نزلت القدمان تحت أقدم جسور المدينة، وفي دغلٍ رطبٍ من الحشائش والأشواك، تحت الظلّ النديّ الثخين لذلك الجسرِ القديم، اختفتا، وهناك نامتا مثلَ جرويْنِ خرجا توّاً من الرّحم، ويئسا من الحليب!
…
وربّما بسبب الألم- ألم الانفصال المحرق – الذي كابَدَتاه خلال استئصالهما من صاحبهما نامت القدمانِ تلكَ النّومة الطويلة التي لن يتسنى لهما، أبداً، حسابُ عدد لياليها ونهاراتها..
…
وفي صباح يومِ من الأيّام استيقظت القدمانِ وفي عقلهما شيء بدا لهما مشوّشاً أوّل الأمر، ثمّ اتضحت معالمه، فكان أقرب إلى خارطة لطُرقٍ وجهات، وأمكنة، وصور لبيوت، ومبانٍ، وأشخاص…
…
خرجت القدمانِ من ظلِّ الجسرِ القديم، وانطلقتا، مسترشدتيْنِ بمعالم خارطتهما، بينَ ألوف الأقدامِ المستأصَلَة الماشية بجدٍّ، هائمة على مفترقاتِ طرقِ المدينة، وفي عقلِ كلِّ قدميْنِ منها حياةٌ أقعتْ في جهةٍ ما تنتظرُ من يزورُها، ويأخذها إلى الهواء…
…
عينٌ مستوحدة تقيم في سماء عالية هي التي كان بوسعها، لو كانت هناكَ حقا، أن ترى الأقدام تجوب شوارع المدينة، وتذرع طرقاتها بلا كلل، وتقضي النهار كلّه تتنقل من مكان إلى آخر، تسير إلى جنب في صفوف طويلة عريضة، أو تتقاطع مرتطمة ببعضها، وقد تعوّدت مع الأيّام على أن ترتاد مقاهيَ فارغة، وتتجوّل في أسواق خرساء، وتتنزه في حدائق، وبساتين خالية متفرقة، وغالباً ما كانت تقرع أبواباً موصدة، حتى تتورّم أصابعها، وعلى الدوام كان قرع الأبواب يذوبُ في صمت المكان ويتبدّد، فلا تملك الأقدام غير أن تجلس في الظلٍّ وتنتظر… تنتظر، وتنتظر.. وفي اللّيل اعتادت كلّ قدميْن أن تأويا إلى عتبة أحد البيوت، فتستندانِ إلى بابه، وتنامان..
….
قبيلَ فجرِ أحد الأيّام انتفضت قدمٌ من نومتها انتفاضة فزعٍ من عضّةٍ أحستْ معها بألمٍ مريعٍ بين أصابعها، وسرعانَ ما اكتشفت الجاني، الجرذ الذي عكف إلى جوارها يقرض بين أسنانه ما تبقّى من الإصبع التي استأصلها..
….
في الصباح اتضح أن العديد من الأقدام بُوغِتت خلال اللّيل، وقبيل الفجر، بمداهمة جرذان نهمة، وتعرّضت إلى عضّات لا ترحم، وانتُزِعَتْ منها أصابعها تماماً..
….
وعلى مدى اللّيالي التي تلت توالت هجمات الجرذان بأعداد أخذت تتضاعف بين هجمةٍ وأخرى وبتصميم يفوق الوصف، وكان يحدث على الدوام أن تهاجم عشرةُ جرذان، أو أكثر قدماً واحدة فتطبق عليها في حصار لا ثغرة فيه، ولم يكن أمام هذه الأخيرة وهي تدافع عن نفسها، إلاّ أن تركل هذا الجرذ أو ذاك، أو تنطّ إلى أعلى، ونادراً ما كانت نطّاتُها تفلح في الإطاحة بجرذ واحد من الجرذان التي تعلّقت بها بعدما أنشبت أسنانها القاطعة في لحمها..
….
وتزايدت أعدادُ الجرذان، وتفوّقت في معاركها اللّيليّة الضارية ضدّ الأقدام التي لم ينفعها تمترسها ببعضها في تجمّعات كبيرة، فقد كانت صفوفها تُخترق على الدّوام وتتبعثر وينتهي الأمر بالمزيد من الخسائر، وكان كلّ صباح يسفر عن ضحايا جديدة من أقدام تظلّ تئنّ طيلة النهار من آلام عضات الجرذان وحمّى لا تحتمل تنتهي إلى هلاك في الغالب.
….
آخر المعارك الفاصلة وقعت في غروبٍ اصطبغ بأغبرة بنفسجيّة، ففي ذلك الغروب تجمّعت الأقدام كلّها في أقدم ساحات المدينة، السّاحة التي كان يُطلَق عليها (أمّ البروم) ويقال إنّها كانت في الأصل مقبرة…
…
تراصّت الأقدام بشكل حلقات استندت إلى السياج المعدني في مركز السّاحة، الذي يحيط بحديقة مستديرة تنتصب وسطها قاعدة إسمنتية عالية تحمل مجموعةً من الجرار الفخاريّة.. اندلعت المعركة عندما فوجئت الأقدام بجرذان تخرج من أفواه جرار الفخار وتنقضّ عليها بشراسة من الخلف، وسرعانَ ما اجتاح سيلٌ من الجرذان السّاحة بأعداد هائلة هجمت من كلّ الجهات بزمجرات أسنان تصطكّ، وشعور تنتفض كالإبر، وانتهى ذلك الاجتياح مع تدفق طلائع أضواء الفجر..
….
في الليالي التالية كنست الجرذان كنساً أيّ أثر للأقدام، بعدما افترست بنهم ما تبقى من لحومها، وقرضت تماماً ما تناثر من عظامها..
ثمّ قيلَ إنّ وباءً فتّاكاً أصاب الجرذان وأهلكها كلّها..
وكان الجرذ وهو يوشك أن يذهب بقناع وجهه الأخير إلى بلاده الأخيرة يرفع لسانه بمشقة ويقول متمتماً:
“أرجوكَ، يا إلهي، أن تدعَ أطرافي تعيش بعدي”!
خاص الكتابة