة وطنه (الطفل الذي يولد في أمريكا من أبوين مصريين فهو منتم بالضرورة لدين والديه)، يعلمنا الوطن دروس الانتماء الأولى ويظل يطورها حتى يصبح الانتماء للإنسانية أرقى صور الانتماء للوطن.
الدين والوطن كلاهما في حالة احتياج للآخر فالدين تحقق للعقيدة على الأرض والأرض هي الوطن الحاضن للدين ومن ثم فالدين بلا وطن فكرة غير متحققة والوطن بلا دين خراب وكلاهما يتعانق مع الآخر لصالح البشرية.
كلاهما ينفي التطرف فالتطرف في الدين يخرجه عن رسالته الإنسانية والتطرف في المواطنة مزايدة لا طائل من ورائها، التطرف هنا يجعلك لا تحافظ على حقوق الآخرين التي يجب المحافظة عليها لأنك لا تستطيع الحياة بدونهم ” أحب لأخيك ماتحب لنفسك ” وقد برع عليه السلام في إستثمار الطاقات الدلالية في مصطلح الأخوة حيث جعل الإخوة الإمانية لا تقل عن أخوة النسب (قد لا يتحقق لأحدنا أخوة الدم بان لا يكون له أشقاء ولكن من الطبيعي أن يكون له إخوة في الدين ) أخوة الدين هنا بديل تعويضي، قد يستغني الإنسان (مجبرا للسفر مثلا) عن أخوة النسب فيجد أخوة الدين حاضرة وقادرة على أن تقوم بدورها.
إنه الانتماء للإنسانية الذى يجدد شباب العقيدة الإنسانية التي تجدها في كل مكان تذهب إليه فأنت لا تحمل جماعتك التي تنتمي إليها، لا تحملها في كل مكان تذهب إليه، ولكنك تحمل روح الوطن القوية التي تمدك بقوة تمكنك من حماية دينك فالدين
لا يقبل وطنا ضعيفا، والوطن لا يقبل دينا تراق دماء أبنائه ولا تنتهك عقول أبنائه بتزييف عقائدهم.