برُوس ليّ

برُوس ليّ
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد صبحي

اليوم وأنا وسط المدينة أبحث بين السائرين عن الوجوه التي أعرفها قبل سفري، لم أصدق عندما نظرت في عيني الهودج الأدمي الهائل الذي رأيته أمامي ووراءه هيكل امرأة قاتم يتبعه، هودج ضخم بجلباب قصير وذقن هائل أشعث وجسد سمين، كدت أصرخ: بروس ليّ !

.......

كان يحيّي أو بروس ليّ رغم سنواته الخمسة عشر عملاقاً نخشاه كلنا، يضحك ويلقي النكات، ويحرك جسمه وأطرافه بشكل دائم، ليطول زملاءه بيديه أو أقدامه يداعبهم، وبين الحصص أوفي الفسحة كان يعيد علينا ما تعلمه بالأمس من تدريبات الكاراتيه التي بدأها في الساحة الشعبية، وكان الزي العسكري الرمادي الضيق الذي نرتديه في المدرسة، والشرز الميري الغامق فوقها، والجتر والبيادة يضيفان علي هيكله بمؤخرته الضخمة، وسيقانه الرفيعة الطويلة تحتها، شكلاً يزيدنا ضحكا ،فيردد بصوت رفيع يقلد صوت بروس ليّ، الكاتا ٢٥ ، ثم يقفز في الهواء، ويبدأ في تحريك يديه وقدميه وساقيه كما تعلم بطريقة هزلية، تميتنا من الضحك، ونحن من بعدها نعاود تقليده بطريقة أكثرهزلاً، وبينما هو يصيح ويصرخ، يزداد صياحنا وصراخنا وتزاحمنا فنسقط علي الأرض من كثرة الضحك والدمع في أعيننا

…………….

بعد أن أنهينا المدرسة، وفي العام الأول كنت أراه من وقت لآخر وهو يمر بين طرقات القطارات التي تحملنا للذهاب للجامعة، ببدلته البنية الأنيقة والقميص المكوي بعناية، فنقف سوياً لتذكر أيام المدرسة والكاراتيه ونستكمل بمغامرات الجامعة والعالم الجديد الذي فتح أمامنا، ثم أختفي فجأة، وانقطعت عني أخباره ولم أعد أراه

في نهاية سنوات الجامعة، وأنا أمر في قطار السابعة صباحاً المزدحم عن آخره ، أبحث لي عن موضع لقدم في إحدى الفراغات ، وجدته أمامي، يجلس وسط مجموعة من الناس في مربع من دكك القطار الخشبية، ضخم هائل كعادته، لكنه لدهشتي البالغة كان يرتدي جلبابا إسلاميا قصيراً غامقاً، وذقنه المشعثة تنتشر حول وجهه وتنزل حتي بطنه ، وكان بيده مصحف، وعندما باغتني وجهه، لم أصدق تماماً أنه يحيّي للوهلة الأولي، لكني بعد أن أفقت من المفاجأة صحت بضحك ومرح تلقائي.. بروس لي!٠٠

لكنه لم يعرني اهتماماً، وبدا وكأنه يضيق من رؤيتي، وهمهم بما يشبه السلام المقتضب، وإشاح بوجهه ليقطع الحديث، وكأنه خائف أن أواصل مداعباتي معه، فأُفسد الهالة التي تحيطه كشيخ جليل أمام المحيطين به كالمريدين من أصحابه الأصغر سنا، والمسافرين من العمال والقرويين حولنا، فلبثت أتململ ثم مضيت في طرقة القطار أبحث لي عن فراغ آخر أدخل نفسي به

……….

اليوم في وسط المدينة، عندما تلاقت عينانا، بدا عليه وكأنه لم يراني أبداً من قبل، قد يكون الزمن أوالبلاد البعيدة التي غيرت ملامح وجهي وملبسي فلم يعرفني، فحدق في بنظرة ثقيلة مبهمة غائبة ثم مضي أمامه ، يجر وراءه هذه المرأة التي تتلفع بالسواد من رأسها حتي قدميها ، فاستدرت أتابعهما بهيكله الضخم وهي تمشي في ظله وراءه ،حتي أبتعد وأختفي وسط الزحام وصدي ضحكاتنا بين الحصص وفي الفسحة يتردد في رأسي

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال