تعليقًا على رواية “ثلاثة جياد”

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 أحمد شاكر

منذ زمن بعيد. ربما كان 2010. من يوم عرفت زوربا اليوناني وأنا لم أحب رواية أخرى مثل هذه. ثلاثة جياد. ل أري دي لوكا. عمل ممتع لأقصى حد. حكايات بسيطة من الماضي مسرودة بصيغة الحاضر يحكيها، البستاني الخمسيني الذي أمضى سنوات طويلة من حياته في أمريكا اللاتينية، تحديدا بالأرجنتين، والمحب للكتب المستعملة الذي يقول عنها أن عظامها هشة فتطوى الصفحات بسهولة من دون أن تحاول النهوض ثانية. أما الكتب الجديدة فإنها وقحة حيث لا تكف صفحاتها عن الحركة. 
خياله خصب. خيال رجل يحلق ذقنه بدون مرآة. يلتقي بليلى(مقطعان صوتيان أشبه بترنيمة مع فتحة على الحرف الصوتي الأول)، بالكاد بلغت الثلاثين، أميرة تحمل الجغرافيا في دمها على حد تعبير البستاني (روسيا واسكتلندا من جهة الأم وصقلية وليغوريا من جهة الأب)، أخذت اسمها من جدتها التي ولدت على الضفة اليمنى من نهر نيفا. يحبها البستاني وتحبه. كانت تعمل طبيبة أسنان. قبل أن تمتهن بيع الجسد بسبب جرحها لفك رجل، بعد أن سحبت سنه الخلفي. 

قابلها أول مرة في مطعم يتناول فيه غداءه. وبعد ذلك في بيتها. كان البستاني، وقبل أن يصبح راعيا للشجر، وهو في سن العشرين كان ينتظر الحب. يترقبه. حتى قابله في الجبل. أثناء التسلق. قابل دفورا الأرجنتينية. التي كانت وصلت إلى أوروبا بعد أن نجحت في امتحانات التخرج. فيتواعدان على البقاء معا. أن يكبرا ويشيخا مع القرن العشرين الذي كان في مستهله. تسميه (نوفيو) العريس، ويسميها (نوفيا) العروس. ويتبعها نحو الأرجنتين. ويصير واحدا من أبناء البلد.لكن الحرب تكون حين يحلم الشباب أن يصيروا أجداد. يقول الراوي/ البستاني: (يقتلوننا جميعاً، نحن الذين ننتمي إلى التمرد/ نقفز من مخبأ إلى آخر/ تنبعث منا رائحة الخوف/ في الشارع تتبع الكلاب الرائحة وتعدو خلفنا ). الأرجنتين تنتف من الوجود أحد أجيالها مثلما تفعل امرأة مجنونة بشعرها. هي تقتل أبناءها. تريد أن تتخلص منهم. قبض على دفورا معشوقته ورميت من طائرة هليكوبتر في عرض البحر مربوطة اليدين والقدمين. يقول (عاشت من أجلي وماتت كي تمنح عينيها للأسماك ). ويهرب هو على متن سفينة حيث يقوم بالأعمال على ظهرها كثمن للرحلة حتى يصل إلى جزيرة سوليداد (أرض إنكليزية ). ويعمل طباخا في فندق. ثم إلى انجلترا يذهب. ويبقى بها لفترة مع صبي عرفه على متن السفينة التي أتت بهم من الجنوب نحو الشمال. ثم يقرر العودة إلى إيطالبا ليعمل بالبستان الذي يعمل به. كل هذا وأكثر يحكيه البستاني لليلى. وهي تصغ إليه من دون هدف. لقد أحبت حياته المكتوبة على وجهه. 
ويدخل سليم في خيط الحكاية كما يدخل الماء جسد الزرع. يقول الراوي: يأتي سليم إلى الحديقة من أجل أزهار الميموزا (التي يبيعها) ولكي يتحدث قليلاً عن بلده (أفريقي هو) حيث يمشي الناس حفاة ويتبادلون الأحاديث بحرية. حين يرتدي المرء الحذاء يتوقف عن الكلام. حيث يصبح معزولا عن الأرض. الحذاء هو البيت، السيارة، الكتاب. سليم لا يدفع نقودا مقابل الزهور الذي يأخذها من البستان. البستاني يقول له: دع عنك. لولاك لكانت الزهور هنا في هذه الحديقة المسورة. اشتر لنا مشروبا ذات يوم حين لن يبقى ثمة المزيد من الزهور لقطافها. 
وتغيب عنه ليلى لأيام في مهمة جسد. ثم تعود. ويتنبأ سليم للبستاني بالرحيل. لكن البستاني يرفض تلك النبوءة. يقول: أنا آخر من يرحل. أنا من ينظف البيت ويقفل الباب خلفه. ويحافظان على بسمتهما. إنها أهم شيء في هذا العمر. لكن نبوءة سليم تشغل بال البستاني. ويقابل ليلى في نفس اليوم. يتجهان بسيارتها نحو الشاطئ. وتصارحه بعدم قدرتها على الاستمرار في عملها هذا. كانت رحلتها الأخيرة صعبة. والانسحاب من هذه المهنة غير ممكن. تخاف من صاحب العمل أن يقتلها. فهي كإنسانة حرة تمثل خطرا عليه. تقول: حين تعجز عن القيام بعملك يجب أن تهرب أو تموت. والبستاني في مأزق، يرى ليلى متشبثة به بينما هو متشبث بالمكان. لم يعد هناك مجالا للهرب. يقول: لقد هربت إلى آخر نقطة في الأرجنتين من دون توقف. لا أحد يستطيع أن يبقى مثلما كان فترة طويلة. 
لهذا تنتهي الحروب.
في الصباح توصله لبستانه بسيارتها. ويأخذ منها بعد اصرار، عنوان الرجل الذي تعمل لحسابه. وفي خطته أن يزور العنوان في استراحة الغداء. يقول في نفسه (أحدنا سيلقى حتفه ). وفي منتصف النهار يرافقه سليم دون أن يخبره عن أي شيء. ويعودان إلى الحديقة فيأخذ سليم باقات الخزامى ويعرض النقود للمرة الأخيرة على البستاني. ولكن البستاني يرفض. يقول: ذات يوم ستدفع القائمة كلها مرة واحدة. ويودعه. 
ويذهب البستاني لتنفيذ القتل بعد أن انتهى اليوم. مفكرا في بيت على الشاطئ بنوافذ تطل على الشرق وعريشة في الجهة الجنوبية. يقول : الغرب والشمال جهتان أدير لهما ظهري. لكن سليم سيكون قد أنجز له المهمة.
وأنهى حياة الرجل. 
الآن شيء آخر. 

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أحمد شاكر

 قاص مصري

 صدر له، حذاء جديد و رقص وجع رقص 

مقالات من نفس القسم