كل ما لديها جديد، لم يكن لديها ما يصلح لمشتري القديم.
جذبت حاسبها المحمول ناحيتها، تحركت يدها بسرعة وتوتر على الأزرار، فتحت ملفات قديمة، نازعتها مشاعرها وهي تمر على كل الملفات، بينما الرجل يصرخ (بيكيا) قارعا جرس دراجته، سألت روحها هل يأتي يوما ويشتري منها تلك الملفات ( صور ، فيديوهات، أغنيات، رسائل .. الكثير من الرسائل) ؟!
ستصنع له قصصا من كل صورة وكل أغنية بل وكل رسالة، ستروي له ما يشجع المشترين ويجذبهم لبضاعته، هل يرضى بشراء قصصها القديمة؟ قد يأتي يوما وتسير في الشوارع قارعة جرس دراجة مثله منادية : قصص قديمة، صور قديمة، ذكريات قديمة للبيع.
قبل أسابيع صعد لجارتها التي أرادت أن تبيعه بعض مخلفاتها كانت تقف معها يستندان للسور في المسافة الفاصلة بين شقتيهما، سألته بسذاجة أتشتري الذكريات؟!
كان عجوزا بما يكفي لفهم ما تقول، انفرجت تجاعيده وبانت أسنانه الصفراء المحطمة أغلبها وقال: الذكريات شرايين سدت فوهاتها.
فهمت مقصده وقالت: والشرايين الصناعية لا تمتلئ.
ابتسم الرجل ونزل السلم بقديم الجارة قائلا :كل وعاء يُملأ بما يناسبه، وكل مشترٍ يبحث عن ضالته في جديدٍ، حتى ولو كنت أنا بائعه.
كانت تعرف أنَّ سوق الذكريات ليس بسوق، إنه مجرد جلسات نميمة لعواجيز تركهم الزمن وراءه، اندفعت داخلة شقتها، أحكمت غلق بابها، وقفت أمام المرآة، بحثت عن الزمن، عن تلك الشرايين المستبدلة، عن الذكريات الساكنة ملامحها، لمست بأطراف أناملها التجاعيد حول فمها وعينيها، أيقنت أنه آن الآوان لها لتصاحب هؤلاء في جلساتهم، ستجالسهم لتحكي، ستخرج لهم الألبومات الملصق عليها كل التواريخ والمناسبات، ستعرفهم كم عملت لليال طويلة كعاملة أرشيف ماهرة، ستفرغ في جلساتهم ما كان في الشرايين والأوردة، وستخرج ما ظنت أنه قد ذهب حين استسلمت لمبضع جراح ماهر، نامت كفريسة طيعة وتركت له جسدها، قلبها، كانت تعرف أنه لن يتمكن من اختراق روحها بمبضعه، كل ما سيفعل أنه سيبدل شرايينها بأخرى خاوية، بلاستيكية.
لم يصدقها الجراح الماهر حين قالت له أنه فشل، الشرايين البلاستيكية يتحكم بها عقل لازال نابضا بحس الذكرى، لازالت يدها تمتد للألبومات ذات التواريخ، لحاسبها الذي يحمل بعضها، لصفحاتها التي تحمل الرسائل جميعها، لفنجان قهوتها الذي كان أول هدية للبيت الذي لم يكن.
يوم قصدته تخيلت أنه قد يقدر على المحو بالتغيير، بتغيير الشرايين التي يجري فيها دماء تحمل هواها، تفاصيلها، دموعها، ظنت أنها بذلك سوف تنسى أنَّ كل تلك الشوارع التي كانت لهما، هنا كانت ضحكة وهناك دمعة، هنا كانا كراقصين تحملهما المتعة ويغطيهما العشق وهناك كان شجار وخلاف يذوب بمجرد أن تتلاقى الأعين، هنا كانت أغنية في ليلة مطيرة بينما الشوارع خالية إلا منهما، وهناك كانت أغنية أخرى، بينما ليالي الصيف عامرة والعشاق مثلهما كُثر، فتتلاقى الأوجه وتتعانق الابتسامات ويترنما بــكلمات (في يوم وليلة خدنا حلاوة الحب كله في يوم وليلة) كانت أغنيتهما كلما ذهبا وعادا كانت هي البداية، هنا تشابكت أيديهما وهناك حملهما رصيفان كل بغضبه وعند تقاطع الطريق تعود لحضنه. كانت ساذجة كما كان يعتقد تماما، ساذجة حتى في محاولتها النسيان، حمّلت الطبيب كل حماقاتها ،صرخت فيه بفشله ومضت.
في لحظة اعتراف أقرت أنها كانت ترغب بفشله، أقرت أنها وهبت روحها حقا لأماكن الذكرى، للرصيف الذي يُهديها الكلمات متى صعدت إليه ويأخذها عنوة بمجرد نزولها عنه، وأن جسدها كله لو تحول لآلة بلاستيكية لن ينسى !
لقد وهبت حلمها لحلم مزدوج لم يذهب معها حين انصرفت، ظل هناك معلقا بحلم أعرج، وقصة بدأت لتنتهي!
لازالت سعاد تغني ( بيكا . بيكيا .. هدوم قديمة، طرابيش قديمة، عقول قديمة، أفكار قديمة، أمخاخ قديمة .. قديمة للبيع أشكال روبابيكيا تصلح للبيكيا).
ضحكت بشدة وهمت أن تقبض على دمعة هاربة لتعود بها لسجنها غافلتها زفرة قوية هربت من بين ضلوعها حاملة كل ما أرادت قوله، حمل الهواء ما خرج منها بينما تضغط بأصابع يدها على موضع العملية الفاشلة ثم أمسكت بالهاتف وهمت أنْ تكتب رسالة جديدة، حينها صرخ العجوز بقوة ( بيكيا .. بيكيا) فأرجعت الهاتف إلى جوارها في صمت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية وقاصّة مصرية ـ المجموعة صادرة مؤخرًا عن مؤسسة بتانة