اللا مُتناهي في راحِة يدَها

اللا مُتناهي في راحِة يدَها
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

 كتبت وئام مختـار

هذهِ رواية "اللامُتناهي في راحة اليَد" للشاعرة والروائية النيكاراجويّة جيوكندا بيللي، ترجمة أستاذ الأسبانيّة صالح علماني.

كما تقول نبذة الناشر – دار المدى - عنها" نالت الرواية جائزة بيبلوتيكا بريفي الأسبانية عام 2008، لتفرّدها وقدرتها على استحضار عوالم ما قبل العالم"، الرواية عن الرجل الأوّل والمرأة الأولى، عن آدم وحواء، قصّة أوّل الخَلق، التي لا تزال تُثير المخيّلة وتدفع بالتساؤلات إلى مقدّمة الرأس حتى الأن، لكن لهذهِ القصة هنا شأنٌ آخر، احتفاءٌ كامل من جيوكندا بيللي باللحظات الأولى، بالبدايات الحقيقيّة التي لا يسبقها توقّع ولا معرفة، والأشد طرّا :"بداية المعرفة نفسَها"

موطن الإبداع والسحر هنا الذي ينطلق منه كُل ما يُغلّف الرواية، أن جيوكندا بيللي وضعت نفسها تماماً موضع الأنثى الأولى، والرجل الأوّل، لقد غاصت في أصول أساطير خلق آدم وحواء فى التراث العالمي لعدّة سنوات: العبري "أربعين آية فى سِفر التكوين" ومخطوطات مكتبة نجع حمادى المصريّة التى اكتشفت فى الصعيد عام 1944، وفي مخطوطات البحر الميّت فى وادى قمران، و"الميذورا" وهي تعليقات كتبها حاخامات متفقّهون فى شرح العهد القديم، لتخرج بعد هذه السنوات، متخلّصة من كُل ما يُثقل الإنسانية من معرفة ومعلومات، وتكنولوجيا، والأهم: "التعوّد"، لقد تخلّصت جيوكندا من لعنة تعوّدنا على الأحاسيس المُختلفة، وعلى متلازمة been there. Done that" لقد ذهبنا هناك، لقد فعلنا ذلك"، واستحضَرت الدَهشة بكامِل عنفوانِها.

تنقسم الرواية إلى جزئين، الأوّل:" وخلقهُما رجلاً وامرأة": تحكي فيه جيوكندا كيف وجد آدم نفسُه، وكيف عرف نفسُه رجلاً، في حديقة واسعة غنّاء، تجوّل وعرِف الأسماء، أسماء ما حوله، وبعض مما يشعُر به، وكيف غلبُه النوم في مرّة، فاستيقظ ليجد حواء خرجت من ضلعِه كما رأى في الحلم، لحظة التعارف الأولى بالتلامس، والتي خرجت منها كُل محاولاتنا اليوم لمعرفة الجنس الآخر بشكل حقيقي:"شغلُه تفحّصها عن لعبة النسيان والتذكُّر وأخذ يتأمل ما بينه وبينها من تشابه واختلاف، مد يده وقرّبت يدَها مفتوحة، تلامست راحتاهما، وزانا بين يديهما، ذراعيهما والساقين، أخذها للتجول فى الحديقة، أحس بأنه ذو نفع، وأنه مسؤول، أراها النمر وأم أربعة وأربعين، والزرافة والسلحفاة، ضحكا كثيراً، تقافزا مرحاً، تأملا تنقل الغيوم وتبدّل أشكالها، واستمعا إلى ترنيمة الأشجار الرتيبة، جرّبا كلمات لوصف ما لا يُسمّى، كان يعرف أنه آدم ويعرف أنها حواء، وكانت تريد معرفة كل شىء."

لقد وجّهت بيللي أسئلة كثيرة، وضعت كُل شيء في الفردوس تحت الملاحظة، ونسجَت قصّة بارعة، ظهرت فيه الحيّة "ترمُز للشيطان في الرواية القرآنية" وهي تُوحي لحواء بأكل ثمرة التين من شجرة المعرِفة لتتحدى بها إرادة "إلوكيم – الآخَر أو القوّة الخالِقة في العبريّة" ، لتقوم حواء بأكلها وتُطرد وآدم خارج الفردوس، وتبدأ اكتشافاتهما، بدايةً من الجنس إلى الجوع والبرد وقسوة القتل من أجل البقاء ومن ثم التكاثر وأخيراً الموت.

عندما هبطَا إلى الأرض، لم تتوقّف حواء عن التساؤل، ولم يتوقّف آدم عن لومها، لكّن بعد قليل من الإستكشاف، بدأت الأدوار تتضّح، لقد وضعت جيوكندا بيللي نفسها مكان الرجل، وتجلّت فيما يشعُر بهِ وطريقة تفكيره، كما تجّلت في فضول حواء وفي ما يحكُم تصرفّها، وضعت منطقاً وسارت عليه، الرغبة تتحقق لأوّل مرّة ويصبحان "كرة سيقان وأذرع وأيد وأفواه يطارد بعضها بعضاً وسط تأوهات وضحكات مكبوحة"، ويعودان جسداً واحداً كما في بداية الخَلق "حين صار أحدهما داخل الآخر، وعرفا سحر العودة لأن يكونا جسداً واحداً، عرفا أنهما لن يعرفا الوحدة أبداً طالما هما هكذا"، ثم قادتهما إلى معرفة الجوع، ومن ثم الجَمع والإلتقاط، والصيد في مرحلة تالية، وأدّى هذا إلى العطش، ومن ثم محاولات بَلع الماء.

لقد مرّت في الرواية على كُل ما نعرفُه الآن مرور الأوائل، فكرة القرابين مثلاً، وكيف بدأها آدم ليحاول مراضاة "إلوكيم" ليُعيدهما إلى الفردوس، وبعد ما يأس من ذلك، استمّر في تقديم القرابين حتّى لا ينساهما إلى الأبد، ومن هُنا انسّلت العبادات التي نعرفها اليوم، من فكرة أنه " يجب الإنتظار على مقرِبة من الجنّة فقد يُبدّل الآخر رأيه" ويعفو.

ثِقَل التساؤلات التي بلا إجابة، لقد كان عقلي آدم وحواء يفوران بالأسئلة، ومحاولات الإجابة عنها، ما الذي نشعر به، ولماذا تسير الأمور هكذا، ما الخير؟ ما الشر؟ ما معنى كلام الحيّة؟ لما نحن على هذهِ الأرض؟ وما السبب من إبقائنا على قيد الحياة؟ وكُلّما عَرفا أكثر كلّما زادت وطأة التساؤلات التي تلِي، حتّى أن حواء أم الفضول الإنساني نفسها فكّرت أنها"لم تسأل عن شيء من هذا وهي في الجنة، وانتبهَت إلى الدعة التي كانت تتقبل بها آنذاك كل ما هو موجود، وأنها هي نفسها كانت جُزءاً من بهاءٍ لا يَسأل عن ذاته."

بداية الكتابة، الرسُوم البدائيّة على الحائط لأحداث اليوم وأنواع الحيوانات ومغامرات آدم التي يقصّها عليها، لقد كانت حواء في المغارة التي اتخذّاها سكناً، جسدها ثقيل بتوأمها الأوّل، وتفكّر كثيراً: "كانت الحاجة إلى التخلُّص من ذلك الضِيق هي التي قادتها ذات يوم إلى ابتكار طريقة تمكنها من رؤيته وإخراجه خارجها، ومنذ ذلك الحين صار يبدو لها أن هناك ما يسوّغ حتى الشعور بالحزن (...)لاحظت أنه بإمكانها استخدام قطع الحطب السوداء المحروقة، لترسم خطوطاً سوداء على جدران المغارة، وأحسّت بسعادة تشعر معها أنها أقل وحدة، كل ما كان خافياً في أعماقها خرج ليرافقها.."

ألسنا نكتُب اليوم كُل هذهِ الكُتب والروايات والدواوين، "لننُقذ أنفسنا، لندفع الجنُون بعيداً عنّا بكلماتِنا" كما قال تشارلز بوكُوفسكي؟

الجزء الثاني من الرواية، هو: "أثمِرُوا وتكاثروا"، يحكي ما حدَث بعد ولادة التوأمين " قايين ولولوا، وهابيل وأكليا" ومرورها الرشيق على تجربة الولادة وقُدرة منح الحياة – أو الخَلق بشكل مختلف -، كيف تربيّا وكيف شاهد آدم وحواء التغييرات التي طرأت عليهما، وعلّماهما الاعتماد على النفس، الحِرَف الجديدة التي دخلت إلى روتينهم اليومي، كتربيّة الحيوانات وغزل الصوف، حتّى جاءت لحظة التزاوج بين التوأمين، والصراع على الأخت الجميلة "لولوا"، لقد قتل قايين أخاه بعد وقت قصير، وحدث "الموت" لأوّل مرّة في أوّل حياة: "لا توجد طريقة لبكاء هذا الألم، من التراب أنت وإلى التراب تعود".

ختمت بيللي روايتها بالتأسيس للإنسان عبر أكليا التي وُلدت تشبه القرود، وبدأت تفقد قدرتها على الكلام، لتأخذها حواء لتعيش بين القردة: "تذكري كل ما عشته، في يوم ما ستتكلمين من جديد، والآن اذهبي، اركضي يا ابنتي، اذهبي واستعيدي الفردوس"

"لترَ العالم في حبة رمل
والسماء في زهرة برية
اجمَع اللامتناهي في راحة اليد
والأبدية في ساعة واحدة"

لقد استهلّت جيوكندا بيللي روايتها بهذين البيتين لويليام بليك، واقتبَست منه العنوان، وكم كان هذا موفقاً، فهذهِ الرواية هي بالفعل "اللامتناهي في راحة اليد"، اللا متناهي في راحة يَد جيوكندا بيللي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 كاتبة مصرية

 

مقالات من نفس القسم