“الصباح رباح”.. نوستالجيا تسقط في فخاخ الوحدة

ibraheem mohammed
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد الكفراوي

اختار الشاعر إبراهيم محمد إبراهيم صيغة شائعة أو ما يعرف بـ”الإكلشيه الشعبي” وإن كانت حمولته الدلالية تتجاوز ذلك لمعانٍ حكمية وأمثولية في ديوانه “الصباح رباح”، مرتكزا في معظم القصائد على تيمتين رئيسيتين هما النوستالجيا واستدعاء الأحدث والذكريات والأفكار القديمة وحتى التاريخية، وفي الوقت نفسه تكرس الصور المركبة لحالة من الوحدة المسيطرة على الجو النفسي للقصائد.

الديوان الصادر عن سلسلة الإبداع الشعري بالهيئة المصرية العامة للكتاب، يواصل فيه الشاعر إبراهيم محمد إبراهيم ، تقديم تجربة متفردة في التخييل والتصوير البلاغي والتقاط البسيط والهامشي والعادي ليخلق منه حالة فريدة وصورة فنية لها طابعها الخاص.

تتجلى خيوط النوستالجيا في قصائد تقدم مشاهد تصويرية لها امتدادات في الماضي، ربما من خلال استذكار المدرسة الابتدائية أو الأصدقاء القدامي الذين يستدعيهم الشاعر أو حتى المُدرسات اللاتي يمثلن ركنا أيروتيكيا خفيا في ذاكرة المرهقين، ويمتد تأثير هذا الركن وتظهر قيمته بشكل كبير مع التقدم في العمر. إنها الذكريات الباقية في عمق الروح والتي تغذي  الرغبات.

ويبرع الكاتب في التقاط هذا الخيط والتعامل معه بيسر وسهولة وتوظيفه فنية بطريقة شيقة دون الشعور حتى بأننا في زمن مضى.

يحضر الموت أيضا كجزء حميم وغرائبي وقطعة من الحياة في قصائد الديوان، من بينها قصيدة “وفاء” التي يقول فيها : “الأحباء الذين رحلوا/ لن أمحو أرقامهم من هاتفي، عسى أن ينسوا أنهم ماتوا حين أرن عليهم”.

مشاعر الوحدة تظهر في صور خلابة، ربما تحمل مفارقات بسيطة لا تخلو من الدهشة، فمثلا في قصيدة “Application “، ويبدو هنا استخدام المصطلح الإنجليزي أو لفظة “الموقع” في العنوان باللاتينية وكأن هناك حالة اغتراب يحاول تصديرها منذ البداية، ويقول في نهاية القصيدة “أنا كائن قديم / كأنه بيت وضع في خطة إزالة….. أنمو في الليل كجبل/ وأتضاءل في النهار”.

يحشد الشاعر أدواته التصويرية والتخييلية في العديد من القصائد، ومن بينها قصيدة “مرايا بني العباد” التي تحمل حسا تاريخيا عن حروب ملوك الطوائف وألفونسو السادس في الأندلس، والثورة أو التمرد الذي قام به المعتمد بن عباد، وتأتي القصيدة كلها رصد للحالة الشعورية التي تحمل حسا غرائبيا مدهشا لألفونسو بطل القصيدة  فهو “يأكل كل أشجار قشتالة التي كانت تضربه وهو طفل/ وأن يبتلع سحابتين حتى يخرج البرق من عينيه…. وقد صار شعر ألفونسو فخاً/ يصطاد العصافير حين حطت تأكل من رأسه”.

وتحت عنوان “نوستالجي” يقول الشاعر: “لم أبلغ السادسة بعد، حينما كنت على هيئة ساق كرسي”، وهو تشبيه لافت وتكررت الصور المشابهة له في أكثر من قصيدة لخلق حالة فنية تستهدف تشييئ الروح، وتتداعى الصور التي تستدعي الماضي بطريقة فنية وبشحنات تصويرية وتخييلية متفاوتة الأبعاد.

وتتجلى الوحدة والملل منذ بداية الديوان في قصيدة “وحيد” التي تقع في الصدارة وتعبر عن الكثير من أفكار مجمل الديوان ومنها: “وحيد كرغيف بائس/ كعود ثقاب مبتل/ ….. كإبراهيم”. وهنا يستخدم الشاعر اسمه كنموذج للوحدة في حالة استغراق كاملة مع الشعور. وتتجلى الوحدة والملل في تحويل مشهد قتل فأر إلى قصيدة مليئة بالشحنات التصويرية والتخييلية، وربما لهذا السبب اختاره الكتب لغلاف ديوانه وتقول القصيدة التي تحمل عنوان “ملل” : “قتلت فأرا/ كان قد قضم قطعة من روحي/ روحي المهمل فوق دولاب قديم/ قتلته بعصاة مكنسة مكسورة/ كنت على وشك أن آكلها دفعا للملل”.

ولا يخلو الديوان من الأبعاد الأيروتيكية والمشاهد اللافتة والصور الموغلة في عمق المشاعر العاطفية والرغبة الجنسية، كما يبدو في قصائد مثل “زيوس” التي تستدعي الأسطير اليونانية بكل ما تحملة من مساحات للخيال، وقصيدة “ملحوظة التي يقول فيها “انتهينا/ إذن أعيدي لي أشيائي / دمية في عيد الحب/ وخاتم فضي/ وثلاث قبلات ساخنة في عتمة السلم!”

ويلتقط الديوان عبر قصائده الـ44 العديد من المشاهد اليومية البسيطة والعادات والتفاصيل والأحداث المهملة ليصنع منها صورة فنية ترتكز على قوة التشبيه والتخييل وعلى المفارقات اللغوية  ولتشبيهات المباشرة في أحيان كثيرة، ليقدم الشاعر إبراهيم محمد إبراهيم في هذا العمل خلاصة تجربة فنية تشتبك فيها المفردات الشعبية مع الذكريات والمساحات النوستالجية مع التاريخ والأساطير، ليصنع حالة فنية مميزة، ربما كان عنوانها “الصباح رباح” دالاً على محتواها بشكل كبير فهو يشير بصورة رمزية إلى لصبر والانتظار حتى الحصول على المراد.

ويخطو الشاعر بهذا الديوان خطوات جديدة في قصيدة النثر التي قدم فيها دواوين سابقة اتسمت بالتفرد والتميز في الصور التي يستخدمها وتوظيف المفارقات بطريقة سلسلة وجذابة والربط بين اليومي والهامشي والمهمل من ناحية، وبين الالمشاعر والأفكار الراسخة والرؤى المنفتحة على احتمالات عدة.

مقالات من نفس القسم