بيت القشلة:  بابُ العالم الذي أُغلق على يدي هاجر

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

هاجر شويط

لا أعلمُ ماذا فعلت سكينة هنا بالذات؟، ما الذي مررته في هذه الرواية فنقش في طويلا، وعدت بعد شهرين للكتابة عنها، هذا هو التخمر الذي لا يصلح دائما الاعتماد عليه، ولا تكون الكتابة معبرة دونه.

إذا كان الانتقال من الشعر إلى الرواية، يكون بهذه الجمال، فانا أدعو جميع الشعراء أن يدخلوا الرواية ويهمون في إيلامنا بهذه الطريقة.

*

إننا نحملُ أسماءنا مجبرين، وكذلك نحمل إسقاطاتها في حياتنا دون أدنى اختيار، فلكل من اسمه نصيب وهنا تأتي "هاجر" محملة باسمها حتى الموت: هاجر، كما جاء على لسان الرواي: "وهي تهز معها قلادة فضية تتدلى من سلسلتها علاقة تحمل اسما بحرف اللاتينية، يبدأ بحرفٍ كجدارين تتوسطهما عصا، تباعد بينهما، وتقف إلى جواره أحرف صغيرة تشكل في النهاية اسما يبدو سهل التهجئة:  Hajar.

عبر خطٍ جوي يربط باريس والدار البيضاء، تُروى حياة كاملة، حياة "هاجر" التي كان من القدر أن تظل مهاجرة بين التيه والضياع، البحث المتواصل عن الذات، هجرة الذات وهروبها، عن الأب، عن الأم، عن علاقة حبٍ منطفئة وعن عملٍ أيضا، لا تتقبل هاجر عملها كموظفة في سنترك كول ولا هذا الشاب الذي تجمعها به قصة حبٍ  منطفئة، تبحث فيها عن سبب بسيط لتنهي فيه كل شيء ولو بمكالمة هاتفية، ثم تقفله إلى الأبد: من ثم تتساءل ما جدوى البقاء، ما جدوى المغادرة؟

 

لم تعش كالأخريات بين أبوين متواجدين تزهو بهما، ولا ميتين تزور قبرهما فتبرأ، كحجرة باردة على قلب ساخن،  لقد كانت في المنتصف، لم تنسهما ولم يتذكرانها كما يجب، أو فعلا ولكن بطريقة لم تعني لها الكثير، بل أدخلتها دوامة التيه من جديد، هُنا أيضا يتحقق مبدأ أن ننسى من نفقدهم فيعودون، أن يعود من نفقدهم فيموتون.

هاجر، سليلة العائلة الهاربة، "أمها هربت، والدها هرب، جدها الآخر هرب، جدتها هربت، جدتها الأخرى هرب"، ربما توارثوا هذا الاسم اللصيق بها بطريقة عكسية، كلعنة أتت على شكل المغادرة، دون موعدٍ.

لقد بحثت عن والدها إلى أن وجدته بباريس وبمكر الفتاة التي لا تعرف المكر، نفت أو رفضت أبوته، الأب الذي أصبح كاتبا بعد أن هرب ليلة مولدها وترك الأم تحت رحمة خالتها، أغلقت الباب على صراخِ مخاضها، فسالت هاجر من رحمها كطفل ذميم، أغلق العالم الباب على يديه وصوته، فزاده بؤسا، لم يعد "بوشعيب الشهب"، أصبح "صان نام"، واختلطت سيرته بسيرة ذاك الرجل الذي زرع فيه حياته، بتغيير طفيف، الأب الذي يبحث عن أبيه وذاته أيضا، بوشعيب لأب مغربي وأم فيتنامية، أما بطله فلأم مغربية وأب فيتنامي، كانت هناك في حرب الفيتنام، تقاطعت سيرتهما واستمر التوهان، هاجر لحقت متأخرة لتثول للأب، أنت أبي، سأتعافى من هذا الغياب، ونعود كما جئنا، في ولادة جديدة تستقبلنا فيها باريس وترحب بصرختي بعد ثلاثين عاما، لكن العالم هذه المرة أغلق بابه على قلب "بوشعيب الشهب"، وورثها جزءًا من روايته ورسائل كثيرة عنه، كتبها في أيامه الأخيرة ابنة أتت في الوقت غير المناسب ومرة أخرى عاودت المجيء متأخرة بكثير.

لم تكن هاجر سوية في جميع علاقاتها، ابتداءً من يوم مولدها الذي هرب فيه والدها، مع أمها التي شُبهت علاقتها بها على أنها "نزيلتين في دار عجزة"، الأم التي تركتها بعمر الست سنوات عند كلتوم، حولتها إلى خادمة كما أمها تماما، ثم رجعت بعد سنوات، بعد أن ذابت علاقة الأمومة بينهما، أمٍ لم تكن الحياة أقل وجعا عليها ، عادت ببيتٍ يجمعهما رغم تفرق كل ما تشعران به، ولا علاقتها بحي قشلة عين البرجة، ولا علاقتها بهاجر أيضا.

لم تكن هاجر، إلا معطوبة من باب العالم الذي أقفل على صراخ مولدها ولم تتصالح معه أبدا.

 سكينة، آه يا سكينة، من أين أتيت بهذه القدرة على السرد، السرد الممتد بين أجزاء مترامية للحكاية دون احترام للزمن ولا المكان ولا الترتيب، لم أشعر لوهلة أنني أمام أول تجربة روائية، الانتقال من الشعر إلى الرواية، السرد البسيط والتكثيف، الانتقال بلسان السارد، بين الراوي وصان نام، لقد أخذت سكينة معها من حقيبتها الشعرية وحولته إلى سرد شاعري، التماهي الذي صنعته مع الرواية جعلني أتذكر سرد واسيني الأعرج وحنان الشيخ، كذلك علوية صبح، لسكينة روايات مخبأة بالتأكيد.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 كاتبة جزائرية .
 رواية بيت القشلة هي الرواية الأولى للشاعرة المغربية "سكينة حبيب الله" ـ صادرة عن الدار العربية للعلوم 

مقالات من نفس القسم