وفي آخر لقاء معه منذ بضعة أيام ونحن نحتفل بعيد ميلاده الأخير، حكى لنا عن علاقاته العديدة بالفنانين، وسرد لنا اعتزاز الفنانة «صباح» بالأغنية الجميلة «ساعات»، وكانت صباح تتحدث عن جمال هذه الأغنية، واعتزازها بها، ولم تكن تعرفه على المستوى الشخصي، وفي إحدى حفلاتها الكبيرة، وراح يداعبها، وجلس على المسرح بجوارها، فارتابت من جلوسه الغريب، وقبل أن تستدعي أحدا من معاونيها للنظر في أمر هذا المقتحم الذي لا تعرفه واستبعاده، عندها هتف، وقال لها إنه الأبنودي صاحب أغنية «ساعات»، وكان اللقاء حافلا، وكان فرحها – كما حكى – كبيرا ومبهجا، وهكذا كان الأبنودي يلقي بمرحه في كل المجالات.
ولكن هذا الشاعر المرح، الذي كان مجندا في القوات المسلحة المصرية في مطلع الستينيات، وينزل إجازاته القصيرة، وكان يتجول بزيه العسكري في المقاهي، ويقرأ شعره في الندوات بهذا الزي العسكري، كان يحمل هموم الوطن بكثافة، فانضم إلى فرق اليسار، وبعد أن قدمه صلاح جاهين بحفاوة شديدة في مجلة «صباح الخير» عام 1961، لأول مرة في الصحافة المعروفة والمرموقة، قبل أن يصدر ديوانه، أصبح الأبنودي شاعرا كبيرا دون أن يكون له كتاب واحد.
تعرّف في تلك الفترة على الناقد الراحل سيد خميس، ومحمد جاد، وفاروق منيب الذي كتب عنه صفحة كاملة في صحيفة المساء، وكذلك اقترب جدا من غالب هلسا وابراهيم فتحي وخليل كلفت، وانضم في منتصف الستينيات إلى تنظيم ماركسي، تحت اسم «وحدة الشيوعيين»، وهذا التنظيم تكوّن بعد إجراءات الحلّ التي خاضها الشيوعيون المصريون، وكان هذا التنظيم بمثابة إنقاذ الحركة الشيوعية من التحلل.
كان الأبنودي من الذين يقرأون بنهم، ويكتبون بنهم، ويعيشون الحياة بكل أشكالها، فأصدر ديوانه الأول في منتصف 1964، وكتب له دراسة نقدية مطولة سيد خميس، وكان عنوان الديوان «الأرض والعيال»، وكتب أغنيات كثيرة، بعدما نجحت أغنية «تحت الشجر يا وهيبة.. ياما كلنا برتقان»، فكاد عبد الحليم يحتكره، ولكنه استطاع أن يفلت من قبضة المطرب الواحد، فكتب عن آخرين، بكل طاقة العشق التي ينطوي عليها للوطن وللحياة.
وفي سبتمبر 1966 كتب الروائي والناقد غالب هلسا ثلاث مقالات في مجلة «الحرية اللبنانية»، كانت سببا جوهريا، وليس وحيدا للقبض على مجموعة من المثقفين والأدباء مثل سيد حجاب وسيد خميس ومحمد عبد الرسول وصلاح عيسى وطبعا غالب هلسا وصبري حافظ وابراهيم فتحي، وغيرهم، وكان في مقدمتهم عبد الرحمن الابنودي، وكان ذلك في شهر أكتوبر.
نال الأبنودي فى هذه الحبسة نوعا خاصا من التقدير لدى حرّاسه، الذين كانوا مندهشين من هذه السلطة التي تسجن مبدعين كبارا ومشهورين مثل الأبنودي، كما تضعه في الحبس الانفرادي دون جميع زملائه، وكان أحد الضباط يفرط في السعادة، لأن زوجته كانت تحب أغانيه التي كان يغنيها عبد الحليم حافظ..
وبرغم ذلك ظل الأبنودي عاشقا، وعندما خرج مع رفاقه بعد عدة شهور، أي في مارس 1967، وكان ذلك لأن عددا كبيرا من المثقفين المرموقين ضغطوا على الدولة للإفراج عن هؤلاء الأدباء، وكان جان بول سارتر في زيارة إلى القاهرة، ولكنه ربط زيارته هذه بالإفراج عن هؤلاء، وبالفعل تمّ الإفراج عنهم، لهذه التدخلات العديدة والفاعلة.
وجاءت هزيمة 1967، ليساهم الأبنودي بكل قواه وطاقته في تحريض الجماهير على الانتصار، ومواصلة ما قصّرت فيه اللحظة، ونسي الأبنودي في تلك اللحظة، كلّ الأحزان التي كانت بينه وبين السلطة، فكتب أغنيته الشهيرة، والتي ما زالت تدّوي حتى الآن فى كل المناسبات الوطنية، وهي:
)أحلف بسماها وبترابها
أحلف بدروبها وأبوابها
أحلف بالقمح وبالمصنع
أحلف بالمدنة وبالمدفع
بأولادي وأيامي الجاية
ما تغيب الشمس العربية
طول ما نا عايش فوق الدنيا(
وكتب في تلك اللحظة أجمل وأهم أغانيه، كان جنون الجرح يطارده، وجنون العشق كذلك، لم يستطع حجب الروح عن التعبير عن الجرح العام والشخصي، وكتب الأبنودي كثيرا حول الإهانة التي كان يشعر بها عندما حدثت الهزيمة، وأصدر ديوانه الثاني في نوفمبر 1967، أي بعد الهزيمة مباشرة، وكان مفعماً بهذا الحزن الشفيف، هذا الحزن الذي لا يسلمه للإحباط، ولكن للتأمل، والنهوض، والمقاومة، فكتب للسينما، وتعاون بكل قواه وثقافته مع كل الجهات، وعلى رأس هذه الجهات الدولة الوطنية، والتي لم تكن بعد قد رفعت شعارات السلام، التي انتهت باتفاقية كامب ديفيد، والتي هاجمها بضراوة، برغم الاستدعاءات الكثيرة التي كان السادات يحرجه بها.
جاء ديوانه الثاني «الزحمة»، لا ليضع الأبنودي ضمن الشعراء الشعبيين والوطنيين فحسب، بل وضعه فى مقدمة الشعراء المصريين عموما، وهو على كثرة ما كتب، كان يحفظ للشعر فنياته وتقنياته وآلياته الفنية الراقية، دون أن ينزلق من سماء الشعر، إلى منحدر الشعار، فلم يهتف، ولم يصرخ، إلا عندما كانت الدنيا تظلم تماما، مثلما حدث في الفترات العصيبة، والتي كان يريد أن يبلغ رسالة عاجلة وواضحة ولا تحتمل أي لبس، هنا يرتفع صوت الأبنودي، وتزدحم قصائده بالتحريض، والأبعاد المطلبية، وهذا حدث في مراحل كثيرة، كان أبرزها المرحلة التي حكمت فيها جماعة الإخوان المسلمين الوطن المصري، فى عامي 2012_2013، فراح يطارد النظام يوميا، وكانت زجلياته التي أسماها «مربعات»، تعمل عمل الهتّاف السياسي، والمحرض الجماهيري، بشكل سافر، كانت قصائده القصيرة، أو قل رسائله تصل إلى الناس بسرعة فائقة، تحمل قدرا من الغضب.
وبرغم هذا الغضب الذي كانت تحمله هذه المربعات، كانت تتخللها مساحات من التأمل والخبرة الفلسفية العميقة، والتي كان الأبنودي يتقن دسها، وخلق نوع من التواشج بينها وبين كل المشاعر التي تجتاحه وتجتاح عموم الناس والشعب.
الأبنودي عاشق الوطن والناس والحياة، الذي ظل سنواته الأخيرة يتوكأ على عصاه، كان عاشقا لأمه، وللمرأة عموما، وكانت علاقته بابنتيه آية ونور في غاية الرقي والحميمية، وكذلك زوجته الرقيقة، والإعلامية نهال كمال، التى تحمّلت جبالا من التعب والمشقة لمتابعة حالة الأبنودي الأخيرة.
كان الأبنودي يعشق رفاقه بجنون، ويتدخل بقوة لإنقاذهم من ويلات الحياة، وكان يوفّر لهم ما لم يستطيعوا توفيره من طرق حياة ومعيشة، وكان بيته مفتوحا للجميع، وعندما يعرف أن أحدا ألمّ به حادث ما، كان أول الذاهبين إليه لتقديم كل أنواع الدعم والمساعدة، ومثقفو القاهرة جميعا الذين عاصروه، كانوا يعرفون ذلك عنه، وهو الذي كان أول الحاضرين في رحيل رفاقه أمل دنقل وسيد خميس ويحيى الطاهر عبدالله، وكان يتلقى العزاء فيهم، بوصفهم إخوة له، أشقاء بالفعل، وليسوا أشقاء مجازيا.
وقبل ابنتيه، وزوجته نهال كمال، كانت علاقته الفريدة بزوجته الأولى عطيات الأبنودي، وقد نشرت رسائله في كتابها الرائع «أيام السفر»، وهي رسائل في منتهى الرقة والعذوبة، ولكن العلاقة الملتبسة التي احتدمت تعقيداتها بعد الانفصال، لم تسمح بتناولها نقديا في الصحف والمجلات، لكنها رسائل لا تقل عذوبة وأهمية عن رسائل كل الشعراء الانسانيين في العالم، وهي رسائل لا تحمل طابعا شخصيا محضا فقط، ولكنها تحمل بكل قوة نبض المرحلة التي كتبت فيها، وبكل تضاريسها السياسية والاجتماعية والنفسية والفكرية.
رحم الله الشاعر والفنان والناثر، الذي تجاوزت كلماته كل زمان وكل مكان.