القاهرة – “الخليج”:
شاب نحيف أسمر، يتكرر كثيراً في كتابات القاص والروائي المصري “الطاهر شرقاوي”، ويبحث دائماً عن تفاصيل الأشياء التي يجمعها بمهارة بجوار بعضها بعضاً لتشكل له في النهاية صورة تحمل معاني كثيرة، ربما لم نكن لنفهمها لو نظرنا إلى كل تفصيلة على حدة، هذه الشخصية تشبه الطاهر كثيراً . أصدر “الطاهر شرقاوي” عدة مجموعات قصصية هي: “البنت التي تمشط شعرها”، “حضن المسك”، “صوت الكمان”، “عجائز قاعدون على الدكك”، ورواية “فانيليا” هنا حوار مع “شرقاوي” .
أبطال رواية فانيليا من دون أسماء . . لماذا؟
لأنني رأيت أن الاسم سيحملني ثقلاً فنياً، والتزامي باسم معين للبطل والبطلة سيجعل خطواتي أثناء الكتابة والسرد بطيئة، وكأنه قيد يكبلني، كما أنني شعرت بأن غياب الاسم سيعطيني حرية أكثر، وربما هي محاولة مني للاقتراب من الشاعرية من ناحية اللغة والسرد .
وما رأيك فيمن يقول إن الرواية ليس لها موضوع أساسي أو عام، وإنما هي مجرد اهتمام بالتفاصيل الصغيرة؟
عندما نحاول أن نضع تعريفاً للرواية أو القصة القصيرة أو الشعر يتم كسر هذا التعريف بعد فترة زمنية ما، وذلك لأن الأدب من الصعب تصنيفه، ونفاجأ كل يوم بأشكال فنية جديدة، وأشكال ممتزجة بأكثر من نوع فني آخر تظهر وبها أدب وليس بها محور درامي تتصاعد من خلاله الأحداث، ولا يشترط في الرواية الآن أن تظهر بشكلها الكلاسيكي من عقدة وحل، فرؤيتي للعالم يمكن أن تكون رواية .
ولماذا تهتم بكشف وتعرية شخوص الرواية؟
أحيانا أضبط نفسي أثناء إجرائي حواراً معها، وأجدني مشغولاً دائماً بكيفية تفكير الأشخاص الآخرين في المواقف المختلفة وتصرفاتهم، وكل الحوارات الداخلية تمثل لي عالماً مشوقاً جداً .
أبطال الرواية من وجهة نظر مجتمعهم “مجانين” أو ينظر إليهم بشفقة . . هل هي ثورة منك على المجتمع؟
المجتمع له نظرات مسبقة للإنسان، وهي مشكلتي معه، لأننا يجب أن نقترب من الإنسان أكثر ومحاولة معرفته جيداً، فعلى سبيل المثال الرجل الذي يطلق لحيته يتم الحكم عليه مسبقاً بأنه متعصب، ولا نحاول الدخول معه في حوار، أو رؤية البعض للكاتب بأنه غريب الأطوار ونصف مجنون .
ولماذا تبدو لغة الكتابة لديك ذاتية وتتسم بالشعرية؟
أعتبر أن اللغة عنصر أساسي في العمل الأدبي سواء كانت قصة، شعراً، أو رواية، وحاولت أن أجعل بيني وبين اللغة علاقة حب، وأتمنى أن أبتكر جملة لغوية مغوية وجاذبة للقارئ .
وهل أفرز ذلك التنوع بين الفصحى والعامية لديك؟
بعض مفرداتي ليست عامية بل فصحى، ولكن كثرة استخدامها لدى العامة أعطى إيحاء بأنها عامية، ولذلك عملت على إعادة صياغة هذه المفردات مرة أخرى وإنتاجها بشكل مختلف، لأن هناك كلمات من كثرة استخدامها وتكرارها فقدت معناها .
هل نفهم من هذا أنك تبحث عن شكل جديد للكتابة؟
في اللغة والجملة واستخدام المفردة، والمعروف أن الشاعر هو من يهتم أكثر باللغة، ولكني أرى أنها مهمة للاثنين الروائي والشاعر .
ما رأيك فيما قاله بعض النقاد من أن رواية فانيليا قريبة من عالم يحيى الطاهر عبدالله؟
ميزة يحيى والتي أحبها هي اهتمامه باللغة التي يمكن أن تحكي شفاهة، فلديه جملة موسيقية حلوة، وربما لأننا من البلدة نفسها، وأبناء بيئة وثقافة واحدة، و”فانيليا” هي أقرب للغة الشعر من لغة يحيى الطاهر . وعندما كتبت فانيليا لم أفكر في زيادة عدد الشخصيات بها، وشعرت بأن شخصية البنت التي تدور حولها الأحداث كافية لتوصيل ما أريد أن أعبر عنه، ولذلك فالعمل ليس ضخماً لأنني وصلت عند نقطة معينة ورأيت أنها لاتحتاج لأية إضافات أو زيادات .
ولماذا آثرت الابتعاد عن الواقع في الرواية؟
من وجهة نظري أنني لو كتبت عن الفقر أو غيره ستكون في هذه الحالة كتابة موجهة لنعود مرة أخرى إلى التوجه الذي كان موجوداً منذ 40 عاماً، وهو الكتابة عن القضايا الكبرى، كما أنني لا أؤيد المباشرة في التحدث عن أي من القضايا التي توجد في مجتمعنا، وكتابتي عن الإنسان نفسه هي كتابة عن الواقع، فأزمة البنت النفسية أو أزمة الإنسان الداخلية هي جزء من الواقع .
الموت هاجس لديك في معظم أعمالك ؟
يعود هذا للبيئة التي أتيت منها، والتي تعتبر أن الموت طقس مهم جداً، والاحتفاء بالموتى أهم من الاحتفال بالأعراس والأفراح، وأيضاً ربما يعود هذا إلى ظروف تاريخية معينة عندما كانت الأوبئة منتشرة، والسلطة الحاكمة تأخذ الأبناء عنوة للجيش أو لحفر قناة السويس ولا يعود الابن مرة أخرى، فالعودة هي ناتج الموت وليس الفرح، هذا إضافة إلى أن الموت فكرة عصية على الفهم بالنسبة لي وأفكر فيها بشكل دائم، وهو الشيء الوحيد الذي لا يستطيع شخص أن ينكره، كما أنه الحقيقة الوحيدة المتفق عليها في هذا العالم .
في مجموعة “عجائز قاعدون على الدكك” نشعر وكأننا أمام رواية مقسمة إلى فصول؟
لا أضع تخطيطاً مسبقاً لكتاباتي، ولكن ما حدث أني أردت جعل كل شخصيات القصص عجائز، لأنهم جزء مهم في ثقافتي وحياتي أيضاً، فالرجل الكبير في السن في الصعيد له قيمته التي يحترمها الجميع وعندما يتحدث يستمع إليه الجميع، وهو الذي استمعت للحكايات منه فهو جدي الذي ارتبطت به أكثر من والدي، هذا إلى جانب أنهم وصلوا لشيء جميل جداً طالما أردت الوصول له في فترة شبابي ومازلت أبحث عنه، وهو التصالح والتسامح مع الموت والاستعداد لمجيئه في أي وقت، فمنذ أيام دراستي الابتدائية، عندما أنتقل لفصل دراسي جديد كنت ألاحظ اختفاء بعض زملائي، وعندما أسأل عنهم يقولون لي إنهم غرقوا في نهر النيل، فتعرفت إلى الموت في وقت مبكر من حياتي، أما من ناحية التقسيم البنائي فلم أشعر بأنها رواية وإنما مجموعة قصصية .
ولماذا أنت مغرم بالوصف وتفاصيل الأشياء في كتاباتك؟
في الحكايات الشفاهية كعنترة والسيرة الهلالية، وحكايات الأجداد التركيز لا يكون على الحدوتة وحسب، ولكن على تفاصيل أخرى كوصف ملابس البطل أو معركة ما، ومغرم بالوصف ربما لأنه لدي حس سيناريست، وأرى أنه جزء من الحكاية أو الحدوتة لأن التفاصيل الصغيرة عندما نجمعها مع بعضها البعض تعطينا صورة مختلفة .
كتبت القصة ثم تحولت لكتابة الرواية، ما السر في هذا؟
لأن الرواية أكثر براحاً من القصة القصيرة وتعطيني مساحة حرية أكبر، فالقصة القصيرة تقترب من الشعر حيث لها ضوابط معينة، أما الرواية ففيها مساحة لإبراز مهاراتي ككاتب وخلق عالم وتحريكه في الوقت نفسه .
ولماذا نشهد تراجعاً للقصة الآن في مقابل الرواية؟
القصة القصيرة شهدت تراجعاً في مرحلة سابقة، ولكنها الآن بدأت تستعيد عافيتها مرة أخرى، خاصة عندما بدأنا نجرب أساليب جديدة في كتابة القصة القصيرة ليس على مستوى التكنيك والشكل فقط، وإنما أيضاً على مستوى اللغة والموضوع .
شخصية الولد النحيف الأسمر تتكرر في أعمالك كثيراً، فهل يمكن أن نعتبره انعكاساً لذاتية الأديب في كتاباته؟
شئنا أم أبينا كل كاتب لابد أن يتسرب شيء من ذاته وتفاصيل حياته إلى كتاباته، حتى وإن لم يعترف بهذا، وربما يكون هذا الولد الأسمر النحيف أنا بالفعل.