أ.د. مصطفى الضبع
على امتداد نتاجه المتنوع، اعتمد عبد الفتاح أبو مدين فنونا مختلفة، وجدت صداها عند المتلقي، وكان له فيها تحقق الفنان وأسلوب المتمرس (القصة- المقالة – النقد – السيرة الذاتية – الكتابة الصحفية) وهو ما يجعل من مقاربتها محاولة لاستكشاف طرائق هذا النتاج في التحقق، وتقنياتها في إنتاج قدراتها على التواصل مع متلقيها.
ليست الظاهرة السردية وحدها ما يميز نتاج عبد الفتاح أبو مدين ولكنها واحدة من أبرز الظواهر المميزة لنتاجه كاشفة عن قدرات سردية ليس من الصعب اكتشاف مساحة عملها في نتاجه، وهي ظاهرة ذات أبعاد فنية تحيل إلى نظام اجتماعي ليست مجرد كتابة أدبية تجنح إلى الخيال بقدر ما تحيل إلى الواقع الذي كان منطقة عمل الكاتب ومدار اهتمام كتابته على اختلاف مجالاتها مترامية الأطراف متعددة الاهتمامات، إذ ليس بإمكانك أن تعده أدبيا تماما أو اجتماعيا خالصا وإنما هي مساحة من الوعي دفعت صاحبها إلى أن يقول كلمته في كثير من أمور حياته، وإن تصدر هذا الاهتمام مساحة واسعة تقارب الأدب والثقافة وأمورهما.
إجرائيا تقارب الدراسة نتاج الكاتب مستكشفة هذه المظاهر السردية وفق مفهومين للسرد: الإحكام – القص ([1]) وقوفا على نوعين أساسين من السرد:
- سرد مقصود لذاته يستهدف النهوض برسالته عبر سردية تقليدية تشتغل على نظام سردي يحيل على النوع المعروف للسرد (القصة).
- سرد مقصود لغيره يتحقق عبر نوع آخر من الكتابة حيث يكون للسرد طريقه إلى المتلقي ممررا عبر المقال وغيره من أشكال الكتابة.
واستهدافا لتحقيق مطمحها تعتمد الدراسة على تسعة مصادر أساسية من نتاج الكاتب:
- أمواج وأثباج 1959.
- حكاية الفتى مفتاح 1996.
- الحياة بين الكلمات 2002.
- الذين ضل سعيهم 2005.
- ألف صفحة وصفحة من الأدب والنقد 2009.
- وتلك الأيام 2009 (الطبعة الثانية).
- أيامي في النادي 2010.
- حديث الأمس 2015.
- واصدحي ياخواطر 2016.
وفي السياق الإجرائي نفسه تعتمد الدراسة أعمال الكاتب بوصفها عملا واحدا، كتابا واحدا متعدد الصفحات، مساحة زمنية تضم تفاصيل الموضوعات والقضايا محل الاهتمام.
مرجعيات الظاهرة
لكل ظاهرة مرجعياتها المؤثرة، يصعب فهم الظاهرة أو الوقوف على تجلياتها دونها، تتكشف عبر عدة تفاصيل يكون من شأنها التعبير عن الظاهرة وتفسير جوانبها أو ماهو غامض منها، ومن أهم هذه المرجعيات:
- الخبرات الحياتية: تلك التي اجتمعت في نفس الكاتب مع حياة ممتدة زمنيا ومفعمة بالتجارب عمليا، خاصة أن المساحة الزمنية الممتدة بين المولد والكتابة تنتمي لمساحة زمنية تزدحم بالأحداث العالمية المؤثرة في حياة المجتمع الإنساني بكامله، والحركة في المكان مختلطا بالكثير من الأفراد ومعايشا الكثير من الثقافات، والانتماء لجينات تنتمي لجذور متعددة:” ومن شبه المؤكد أن مولدي كان في أواخر عام 1926…. كانت جذورنا من – المغرب الأقصى – ونحن على كل حال من الشمال الأفريقي …….اما والدتي فهي حسبما سمعت منها فتنحدر من الجزائر، وكان والدها عالما، يسمى الشيخ بدر الدين الفليتي بكسر الفاء المخففة، وقد وجدت في وهران بالجزائر أسرة لقبها لقب جدي لوالدتي حين زرتها عام 1406 هـ” ([2])، وقد كان لتجارب الحياة وفي مقدمتها العمل مبكرا، ثم التنقل بين عدد من البلدان داخل الأراضي الليبية ، الاحتكاك بعدد كبير من الناس ، ظروف الحرب بوصفها اختبارا حقيقيا لقدرات الإنسان حتى على اكتساب الخبرات الحياتية ومعايشة تجارب استثنائية الطابع ، الحرب العالمية وهي تجربة كفيلة بصقل شخصية المعايشين لجانب كبير من أحداثها .
- علاقته بالقرآن الكريم: حفظه القرآن الكريم مبكرا مما كان له أكبر الأثر في تشكيل ذائقته، ومعجمه، واكتسابه ملكات التعبير وخاصة الحبكة بوصفها واحدة من أبرز سمات الأسلوب القرآني ” وأنا في نحو السادسة من عمري وحياتي البدائية لا أتذكر التاريخ بدقة، ذهبوا بي إلى رجل يحفظ القرآن ….. ومضيت في حفظ كتاب الله، نحو ثلاث سنوات وربما أربعا فوصل حفظي إلى منتصف سورة الحج ” ([3])، مما يعني حفظ أكثر من نصف القرآن الكريم، ومما يعني أن المساحة الزمنية كانت لتدبر الآيات وحفظها بطريقة تحمل الكثير من التدبر والتأني تحقيقا لاستيعاب الكثير من سمات القرآن الكريم وبلاغته، وهو ما انعكس – بحكم المرحلة العمرية وما تحمل من فراغ الذهن وبراءة التلقي – على حصيلة الكاتب اللغوية وتشكل وجدانه وتكوين ثقافته وتنمية خياله فليس أفضل من القراءة والسماع وسيلة لتنمية الخيال وتشكيل خصوبته ، وهو ما كان له أكبر الأثر في التأسيس لخيال الكاتب .
- استيعاب العصر والانفتاح على مصادر المعرفة: ليس من الصعب إدراك طبيعة الكاتب ومتابعته لعصره ومحاولته استكشاف المساحات غير المدركة أو البعيدة عن الإدراك، ومع تعدد الشواهد الدالة على استيعاب الكاتب لعصره ومتابعته الجديد فيه على مستوياته المختلفة: السياسية والاجتماعية والثقافية، فالكاتب الذي تتحول الحياة على يديه إلى نص، إلى كتابة مقالة تشتبك مع الواقع بكل ما يتضمنه والحياة بكل تفاصيلها، لا يكتب ذلك إلا بوعي من قلم يدرك ماذا يقول وكيف يقول وإلى من يتوجه برسالته.
لقد أقام الكاتب من الحياة العربية على امتداد مساحتها الزمنية مجالا لعمله، أوقف جانبا كبيرا من كتابه ” واصدحي ياخواطري” على دراسة شعر المعارضات، خاصة معارضات القصيدة الأشهر “ياليل الصب” للحصري القيرواني، ويقدم – بوعي الباحث المدقق – قائمة من مائة شاعر وشاعر ممن عارضوا القصيدة ([4]) تكشف عن سعة الاطلاع والتدبر والقدرة على التوصل للمعلومات في مظانها الأصيلة مستجليا بعض التجارب الشعرية في المشرق وموسعا مجال رؤيته حتى المغرب الأندلسي (دراسته ابن زيدون) وتجاوز ذلك القديم إلى الشعر العربي المعاصر ، خاصة مجايليه من شعراء العربية ، على الرغم من تصريحه بالحرص على دراسة شعراء الحجاز دون غيرهم :” كان بودي أن لا أتزحزح قيد شعرة ، عن البحث في شعراء الحجاز ” ([5]) ، لكنه يستمر في توسيع دائرة البحث والمتابعة حتى الشعراء الشباب أو الذين يمثلون جيلا تاليا لجيله ومعاصريه ، فيكتب عن الشاعر المصري محمد الأسمر (1900- 1956) ، كما يكتب بوعي نقدي مميز عن تجربة الشاعر اللبنانية سوزان عليون التي تنتمي لقصيدة النثر ([6])، بالجملة تكاد مؤلفات الكاتب تمثل رحلة في ديوان الشعر العربي قديمه وحديثه على مختلف عصوره وهو ما تشي به متابعة مؤلفاته وقوفا على المادة الخاصة بالشعر مما يمكن أن يقيم كتابا كاملا عن علاقة الكاتب بالشعر ورؤيته له ودراسته للكثير من تجارب الشعر العربي واشتباكه مع كثير من قضاياه، وفي الدراسات جميعها اعتمد الكاتب على علامات سردية تخص العصر و مجموعة الشعراء الذين تابع أعمالهم.
- العين الناقدة: وهي ملكة تستجيب للحياة في مختلف مناحي النشاط الإنساني، النقد هنا وعي قبل أن يكون مجرد عملية آلية لرؤية المناسب وغير المناسب أو إدراك ما هو كائن ومايجب أن يكون، وقد انطلقت كثير من مقالاته من منطقة الوعي النقدي بالعالم من حوله سعيا لتطوير واقع يتطلب تطوير كبير الجهد ممن يمتلكون هذه العين الناقدة التي أتاحت للكاتب التقاط ما هو دال و ما هو مناسب في بلاغته وماهو مكمن اهتمام الناس ، إذ يكون الكاتب ضميرا متيقظا لمجتمع يعول عليه الكثير ، وقد برزت في كثير من مقالات الكاتب هذه النظرة الناقدة الراغبة في التطوير .
تجليات الظاهرة
عند تقصي أية ظاهرة نصية فإن سؤالا يفرض نفسه بداية: من أين تعلن الظاهرة عن نفسها؟ ومن أي نقطة يمكن للقارئ استكشاف الظاهرة وتجلياتها؟ والإجابة تتمثل في عدد من النقاط التي تتدرج من ظاهر النص إلى عمقه ومن عتباته إلى متنه على النحو التالي:
- عناوين المؤلفات: وفي مقدمتها “حكاية الفتى مفتاح ” بوصفه العنوان المباشر، ويتلوه مجموعة العناوين التي تقارب السرد دون الوقوع فيه:
- أمواج وأثباج: يعتمد العنوان على عنصرين يحركان المتلقي لمعرفة العلاقة بينهما أولا، ودلالتهما ثانيا، واستكشاف الغامض منهما ثالثا، وهو ما يخدم في النهاية مساحة التشويق المتضمنة في العنوان لصالح الاتجاه لقراءة الكتاب.
- حديث الأمس: يتقاطع العنوان مع القص بمفهومه” تتبع الأثر “، وهو حديث لا يقف عند ماهو مجرد خيالي وإنما يتقاطع مع ماهو إنساني يقارب مفهوم السمر، وتبادل الحديث بكل ما يتضمنه من حكايات تعتمد مبدأ الشفاهية في الحوار، والكاتب ينص على ارتباط مادة الكتاب بالإنسان:” إن هذه الصفحات التي يضمها هذا الكتاب هي وفاء وإهداء من أوفياء أحبة ” ([7])
- وتلك الأيام: العنوان في صيغته تناص مع النص القرآني الكريم في قوله تعالى من سورة آل عمران:” إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ” ([8])، اعتمد الكاتب على الإشارة والمشار إليه بوصفهما التركيب الأبرز في قوله تعالى ، وبوصفهما البنية الأكثر جريانا على ألسنة مستخدمي التعبير ، وقد جاء استخدامه التعبير بهذه الطريقة محكما ، ذلك الإحكام الذي يتجلى في تركيب العنوان : اسم الإشارة (تلك) مبتدأ والمشار إليه (الأيام ) بدل والخبر هو متن الكتاب نفسه ، مما يجعل من مجموعة المقالات فعل المداولة بين الناس ، وهو ماتعبر عنه مجموعة المقالات بوصف كل منها جملة نصية دالة على ماتشير إليه من وقائع تجمع بين الصراع وتبدل الأحوال والمعارك الأدبية (ينفرد الكتاب بمقال مطول بعنوان المعارك الأدبية) ([9])
- ألف صفحة وصفحة من الأدب والنقد: حيث يلتقي العنوان مع عنوان العمل السردي الأعظم في الثقافة العربية والإنسانية ” ألف ليلة وليلة ” مستجليا مساحة من وعي المؤلف الأعمق بهذا التراث، ومعتمدا آلية التداخل والتسلسل بين العناوين الداخلية للكتاب الذي يؤكد ترتيب المقالات فيه على الإحكام، الكتاب يبدأ بداية مكانية محددا نقطة انطلاق دالة ” مكة المكرمة: المكان والمكانة ” ويتحرك بين القضايا والبشر والنصوص والأعمال الشعرية والمسرحية جامعا بين الأحداث والأشخاص والمكان والزمان منتهيا بالإنسان في نطاق التاريخ” العواد في ذاكرة التاريخ” دون أن يغادر الإحكام الداخلي الخاص بكل مقالة على اختلاف موضوعات المقالات وتنوع توجهاتها ومستهدفاتها.
- العناوين الفرعية: عناوين المقالات والموضوعات المشكلة لمادة كل كتاب ، ويعد عنصر الشخصية أبرز ملامح السرد في هذه العناوين ، يضم كتاب ” واصدحي ياخواطري” واحدا وأربعين عنوانا ثلاثة وثلاثون عنوانا منها ينص كل منها على اسم شخصية صريحا واضحا : فقيدنا الغالي الشيخ الحافظ – صقر الجزيرة وقضية فلسطين – حفل تكريم الشيخ الحافظ في نادي جدة الثقافي – علي الحصري القيرواني – معارضة أبي القاسم الشابي – معارضة محمود بيرم التونسي – معارضة أمير الشعراء أحمد شوقي – معارضة مصطفي خريف – معارضة جميل صدقي الزهاوي – عقبة بن نافع – عمرو بن الجموح – نسيبة بنت كعب – عبد الرحمن الغافقي – ربيعة بن مكدم – المهلب بن أبي صفرة – عكرمة بن أبي جهل – عمر المختار – عبد الرزاق بن حمادوش الجزائري- ابن خلدون – ابن زيدون (بحتري المغرب) – البيروني – الفارابي – ابن الهيثم – صلاح الدين الأيوبي – الخازن – البتاني – عيسى العوام – عبد الله بن أبي الشيص – جميلة بوحيرد – مع الأستاذ العقاد – الحكيم وكواليس الأدباء – لقاء مع أبي ريشة في أمسية – مقالب الأصفهاني ، فإذا كانت الشخصية تشير بوضوح إلى ذات كان لها حضورها في التاريخ الإنساني فإن المتلقي يأخذ إزاءها واحدا من موقفين أو وضعية من وضعيتين :
- العارف بالشخصية: وهو ما يعني أن السؤال المنبني على المعرفة يخص ماهية المقالة ومقصدها وما يستهدفه الكاتب من استحضار الشخصية في موضعها من العنوان مما يعني أن هناك احداثا ترتبط بالشخصية أو مواقف تخصها، والسؤال قد يتبلور في صيغة، ما الجديد عن الشخصية التي أعرفها؟
- غير العارف بالشخصية: وهو ما يجعل من الشخصية منصة إطلاق لسؤال مغاير عن كنه الشخصية أو ما هيتها استكشافا للشخصية نفسها قبل التوصل إلى أو البحث عن سبب استحضارها، وهو ما يحرك المتلقي إلى البحث والمعرفة لإدراك المجال الحيوي للشخصية محل الموضوع.
ومع تعدد الشخصيات في الكتاب المشار إليه أو في غيره، فإن المتلقي يقف الموقفين بالتبادل (مرة هو يدرك وأخرى يكون الموقف مختلفا)، كما يعيش الموقف بالتدريج (هناك شخصية يعرفها تماما، وثانية يعرفها بعض المعرفة، وثالثة يجهلها تماما)، وفي كل الأحوال فإن المتلقي يكون مدفوعا للمعرفة استجلاء للعلم ومجاراة للتشوق الذي يدفعه قدما للاستكشاف عبر أسئلة أخرى ذات طابع سردي بالأساس أبرزها وماذا بعد؟
ومما يؤكد الظاهرة أن صداها يتكرر في نتاج الكاتب فلا يعدم المتلقي الوقوف على عناوين فرعية في مؤلفاته الأخرى يتضمن العنوان منها شخصية تحقق الأثر نفسه في نفس المتلقي:
- وفي كتابه ” أمواج وأثباج ([10])”: مقارنة بين طه حسين والعقاد –الشاعران المتشابهان – الشابي وجبران – المليباري وقصتي – ذكرى حافظ – ذكرى شوقي.
- وفي كتابه “الحياة بين الكلمات” ([11]): الجواهري – حمزة شحاتة الأديب والمفكر – أبو الفضل.. البهاء زهير – صديقي: ابن بطوطة.
- في كتابه ” وتلك الأيام “([12]): الشيخ الغزاوي – أمين رويحي.
- وفي كتابه ” أيامي في النادي “([13]): كلمة رئيس النادي الأستاذ محمد حسن عواد في افتتاح النادي وبدء نشاطه – كملة نائب الرئيس الأستاذ عزيز ضياء في بدء نشاط النادي – كتب الأستاذ راضي صدوق في صحيفة البلاد – حمزة شحاتة في قراءة النص.
- وفي كتابه: حديث الأمس ([14])”: كلمة المحتفى به الأستاذ عبد العزيز الرفاعي – فؤاد الخطيب: شاعر النهضة العربية – الخطراوي وما اختار من الشعر الحديث……….
- وفي كتابه “ألف صفحة وصفحة من الأدب والنقد”([15]): الجواهري: آخر الفحول – بين زكي مبارك والسباعي بيومي – البرقوقي ومجلة البيان – بين الآنسة مي وولي الدين يكن – الأدب الجاهلي بين أحمد أمين وزكي مبارك – المعركة الأدبية بين أحمد أمين وزكي مبارك -بين أحمد أمين وعبد الوهاب عزام – نظرات نقدية لأحمد أمين – من أسرار العلائق بين شكري والمازني والعقاد – عادل الغضبان ومجلة الكتاب – معارك أنور المعداوي النقدية – محمد كرد علي وآراؤه في علماء عصره – بين فريد وجدي والزهاوي ……
الشخصية هنا تتجاوز كونها عنصرا سرديا إلى كونها علامة على العصر وإشارة على مرحلة زمنية ممتدة عبر الزمن بالقدر الذي يجعل من عملية تلقيها استكشافا لمحيط حيوي ينتمي إليه الكاتب بوصفه الشخصية الأساسية في السردية الكبرى الخاصة بالكاتب عبد الفتاح أبو مدين حيث هو السارد والمسرود عنه والمسرود به في آن.
إذا كان الكتاب بكل ما يتضمنه من مقالات كتابة سردية حاضرة تنتمي لزمن القول فإن الاستهلال السردي في كل مقالة حين يعود إلى الماضي فهو نوع من اللواحق السردية التي تمثل لحظة سردية تنتمي للماضي حدثا وتنتمي للحاضر سردا، ويكون على المتلقي الوعي بزمن القول وزمن التلقي رابطا بينهما إدراكا لما تمثله مقولات الكاتب من قيمة لها طابعها العصري ، ولها دورها في تاريخ الأدب لما تقدمه من جانب معلوماتي عن مرحلة يقل الشهود عليها وتصبح كتابة معاصريها نافذة لكل الأجيال ولكل دارسي الأدب العربي والمعنيين بالثقافة العربية .
سرديا يمكن تقسيم نتاج الكاتب إلى قسمين كبيرين:
- الأول: السرد المباشر: يتحقق في النص الأقرب لروح السرد، السيرة الذاتية ممثلة في ” حكاية الفتى مفتاح “، ويمثل نظاما سرديا تبرز فيه العناصر السردية الأبرز، ويكون السرد مطروحا بشكل مباشر منذ العتبة الأولى المتضمنة لواحد من مصطلحات السرد” حكاية”
- الثاني: السرد غير المباشر: وهو المتحقق في الأنواع الأدبية البعيدة بطبيعتها عن نظام السرد، وحيث لا يكون السرد مقصودا لذاته وإنما يكون مقصودا لغيره لأداء وظيفة فنية في سياق الأنواع الأدبية المختلفة، فالكاتب الذي يقدم دراسة نقدية أو يكتب مقالا في شأن من شؤون الحياة والمجتمع والبشر يقارب نظام السرد ويعالج قضيته من خلال مشاهد سردية تتعدد وظائفها بداية من بثها التشويق وحتى قدرتها على تقديم المعرفة في صورة محببة للنفس.
والقسمان يتحقق وجودهما في تجربة الكاتب عبر أربعة مظاهر أساسية تكون بمثابة الأنواع الأدبية التي توزع فيها نتاج الكاتب:
- السيرة الذاتية: “حكاية الفتى مفتاح“، العنوان روائي بالأساس يجمع بين السيرة الذاتية فكرا والسرد الروائي أسلوبا وطرحا والتصريح بالسيرة واعيا بمقتضياتها من صدق وحسن تعبير عن التجربة الإنسانية ناقلا أحداثها بأمانة الكاتب ووعي المفكر ورؤية المكان وفق وعي المواطن الكادح، فالراجل الذي يقطع الأرض سيرا يتاح له إدراك تفاصيلها كاملة.
يتناسب مصطلح الحكاية مع مجريات التأليف، فالكاتب يعمد بداية إلى تشكيل خطين سرديين: خط الحكاية، وخط الشخصية الغيرية، في الأول يتشابه السارد مع الحكاء القديم، حين يأخذ متلقيه إلى زمان مغاير أو مكان مغاير إحكاما لقبضته على عملية التلقي حين ينفرد هو بمعرفة الحكاية، وحين يكون هو الشاهد عليها، وقد توفرت السمتان للكاتب حيث ينفرد بزمن بعيد في مكان بعيد “ مولدي كان في مدينة بنغازي بليبيا، في ضاحية تلك المدينة، تسمى البركة بكسر الباء وسكون الراء، وفي جزئية من البركة.. التي تبعد عن وسط بنغازي بنحو أربعة أكيال، الجزئية هي – الرويصات – تكتب بالصاد، ويقال إن التسمية.. جاءت من نتوء حجارة تشبه الرؤوس، فسميت الرويصات” ([16])، بسيطرة الحكاء ينفرد بالمعرفة وبدقة السارد يقدم للمتلقي ما يجب أن يعرفه عن المكان وما يساعده على الاستكشاف إدراكا للخلفية المعرفية التي هي من سمات السرد الحكائي، وفي الثانية يجرد العنوان من نفسه شخصية أخرى مراوحا بين ضميري المتكلم والغائب، مفسحا زاوية الرؤية لمتلقيه لإدراك المشهد على اتساعه من البداية متيحا له الفرصة لإدراك التفاصيل التي يصعب إدراكها حال ضيق المشهد.
لا يكتفي السارد بذلك وإنما لتحريك متلقيه بين الأمكنة معتمدة الذاكرة المكانية للتنقل عبر الزمن في ارتباطه بالمكان، يقول في وصف أحد الأمكنة “يشبه إنتاج الطائف عندنا “([17]) رابطا بين الأمكنة في ذهن المتلقي ومحركه بينها حركة ذهنية تعينه على تمثل المكان البعيد والمغاير.
والطريقة نفسها يعتمدها السارد حين يحرك المتلقي بين زمنين: زمن الحكي وزمن السيرة، إذ يتحرك السارد إلى منطقة زمنية ما، ويكون حريصا بعدها على استخدام إشارة للدخول إلى اللاحقة لإعادة القارئ إلى مناخ السيرة خروجا من طقس الماضي ” وأعود إلى سيرتي “([18]) محافظا على خط السرد السيرذاتي دون انقطاع لاستكمال الحكاية.
لا يقوم السرد عند الكاتب على مجرد الحكي لأجل الحكي وإنما يستهدف السرد تحقيق وظيفة / وظائف تحققها الحكاية (حكاية الفتى مفتاح)، تقوم مجموعة الوظائف على ما يمكن عنونته بالسرد الاسكتشافي، القائم بدوره على تحقيق عدد من الاستكشافات:
– استكشاف الذات: يعتمد السارد ضمير المتكلم مانحا نفسه مساحة من البوح، تلك المساحة التي تنضاف إلى المقالات ذات الصبغة الذاتية أو تلك التي تقدم جانبا ذاتيا للذات ومن حولها من الأشخاص.
– استكشاف العالم من خلال الأحداث والوقائع: عبر ثلاث دوائر مكانية كبرى يتحرك فيها السارد، ثلاث قارات يتشكل منها عالم الشخصية في حركتها الإنسانية هي على الترتيب الزمني: أفريقيا – آسيا – أوربا، وداخلها مجموعة من الدوائر المكانية الصغرى، أقدمها في ليبيا وأكثرها في المملكة العربية السعودية وأحدثها في أوربا، وهي دوائر يصطبغ فيها السرد بما هو تاريخي، وماهو حضاري وماهو ذاتي.
– استكشاف البشر من خلال التحليل: يسرد الكاتب عن الأشخاص وبهم، على مدار رحلته من ليبيا إلى الاستقرار في المملكة هو في رحلة احتكاك دائم مع الآخرين، مقرا بفضل البعض، ومحللا شخصية الآخرين، ومقدما نماذج بشرية يعمل السرد على تدشينها في ذهن المتلقي مما يدرجها تحت بند الشخصيات الجاهزة ذات الحضور التاريخي، يتقدمها الأم والخال، وتتسع الدائرة لتشمل الكثير من الشخصيات التي عايشها الكاتب وعمد إلى تصويرها عبر لغة أقرب على طبيعة القص بما تحمل من سمات فنية تجعلك في لحظة تشعر أنها شخصيات ورقية منتجة خصيصا لنظام السرد مطابقة لنظام الحياة الإنسانية.
– استكشاف اللغة من خلال الوعي بها وانتقاء ما يناسب الحكاية وما يناسب مقام السرد منتجا بلاغته القائمة على الجمع بين أساليب السرد والشعر والتاريخ فالكاتب يحكي عن البشر دون مغادرة التاريخ في تأثيره على البشر ودون مغادرة الأحداث في قدرتها على صناعة النموذج الإنساني ، وهو ما يشكل مجموعة السمات الفنية التي تتكشف عبر عمل السارد الحريص على اعتمادها ومن شأنها التكريس لبلاغة السرد وإبراز ملامحه الفنية، يمكن الوقوف منها على التناص الذي يؤكد المرجعية، مرجعية السارد وثقافته وخبراته حيث تتشكل التناصات من :
- القرآن الكريم: في مواضع متعددة منها على سبيل المثال مايرد في صفحات : 45-74-88-96-112.
- الشعر: في مواضع متعددة منها على سبيل المثال مايرد في صفحات: 34-65-72-95 المازني- 107-112-115
- الأمثال والحكم والأقوال المأثورة: في مواضع متعددة منها على سبيل المثال مايرد في صفحات: 57-90-108.
- السرد القصصي: وينقسم إلى نوعين أساسيين:
النوع الأول: سرد الشخصية: ويتأسس على مجموعة من النصوص المحكية عن شخصيات لها حضورها التاريخي، يقدمها الكاتب في إطار قصصي، تبدو لغير العارف بها خيالية، ولا ينشغل الكاتب بتوثيقها أو ردها إلى مصادرها وإنما يقوم بما يشبه اللعبة السردية مع متلقيه يقدم النص مصدرا بعنوان يحيل على ذات ، والمتلقي مالم يكن عارفا بالشخصية أو يبحث عنها فإنه سيتعامل معها بوصفها شخصية خيالية إلى حد ما ، وفي كتابه ” واصدحي ياخواطر” يوقف قسما كبيرا من الكتاب، يمتد على مدار تسعين صفحة من صفحات الكتاب (102- 192) يقدم خلالها عشرين شخصية يحرص منذ العنوان على تقديمها بصيغة سردية ، تعتمد على قصر مساحة العنوان لاسم الشخصية دون أية لواحق أو سوابق ([19]) ، و تنقسم النصوص المعنية بهذه الشخصيات إلى نوعين : نوع يتدخل فيه السارد بتوجيه القارئ إلى الغاية من الرسالة والحكمة من مقاربة الشخصية وهو ما يبتعد بالنص إلى منطقة بعيدة قليلا عن السرد ، ونوع لا يتدخل فيه السارد بالتوجيه ، وهو النوع الأقرب للسرد ، في النوع الأول تأتي قصة ” عقبة بن نافع” التي يستهلها الكاتب بما قربها من روح السرد ، حين يدرج مقولة عقبة ” اللهم فاشهد أني لو كنت أعلم أن وراء هذا البحر أرضا لخضته غازيا في سبيلك ” ([20]) بعدها يروح الكاتب يقدم مشاهد دالة تشكل في النهاية لوحة سردية عن الشخصية ، ثم يتدخل الكاتب السارد في النهاية للكشف عن طبيعة الرسالة التي يتغياها بشكل مباشر:” ما أكثر هذه النماذج الرائعة في أحقاب تاريخنا ، وما أجدرنا أن نفخر بهم ، ونتخذ منهم أسوة في يومنا وفي غدنا ، وما أجدر فتياننا أن يحتذوا نهجهم ، ويسلكوا سبيلهم في التضحية والفداء في الدعوة إلى الله على بصيرة ، لنعيد سيرتنا الأولى ، إيمانا بالله وجهادا في سبيله حتى يرث الله الأرض ومن عليها ” ([21]) محددا هدفه وراسما طريقا يفضي إليه النص في صياغته السردية ، وفي النوع الثاني تأتي قصة عمرو بن الجموح ([22])، تلك التي تكاد تكون قصة مكتملة الأركان يعتمد فيها كاتبها على خط درامي ينمو مع تقدم الحكاية.
يستهل الكاتب حكايته بعتبة نصية تتحرك بين الوضوح (لمن يعرفها من دارسي السيرة النبوية) والغموض (لمن ليسوا على دراية بها أو سابق معرفة بسياق الشخصية)، خاصة أن تركيب الاسم متداول في الجزيرة العربية في العصر الحديث مما خلافا لما يتوهمه البعض ممن هم خارج الجزيرة العربية ([23]).
يستهل الكاتب نصه بوضع الشخصية في مواجهة الزمن مما يوحي بأزمتها الدرامية الطابع:” مرت الأيام على عمرو بن الجموح بطيئة ثقيلة، لقد كان شريف بني سلمة ينتظر عودة حجيج يثرب، وقد قصدوا مكة لزيارة بيت قريش وحضور موسمها، وكان من بين هؤلاء الحجيج ولده ” معاذ” وصديقه وصفيه ” عبد الله بن عمرو بن حرام” ” ([24]) ويكون على المتلقي طرح أسئلته الخاصة بتحصيل ما وراء الاستهلال من الوقوف على طبيعة الشخصية وأزمتها، والمجال الحيوي للحدث من خلال الإشارات الزمنية الدالة (موسم الحج) والمكانية (يثرب).
يعتمد السارد نظام القطع الزمني بإحداث فجوة زمنية بين الحدث الأول والحدث الثاني إشارة إلى مساحة الزمن وثقله على نفس الشخصية ” وعاد الركب أخيرا إلى يثرب، ولكم سر عمرو بن الجموح بعودة ولده وصديقه، وأسرع إليهما ليقابلهما ولكن ما لابنه وصديقه ينأيان عنه ويبتعدان ” ([25]) ، ثم يعتمد طريقة التوالي ، توالي الأحداث ، فإذا كان حدث التوتر قد زال بزوال سببه (عودة المسافرين ) فإن حدثا جديدا يدعو للقلق ويحافظ على التوتر بدرجة أخرى ، حيث يستجد سبب آخر لتوتر من نوع جديد ، توتر يعلن عنه السارد بصيغة الاستفهام النابع من نفس الشخصية إلى نفس المتلقي ناقلا قدرا من التوتر للمتلقي ولكنه توتر يترجم إلى تشويق حيث جهل الشخصية بسبب إعراض الابن والصديق يصل إلى المتلقي بمعنى التشويق والتطلع لمعرفة سبب الإعراض عن الشخصية تعاطفا معها .
يعتمد السارد بعدها على اللواحق عائدا إلى الماضي مقدما للمروي له مايفك غموض اللحظة:” طالما فكر هو وعبد الله عمرو بن حرام صديقه فيما آمن به قومه من دين جديد، نزل على شريف عبد مناف وسيدها “محمد ” بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم ” ([26])
يجمع السارد بين فعلين يتصارعان في نفس شخصيته: فعل الكفر ممثلا في عبادة الصنم، وفعل الإيمان ممثلا في عبادة الله سبحانه وتعالى، وعابد الأصنام يقف وحيدا منعزلا مما يلجئه إلى صنمه الذي لم يحقق له ما يخرجه من عزلته، وتظل حالة التوتر قائمة حتى يقدم السارد ما يتوافق مع فعل الإيمان، ذلك الفعل الداخلي القادم من أعماق النفس الإنسانية فبعد مرات من تخلص الفتيان من الصنم و إعادته يقدم عمرو على فعل يخص الضمير الإنساني إيذانا بصحوة داخلية :” وفي آخر مرة علق عمرو سيفه عليه ، ثم قال له : “وإني والله ما أعلم من يصنع بك ما أرى ، فإن كان فيك خير فامتنع ، فهذا السيف معك ” ، استيقظ ضمير الرجل أخيرا ” ، وأدرك أن الصنم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ” ([27])
يكرر السارد مفردة” أخيرا ” بوصفها علامة سردية تحيل إلى فجوة زمنية – مع اختلاف الموقف- في المرة الأولى جاءت لتريح نفس الشخصية وفي المرة الثانية لتريح نفس المتلقي وهو يدرك طبيعة اللحظة مع استيقاظ ضمير عابد الصنم، ليدخل الكاتب شخصيته في منطقة التصالح مع العالم من حوله، ويخرجه من منطقة الكفر الضيقة إلى منطقة الإيمان على اتساعها مدخلا الشخصية في سياقها الإنساني الطبعي وقد ارتد إليها وعيها باستعادتها ضميرها الغائب.
بعد أن يعيد السارد الحدث إلى توازنه الجديد، يعمد إلى تحفيز المتلقي باستثارته خارج النص مستخدما تعبيرا يبدو كشفا عن فعل السارد العليم بكل شيء:” كم كان يؤلم هذه النفس الكبيرة أن يحول بينها وبين الجهاد لأجل دين الله حائل جسماني!! وكم تعطشت إلى جنة عرضها السموات والأرض!!” ([28]).
السارد في النهاية لا يتدخل في النص ليكشف عن هدفه أو يوضح رسالته وإنما شأن نظام السرد يترك متلقيه للعمل على التوصل للرسالة المقصودة، فقط يعمد إلى تشويقه ومن ثم يدفعه إلى استكشاف ما يستهدفه الخطاب.
في بقية النصوص المشابهة يعتمد السارد على المتن التاريخي محافظا على الحدث، معيدا تشكيله عبر المبنى السردي الصالح للتقديم إلى المتلقي المعاصر، دون أن يشغل نفسه بنسبة النص واعيا بأن النسبة والتوثيق والعنعنات من شأنها أن تعيق تلقي الرسالة، تاركا لمتلقيه الحرية أن يقف على المرجعيات او أن يكتفي بروح الحكاية موسعا من دائرة عملها، في الأولى يستعيد نموذج الشخصية الإسلامية الأولى في زمن النبوة وفي الثانية يرفع من شأن الإنسان المؤمن في كل زمان ومكان، مؤكدا على قيمة الوعي الإنساني في لحظته الفارقة.
إن مجموعة من السمات يمكن اكتشافها في هذا الجانب من سردية عبد الفتاح أبو مدين تتبلور في:
- الاتكاء على الماضي بوصفه مرجعية إنسانية، وبؤرة يمكن العودة إليها في سبيل إنتاج نصوص سردية لها طابعها الفني.
- استلهام الثقافة العربية الإسلامية بوصفه نموذج الثقافة الأصيلة.
- الإعلاء من شأن الشخصية الإنسانية والتركيز على مساحة الوعي الذاتي فيها، ومناطق الاقتداء مما يجعلها صالحة للتقديم للأجيال المتعاقبة من النشء.
- الإيمان بدور المرأة في حياة المجتمعات فلم تنحصر الشخصيات على النموذج الذكوري فحسب وإنما كان للنموذج الأنثوي حضوره في إطار السردية.
النوع الثاني: سرد المكان، في نص مطول (يقع على مساحة تسع وأربعين صفحة من 239-288) بعنوان “من أيام الإجازة” ([29]) ينتقل بنا السارد إلى مكان مغاير يضم مجموعة من الأمكنة المتعددة التي يتحرك فيها السارد في بعض مدن أوربا.
يعتمد النص على التقطيع الداخلي عبر مجموعة من العناوين الداخلية التي يصل عددها إلى ثلاث وخمسين عنوان: الأتوبيسات – تحت الأرض – حادثة تضحك – تفسخ – في اليوم الثاني – عند حلاق – الطلبة- في التسجيل – في البريد – عودة – حجز – إلى لندن -في البنوك – يوم الأحد- في هايد بارك – موقف – موقف آخر – في الفندق – صدمة – إلى باركليز – محاولات – في الفندق – في المطاعم – وحشة – مروءة – سيارة – مع البوليس – بالساعة – غرامة – ثمن الدواء – لاخادم – مغادرة – في الطائرة – في ميلانو – البحث عن سرير – انتقاد – المنزل الثاني – القطار الكهربائي – قبل الفجر – في الشارع – في مطار ميلانو- في الفندق – مغادرة – دفء – في الأرض – زلزال – في الطائرة – في تونس – أجور مختلفة -في الجمرك- الحياة في تونس – إصلاحات – اللغة .
في ظاهرها تجمع العناوين بين مكونات العنوان الخمسة: الفاعل – الحدث- الزمان – المكان – الأشياء، متبلورة في صيغ لغوية مختلفة: جوامد ذات (لندن – باركليز – الجمرك…)، جوامد المعنى (تفسخ – حجز – مغادرة ….)
وفي باطنها تجمع بين ثقافة السارد المراقب، وثقافة المكان، السارد في وعيه بثقافته يرى ما تفرضه عليه ثقافته، يتحرك بين تفاصيل المكان بما تتضمنها من بشر وأنشطة إنسانية وصراعات بين البشر والحضارات في مساحة مكانية بين قارتين بادئا من بريطانيا ومنتهيا بتونس (أفريقيا) مرورا بميلانو (إيطاليا)، يبدأ السرد من مكان متحرك (الأتوبيس البريطاني بطابقيه) ويتوقف السرد في مكان ثابت (تونس).
يجمع النص بين سرد الرحلة، وسرد الريبورتاج الصحفي، عبر طريقة السارد الزائر الذي يدخل المكان قادما من مكان مغاير وثقافة مختلفة وهو ما يكون له تأثيره في انتقاء المشاهد في نقلها التجربة الحضارية لذا فإن السارد يبدأ من منطقة النظام:” الأتوبيس في بريطانيا طابقان. ويصعد للطباق الأعلى بسلم من الطابق الأول، وتشارك المرأة في عملية بيع التذاكر في هذه الأتوبيسات، والوقوف في الأتوبيس ممنوع، وقد تكون مع رفاق، فيجد البعض مقاعد شاغرة والبعض الآخر لا يجد، وحينئذ يترتب على من لم يجد مقعدا، أن ينزل من غير جدال، أو مناقشة ” ([30])، والسارد يتدرج من المظهر إلى المخبر فالمشهد المرسوم ليس مجانيا وإنما هو يرسمه للوصول إلى التأكيد على الوعي الحضاري بأهمية النظام مانحا المشهد مستوييه: السطحي والعميق ومحركا ذهن متلقيه لتمثل الخطاب الحضاري في منظومته العصرية.
يتسم سرد المكان كما يطرحه الكاتب بدقة الوصف وتعدد التفاصيل وتنحية الحذف، فالصورة لا تعتمد على مرجعية سابقة للمتلقي وإنما يجتهد السارد في إنشاء الصورة وتثبيتها والعمل على تشكيل صورة ليس لها مخزونها المعرفي السابق، أو هو يعمد إلى تصحيح صورة مختزنة بماهو غير دقيق أو مخالف للحقيقة (كما في طرحه لمفهوم التفسخ الأخلاقي السائد بفعل تأثير الإعلام أو الثقافة الشعبية القائلة بأن المجتمعات الغربية كلها منحلة أخلاقيا أو منفتحة حد الانحلال والتفسخ):” يقال إن ثم تفسخا، في أندية بريطانيا العامة ، وبريطانيا يقال عنها إنها محافظة ، والتفسخ في الأخلاق يقال إنه قل الآن …….. وحين نسأل عن التفسخ في الندية يقال: إنها مرحلة من مراحل التجارب، لعل نفوس الرجال تقتنع بما ترى”([31])، والسارد يعول كثيرا على التجربة الإنسانية في الوصول إلى الأهداف، حيث يضعنا أمام تجربة تجاوز النظام والاعتماد على الظن، مما يوقعه في حالة من التيه التي لا يخرجه منها إلا التفكير المنطقي للعودة إلى نظام ولو كان تقليديا (الاعتماد على الآخر من خلال استخدام التاكسي عائدا لفندقه) .
في سرد المكان يصبح الأشخاص مجرد صور متحركة لا نرى منهم إلا ما يقع عليه بصر السارد ، هم مجرد شخصيات كومبارسية ، سينمائية لا ترى منها إلا مايقع داخل الكادر ، يتحركون وفق نظام ماهم إلا تطبيق له والسارد يعتمد تجربته الخاصة تطبيقا على اتباع النظام او الخروج عليه ، فحيث كل شيء يسير منظما ما عليك إلا اتباعه والعمل به ، لذا يصبح خروجه – بوصفه حالة – عن النظام ، مدعاة للضحك ، يقول تحت عنوان ” حادثة تضحك”:” أخذت أسير في اتجاه ما ، ظنا مني إنني على صواب غير أن المسافة التي قطعتها كانت أكثر مما أتوقع ثم أخذت أقرأ أسماء الشوارع ، ولكني لم أعثر على اسم الشارع العام الذي يتفرع منه ، الشارع الذي به الفندق ، ولا شارع الفندق” ([32])
- سردية الآخر: ويتحقق في مجموعة المقالات ذات الطابع السردي التي يسجل فيها الكاتب تجربته مع الآخرين من المثقفين والأدباء في المملكة وخارجها، ويقوم على تجربة خاصة يكون الآخر فيها مقصودا لذاته أي يكون موضوعا للسرد بحيث يقدم المقال جانبا من حياة الشخصية ولا يكون تقديم الشخصية مقصودا لغيره أي يأتي من خلال موضوع آخر كأن يقدم الكاتب إشارات عن شخصية معينة حين يقدم نتاجها أو يتحدث عن تجربتها الأدبية مثلا.
- سردية الحجاج: وهي سردية وظفها الكاتب برهنة وتدليلا على ما يذهب إليه من تأكيد لحجته في الرد على الآخرين، والكاتب يعتمد طريقة الحجاج في مقالات متناثرة في مؤلفاته غير أنه يفرد كتابه ” الذين ضل سعيهم ” ([33]) ، يبدأ السرد من منطقة العتبة النصية القائمة على عمادين أساسيين: التناص مع النص القرآني في قوله تعالى:” الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا “([34])، والحذف في طبيعته السردية الدالة على مايبثه السارد في نفس متلقيه معتمدا تحريك متلقيه لتعويض الحذف اعتمادا على ذاكرة المسلم وثقافته ، والكاتب يقر حجته بأدلة تقوم على نظام من السرد ، مرة حين يستشهد بما ساقه العلماء من أدلة واضعا متلقيه في منطقة السرد عن العلماء بوصفهم شخصيات متحققة الوجود الإنساني ، ومرة حين يسوق مشاهد من التاريخ الإسلامي على ما يذهب إليه ، حيث يسوق الكاتب بعض المشاهد السردية التي ينتقل فيها إلى البث من موقع الحدث:” ، هذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يحل به الأذى حين أعلن إيمانه مناديا بدينه فوثب عليه المشركون وأوسعوه ضربا …….وهذا بلال بن رباح.. يعذب في الهاجرة الرمضاء وهو عار عذابا أليما، ولكنه يصبر ويحتسب أجره على الله تلهب جسده السياط وتكتم أنفاسه الصخور على صدره …… وهذا ياسر وسمية وعمار يعذبون ويمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفق لحالهم…….وهذا خباب يشكو تعذيب قريش للمسلمين إلى رسول الله عليه السلام… ” ([35])
- سردية الناقد: وهي نظام من السرد يعتمده الناقد في سياق طرحه فعلا نقديا يمارس من خلاله تقديم رؤيته النقدية من موظفا عناصر السرد، موزعا على موضوعات مختلفة من القضايا الأدبية ، في مقالته ” من حديث الشعر ” من كتابه ” الحياة بين الكلمات“:” زار الدكتور طه حسين..في أواخر شهر جمادى الآخرة ، من عام 1374 هـ الموافق شهر يناير 1955 المملكة العربية السعودية ، وكان يومها رئيس اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية ، وجاء معه وفد ثقافي مصري برئاسة الأديب الكبير أمين الخولي ” ([36])، عبر عدة محددات تتحقق السردية في مستهل المقالة ، ومنها :
- الحدث: ويعتمد ظهور الحدث على نطاقين أساسيين:
- العلامة السردية: وهي علامة لغوية تتوزع في المقالات وخاصة في استهلالاتها وتعمل طوال الوقت على دعم حركة السرد والإيحاء به، وتنحصر في مجموعة الأفعال التي يدرجها الكاتب بإحكام في سياق النصوص موحية بأحداث تتوالى منتجة ما يشبه السردية الصغرى، في مقالته “الجزائر وعمان”:” منذ ثلاثة أعوام، شرع شعب الجزائر المكافح الحر الأبي نضاله وقتاله من أجل حريته …….ومنذ ثلاث سنين أخذت دماؤه الطاهرة الزكية تجري في شوارع المدينة وفي القرى….. وقدمت الدول العربية نزرا من أموالها …” ([37])، ما بين الأفعال الثلاثة: شرع – أخذت- قدمت، يتحرك العالم عبر سردية محكمة من التفاصيل منتجة مجموعة من النقاط محددة المواقع ليس لثانيها أن يتقدم على أولها ولا أن ينازع ثالثها ثانيها أو أولها في موقعه او ما يقدم من دلالة نصية، وهي الحبكة السردية التي يوظفها كاتب المقالة محكما صياغة مايكتب يضاف إلى ذلك الفعل الاستهلالي الذي يعمل على إدخال المتلقي تدريجيا إلى الحدث المطروح ، في مقالته ” في عكاظ” متحدثا عن إصدار العدد الأسبوعي ، وظروفه الخاصة قبل قبول مسؤولية العدد الأسبوعي، يأتي المقال مقسما إلى عدد من الفقرات التي يستهلها الكاتب بفعل ماض : “وصلت خطواتي …قبلت إذن المسؤولية …صدر العدد الأسبوعي …حشدت له الأقلام الأدبية والاقتصادية …اشتهر العدد الأسبوعي …ورأينا في صحف المؤسسات ….لقد مارست العمل الإداري ….أذكر إنني كتبت مقالا في الصفحة الأخيرة … ماتت عكاظ أيام الداري….إلخ ، ([38])،
لا يتحقق الإحكام في نظم الفكرة على مستوى اللغة، وإنما يتحقق في الوفاء بحق الموضوع، أن تكتب في موضوع ما فهذا يعني أن تحقق قدرا من التوقع، توقع المتلقي أن يصل إلى درجة من المعرفة تجعله قادرا على الإحاطة بفكرة الكاتب، والتوصل لإجابات عن أسئلة تفرض نفسها: عم يكتب الكاتب، ولماذا يكتب، وكيف يكتب؟، فالكتابة عن شخصية سابقة (المتنبي مثلا) كما كتب عبد الفتاح أبو مدين، تفترض وجود زاوية جديدة ، وهو ما حققه الكاتب في مقاربته لكثير ممن كتب عنهم ، إذ لم يكن يكتب عنهم بقدر ما كان يكتب بهم مقدما صورة جديرة بالدخول في نطاق السرد حين لا يكتفي بتقديم الشخصية منعزلة عن سياقها التاريخي ، وإنما يقدمها في محيطها الحيوي الدال.
لقد كان السرد لدى الكاتب نظاما تحقق في كتابته، لم يكن مقصودا لذاته بقدر ماكان مقصودا لغيره لتحقيق بلاغة النص ، تلك البلاغة القائمة على اختيارات الكاتب لموضوعاته وطرائق تقديمها تحقيقا لمنجزه ، وهو ما يفسح المجال لقراءة نتاج الكاتب قراءة سردية تكشف عن جوانب دالة في نتاجه ، تؤكد بدورها على ثراء تجربته .
هوامش وإشارات:
[1] – في قوله تعالى: أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ۖ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ” سورة سبأ، الآية 11، استخدم القرآن الكريم المفردة بمعنى الإحكام، إحكام العمل، وورد في تفسير الطبري: لا تصغر المسمار وتعظم الحلقة فتسلس، ولا تعظم المسمار وتصغر الحلقة فيفصم المسمار، والمعنى الإحكام في العمل واختيار الفعل المناسب للإنجاز بوضع الأشياء في مواطنها وهو ما ينطبق على فعل الكتابة باختيار الألفاظ المناسبة في مواضعها، وهو مما لا تتحقق البلاغة بدونه.
[2] – عبد الفتاح أبو مدين: حكاية الفتى مفتاح – جدة 1996، ص 19-20.
[3] – حكاية الفتى مفتاح ص 26- 27.
[4] – عبد الفتاح أبو مدين: واصدحي ياخواطري – جدة 2016، ص ص 97-101.
[5] – عبد الفتاح أبو مدين: أمواج وأثباج ص 175.
[6] – عبد الفتاح أبو مدين: ألف صفحة وصفحة من الأدب والنقد– جدة 2009، ص 613، ومقالته عن ديوان الشاعرة نشرت في الرابع من يونيو عام 2008، عن ديوان الشاعرة المعنون: لنتخيل المشهد الصادر عام 2004، والشاعرة تنتمي تجربتها لجيل التسعينيات (لها أربع عشرة مجموعة شعرية صدر أولها عام 1994).
[7] – عبد الفتاح أبو مدين: حديث الأمس – جدة 2015، ص 5.
[8] – آل عمران، الآية 140.
[9] – وتلك الأيام، من ص 148-181.
[10] – عبد الفتاح أبو مدين: أمواج وأثباج – النادي الأدبي الثقافي – جدة، ط 2، 1985.
[11] – عبد الفتاح أبو مدين: الحياة بين الكلمات – النادي الأدبي الثقافي – جدة 2002.
[12] – عبد الفتاح أبو مدين: وتلك الأيام – جدة – ط 2، 2009.
[13] – عبد الفتاح أبو مدين: أيامي في النادي – جدة 2010.
[14] – عبد الفتاح أبو مدين: حديث الأمس – جدة 2015.
[15] – عبد الفتاح أبو مدين: ألف صفحة وصفحة من الأدب والنقد – جدة2009.
[16] – حكاية الفتى مفتاح، ص 19.
[17] – حكاية الفتى مفتاح ص 107.
[18] – حكاية الفتى مفتاح، ص 103.
[19] – في الكتاب نفسه يقدم الكاتب نصوصا تتضمن عناوينها أسماء شخصيات مع لاحقة تخرج العنوان عن سياقه السردي ، فإن عناوين من مثل: “مع الأستاذ العقاد” و” الحكيم وكواليس الأدباء”، و”لقاء مع أبي ريشة في أمسية” فضلا عن كونها تشير إلى أشخاص معاصرين مما يعني سهولة التعرف عليهم فإن العنوان يتصل به ما يخرجه عن سياق الغموض الأقرب لروح السرد ويكشف منذ البداية عما يوجه المتلقي إلى منطقة محددة مقصودة كأن تكون صحبة العقاد في العنوان الأول أو علاقة الحكيم بكواليس الأدباء في الثاني أو اللقاء مع أبي ريشة في زمن محدد ، ذلك كله خلافا للعناوين التي تنبني على اسم شخصية بعيدة زمنيا خارج نطاق المعاصرة .
[20] – واصدحي يا خواطري، ص 102.
[21] – واصدحي يا خواطري، ص 104.
[22] – واصدحي ياخواطري ص 105، وعمرو بن الجموح بن زيد الأنصاري السلمي صحابي من سادات بني سلمة، آخر الأنصار إسلاما، استشهد يوم أحد، فرضي الله عنه وارضاه يضرب به المثل في قوة الإرادة، انظر: السيرة النبوية لابن هشام – تحقيق وضبط وشرح وفهرسة: مصطفى السقا وآخرون –دار إحياء التراث العربي – بيروت ص 452.
[23] – يمثل استخدام الصفة ” ابن” بين أسماء الأعلام من العادات الخاصة بأبناء الجزيرة العربية امتدادا من القديم، وهو ما يجعل المتابع من خارج الجزيرة العربية غير مدرك لقدم الشخصية أو حداثتها، وهو ما يدخل في نطاق غموض الشخصية واستغلاقها المؤقت على المتلقي غير المدرك لبطاقة تعريفها خاصة قبل القراءة وقبل ربط الأحداث بزمنها من خلال مؤشراتها الزمنية التي تطرحها الحكاية.
[24] – واصدحي ياخواطري، ص 105.
[25] – واصدحي ياخواطري، ص 105.
[26] – واصدحي ياخواطري، ص 105.
[27] – واصدحي ياخواطري، ص 107.
[28] – واصدحي ياخواطري، ص 107.
[29] – واصدحي ياخواطري ص 239.
[30] – واصدحي ياخواطري ص 239.
[31] – واصدحي ياخواطري ص 244-245.
[32] – واصدحي ياخواطري ص 243.
[33] – عبد الفتاح أبو مدين: الذين ضل سعيهم – جدة 2005.
[34] – سورة الكهف الآية 104.
[35] – الذين ضل سعيهم – ص 16.
[36] – عبد الفتاح أبو مدين: الحياة بين الكلمات – النادي الأدبي الثقافي – جدة 2002، ص 243.
[37] – أمواج وأثباج، ص 207.
[38] – وتلك الأيام ص 215.