الشبح

الشبح
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد سمير سعد

لست مجنونا، فالمجنون لا يدرك جنونه، لا يفرق بين الواقع وهلاوسه، لست فصاميا، أراه وأسمعه ويناقشني ويدغدغني وأضغط على يده، لكنني أعلم تمام العلم أنه انعكاس لي، لا ينتمي لمادة أجسادكم أو مادة هذا العالم، هو قادم من وراء ذلك العالم، هو مني وأنا منه، هو أسمى وأهون، أعلم وأجهل، محيط بي ويجلس القرفصاء في قلبي.....

 

لا أعرف متى رأيته للمرة الأولى وسمعت صوته، لكنني أظنه كان موجودا منذ زمن طويل، يتطلع إليّ ويراقبني وربما يهمس في أذني كوحيٍ أو يتسلل إلى فراشي ويغشى أحلامي، ربما ولد معي أو لعله حضر لحظة ميلادي وهو شاب مفعم بالقوة والبأس….

بالأمس سار معي وقد وضعت يديّ في جيبيّ بنطالي بينما تعلق هو بساعده في ذراعي، أقنعني بالتجول في شوارع وسط البلد، كان متهتكا جدا وهو يتطلع إلى صدر أنثى ممتلئ وهو يطلق صفيرا في أذني، صفير إعجاب بأنثى تسير خفيفة كفراشة، تعمَّد أن يجذبني في قوة نحوها، حاولت مقاومته لكنني كدت أنكفئ على وجهي فخضعت له، اصطدم بها، عامدا ولمس كل مفاتنها، ومررت أنا إلى جوارها، فقط تعبق أنفي بعطرها، هو ليس من هذا العالم، الفتاة لم تشعر به، لكنني أقسم أنها ارتجفت عند مروره بها، نظرت إليّ شذرًا…..

 

جرى من جواري مسرعا، تبعته بنظرات متسائلة وبلسان يناديه بصوتٍ عال، وبحركة متشنجة من ذراعي يحاول أن يمسك به ويقيد اندفاعه المجنون، جرى نحو ضابط شرطة، عميد، كتفه مثقل بنسر وثلاثة دبابير، و يتحرك بين ضابطين اصغر رتبة ومجموعة من العساكر، لتأمين ما لا أحاول استيضاحه. وقف أمامه فجأة ثم انحنى، نظر في عينيه، نظر محدقا ومستجمعا كل تركيزه، نظر في حدقتي عينيه وفي داخله، في أعمق أعماقه، جمد للحظات على هذا الوضع وكأن العالم توقف، الضابط لا يهتز له جفن، والمارة وكأنهم لا يتحركون، وصمت مطلق بلا أصوات تنفس.

الضابط لن يراه، فقط رفع ذراعيه و بقبضتيه حك عينيه، ربما تشوشت الصورة أمامهما وأراد أن يستجليها، تداخلت الألوان والعناصر، صاحبي وبلا مقدمات أطلق صيحة بهلوان، أخرج لسانه وحركه في حركة دائرية ساخرة، ضغط أنفه إلى أنف الضابط، وضع إبهاميه خلف صوانيّ أذنيه وفرد باقي أصابع كفيه، حركهما كجناحين يضربان الهواء في حركة استهزاء طفولية، استدار وواجه العميد بمؤخرته، ورقص بين يديه رقصة داعرة. أكتم الضحكة المتفلتة، أحاول التشاغل بالنظر إلى الأرض وبطرف عينيّ أراقبهما وأنتشي وأكاد أضرب كفا بكف…

 

أذكر تماما الليلة التي تجلى لي فيها، ظهر ملتحفا الظلام، ملامحه غير واضحة، فارع الطول، عيناه تبرقان كعينيّ قط من التماع الضياء البعيدة عليهما، كنت في مرسمي، أجلس على كرسي وثير، غير ذلك المستدير بلا ظهر الذي أرسم من عليه، مددت رجليّ واسترخيت تماما، أمامي وفي أقصى الغرفة رصصت عدة لوحات متجاورة وبعيدة عن مصدر الضوء، جلست أتأمل الخطوط البعيدة والألوان المعتمة من الظلام والظلال الكثيرة.

ولد من تأملاتي ربما، أم لعله أزلي وأنا الحادث.

فارع الطول، بحدبة بسيطة، ملامحه كالمشوهة لكنها غير مؤذية، عيناه عميقتان وفؤاده بارد وبلا ظل أو انعكاس. لم أخشَ ظهوره، لم أُفاجأ أو أرتعد أو تبرد أطرافي، وقع في نفسي أني أعرفه وأنه مخلوق من ضلعي أم لعلي أنا المخلوق من صلبه.

تحرك نحوي في تؤدة وابتسم، ابتسامته كريهة، كبئر بلا قعر، كفحيح آلاف الثعابين، لكنني لم أجفل، بدت ضحكته مستهزئة وحانية وقاسية كصخر، حادة كسكين، تمزق أحشائي وتصرعني بالآلام وفي ذات الوقت تمرر بلسم شجرة مباركة على جروحي.

أدركت ومع رؤيتي له ودون أن يفتح فمه بكلمة أنه كان هنا منذ وقت طويل، أفكاري عارية أمامه ومنتهكة، زفر في قوة لأدرك وجوده، قبل أن يخطو مقتربا مني، يربت على ظهري فتستريح أوصالي ويمسح على رأسي فيزول الصداع، أستمتع للحظات ببال خال ونسمة باردة داعبتني رغم أن كل منافذ المرسم مغلقة.

 

اللوحات التي رتبتها لتتجاور  مستندة للحائط المواجه لفنانين شباب وفنانات وعليّ أن أُقيّمها وأن أمنح إحداها مركز المسابقة الأول وشرف الجائزة وأتجاهل وأُسفه من جهد الباقين، أتجاهل الكثير من الخطوط والألوان وأنتقص منها، أعلل ذلك لهم ولنفسي بأن خطوط باقي اللوحات مرتعشة أو الألوان باهتة وضعيفة أو تراكبها غير مريح للعين أو أنها ربما تكون عظيمة لكن الويل كل الويل لذائقتي التي عليّ أن أنتصر لها ولقواعد المسابقة التي ارتضوا الخضوع لها.

عيناي المعلقتان باللوحات وأنا جالس لم تكن تراها، عقلي يخلق عوالما فيما ورائها وعيناي تسبحان هناك شاردتين، رأيت رسومي التي رسمت والتي لم أرسم، مشاريعي التامة والمؤجلة، الألوان والزيوت والخامات والأحداث الملهمة ومشاريع متناقضة وشجن وبكاء وأفراح ودموع ودهشة وضيق ورغبة في الانتحار وتشبث بالحياة وأمل في الهروب ويأس من العالم، كل شيء كان فوضويا ومتداخلا ومفرغ من المعنى والغاية، فقط كنت أرتجف، في صدري دوامات من تيارات لا تهدأ، أرتفع وأهوي ولا أستريح، متحفز بكل حواسي، ولا أقبض على أي شيء.

 

لم ابلغ بعد تلك المرحلة، إنهم يتآمرون عليّ، الحياة كمنحنى جرسي، يصعد باطراد ثم لا يلبث أن يلتوي ويهبط بنفس الاطراد، في مطلع المنحنى لحظة الميلاد وفي نهاية قوسه الهابط ينتظر عزرائيل، المنحنى لا يعرف منطق الأيام التي تحسبون…

لم أصل بعد لقمة المنحنى حتى يحاولون دفعي نحو الأسفل، أنا لا أموت بعد، مازلت أنمو وأقتات بالحياة، ليس هذا ميعاد بداية الذبول، لن أستسلم لخدعتكم الغبية الجلية، لن أرضخ لنواياكم السيئة ومكركم المشين، سأجاريكم فيما تذهبون إليه، سأمارس نفس الدهاء وسأبقى رغما عنكم، في صدري عشرات البذور التي لم تثمر بعد، آلاف الزهرات التي لم تتفتح، أفضل لوحاتي لم أرسمها، خيالي لم يزل على ثرائه ويدي لم ترتعش وعقلي لم يصنع فيه طول العمر كهوفا وأنفاق، لم يعطب بعد ويهذي.

 

يد مندوبهم الذي أرسلوه باردة ولزجة ومبتلة، كريهة وشريرة، أسنانه مكسرة وصفراء وملامحه حادة وعيناه غائرتان، نحيل وضبابي كشيطان، سلمني اللوحات، فمه لم ينغلق للحظة على ابتسامته النتنة.

اختاروني لأترأس لجنة تحكيم جائزتهم، ممثل أمناء الجائزة هاتفني وطلب ميعادا ليلقاني، كان بكرشه الضخم كعفريت قصص الأطفال، جوفه المظلم، العميق الذي يظهر من خلف أسنانه الحادة بينما يتكلم يستعد لاقتناصي، جدرانه في انقباض وانبساط وهياج، لسانه خازن أبواب الجحيم، سيكفنني ويأخذ أجرة الطريق قبل أن يلقي بي في السعير، معدته قوية وشهيته مفتوحة وآثار الدم على أنيابه وبدلته، سأفلت من بين أصابعه بالحيلة، سأدس له حجرا صلبا، أُقدّمه له في ملابسي، ليلتهمه بدلا مني.

بكل دهاء الكون وبصوت رخيم هادئ وبثقة لا تتزعزع، افتتح الحوار معي، يتشرف وتتشرف الجائزة والمتسابقون والأمناء ولجنة التحكيم بان أكون كبير المحكمين، اختاروني لاسمي الذي لا يُضاهى وللوحاتي العبقرية، رسائل الأرض إلى السماء ونفحات السماء إلى العباد، يثقون في ذائقتي وفي أحكامي، إن كان لجائزتهم ثقل، فتواجدي معهم سيزيد منه وسيحلق بها ويسمو، يحتاجونني بحسب قوله لأدعم الفنانين الجدد، أدلهم على الطريق لربات الفنون، ليتقربوا فتمنحهم ويعلون……

 

صففت اللوحات وجلست قبالتها حائرا، اكتشفت أني لا املك خطة، أني رضخت ولم أراوغ، يُبردون من حرارة قلبي، ويبثون فيّ الموت البطيء، يجب عليّ أن ارضخ لخططهم الشريرة وأن أستسلم.

يريدون مني أن أشيخ، أكتفي بجلسات المقاهي الثقافية وليالي السمر والتحدث كميت عن تجربتي التي انتهت، والمواهب الشابة التي أدعم ولوحاتي التي رسمت وربات الفنون اللائي ضاجعنني يوما فشبقن وارتجفن من المتعة وخضعن ليدي وفرشاتي ووهبن أنفسهن وأسرارهن لرسومي.

أنا لست بعاجز ولن اكون، لم أدمن بعد على أقراص الفياجرا، ولم أحتج لعكاز أو حتى لنظارة طبية ولم يهد أعضائي داء السكري أو يلبس علي ألزهايمر او تتصلب شرايين أطرافي، أو يكف ذهني عن التوهج، لا أحتاج للتطفل عليكم ولنظرات شفقة منكم ولأحدكم يسمعني في صبر ويهز رأسه طائعا وقد وقع في قلبه أن في مجاراتي أنا المخبول ما سيخفف عني ولن يؤذي العالم.

أنا لم أتصالح بعد مع العالم وأُسلّم لمقاديره، مازلت راغبا في معارك أعنف، قادرا عليها، لن أتوقف عن تحدي الكون بفراشتي وإخضاعه بكل معانيه وألوانه وبؤسه وحبسه في لوحة.

 

جلست أمام لوحات المتسابقين المصفوفة، رأسي مثقل، لا أملك فكاكا من فخهم المحكم، يسيرون بي لأعتلي سلم التتويج والتكريم ثم أخطو منه إلى الهاوية ولا أجد وسيلة للهرب.

زائري القادم من الظلام والذي استكنت له قبَّل جبيني، قبل أن يضحك في قوة، كانت الجدران تهتز لضحكاته، الأرض ترتج، تيارات الهواء عنيفة وقاسية، لا أقدر على النظر إليه، لم أرَ أبدا عينيه..

كان ضحكه موصول حين حك وسطاه بإبهامه ليصدرا صوت فرقعة وتشتعل بينهما نارا، ينفخ فيها كحاوي فتزداد شعلتها، يلعب بها و يقفز معها، يصنع منها دوائر وخطوط ومسارات ومتاهات قبل أن يقذفها بثبات وغل نحو اللوحات المرصوصة.

في لحظة اشتعلت تلك المضروبة بقذيفة مباشرة، توهجت وتدافعت منها ألسنة اللهب والشرر، تنمو وتضمحل وتتراقص وتحاول أن تطال كل ما تقدر عليه من لوحات.

بلا تفكير ألقيت بنفسي نحو اللهب، ركلت اللوحة المشتعلة بقدمي بعيدا عن بقية اللوحات، أضربها بحذائي محاولا إطفائها، تفكيري يهديني إلى زجاجة ماء على منضدة في أقصى الحجرة، أهرع نحوها، أتناولها وأفرغها على اللوحة المحترقة، أتعقب ذيول اللهب والدخان بضربات لاهثة من قدمي.

ينظر إليّ مشفقا، يبتسم في استهزاء، وجهه يخفيه الظلام وإن بقى لسان اللهب بين إبهامه ووسطاه، ينفخ فيه هواء يحمل كل برودة صدره فتنطفئ الشعلة.

تراجع وقد نفض يديه مني، لم يحاول أن يتظاهر بالحنق أو أن يتشبث برأيه، تراجع وعلى شفتيه السوداويين ابتسامة لا مبالاة و استنكار مضمر، غير معني بالظهور.

ارتميت إلى جوار اللوحة المتفحمة، زواياها المتآكلة والثقوب السوداء التي مزقتها والمياه التي ذابت فيها تفاصيلها، استجمعت أنفاسي للحظات ثم نهضت، راجعت ورقة تحمل بيانا باللوحات والعناوين التي تحملها، قارنت البيان باللوحات المتبقية، السليمة لأستخرج تلك المتضررة.

والآن ماذا؟!.. لدي لوحة مدمرة، صاحبها لن يعوض عليه شيء، ولوحات أخرى تنظر لي في تحدٍ وشبح لا أعرف من أين أتى، مندفع ومجنون، وبارد، هل جننت أنا، أرى خيالات وهلاوس وأحادثها، لا أتعجب أو أجزع، و كأن الأمر عادي، يحدث كل يوم لكل الناس، رغم هذا الخاطر المخيف لم أهتم، أشعر وكأن عقلي ممسوح، تعب شديد ورغبة لا متناهية في الاستسلام والموت، خدر لذيذ.

هو ليس من هذا العالم وإن بت أشعر أن هذا العالم هو الذي منه…..

 

أعتقد أن عليّ أن أمنح هذه اللوحة التالفة المركز الأول والجائزة، سأدبج أية عبارات أسطورية عنها وسأُسوِّف في تسليمي اللوحة لصاحبها أو أتحاشاه أو أطلب الاحتفاظ بها كهدية وذكرى، أستريح للفكرة.

لم يتكلم، لكنني وجدت صوته الرخيم، العميق، المكتوم في أذني، لم لا تعيد رسمها؟!. أطلقت زفرة حارة وحدقت فيه بنظرة تحاشت عينيه، نظرة متهكمة وغبية.

أنا لا أعرف اللوحة بالأساس، لا أذكر تفاصيلها، لم أنظر إليها على وجه الخصوص، رأيتها بينهم، ربما يطغى عليها اللونان الأحمر والبرتقالي وبعض الأزرق النيلي، وكانت جل خطوطها عرضية، لكنني لا أعرف عنها أكثر من ذلك، كانت بعيدة وباهتة وبلا تفاصيل. حتى وإن تذكرت خطوطها فالرسم من الذاكرة لن يخدع صاحبها، أحتاج إلي أن أنظر إليها لأقلد تفاصيلها.

ارتجفت لمس يده ليدي، شعرت برجة وبرودة ودوار، بغير وعي نزعت يدي لكنه أمسكها بقبضة قوية، جذبني ومشى بي إلى لوحة بيضاء على حامل الرسم الخشبي.

أصابعه متجمدة على أصابعي وقبضته حديدية، اعتصر يدي فتألمت واندفعت الدماء لرأسي حارة، لا أقاومه، أستسلم لضحكاته المجلجلة واندفاعه الأحمق وهستيريا حركاته.

أجبرني على الإمساك بالفرشاة، لا أملك فكاكا منه، لم أعد قادرا على التفكير، رأسي ممسوحة، عامرة فقط بالألم والاختناق. ينقل يدي في سرعة ومهارة بين الألوان واللوحة البيضاء، يده ثابتة ومصممة، وأسنانه يضغط عليها، توشك أن تتحطم على بعضها من الغل.

وقع في نفسي أننا قد رسمنا صورة طبق الأصل من اللوحة التالفة، لصاحبي المختل مهارات جلية، هو ملاك ملوث أو شيطان تائب أو رب عابث، جاءني ليسخر مني ويتلف أعصابي.

صاحبي تراجع من جديد في الظل، بعيدا عن ضوء المصباح، تركني أنفخ في يدي الملتهبة الوارمة، حائرا، أحاول استجماع شتاتي.

أنحط جالسا على أقرب كرسي، الدوار يلف بي وبالعالم، الأرض غير ثابتة، لا يترك لي فراغا للتعافي والتفكير، يجرني لأنهض، يدفعني نحو الخارج.

يسير كإعصار وأسير من خلفه، أجرجر أقدامي وأشعر بالإنهاك، لست مجنونا، أنا فقط أتعرض لظاهرة ما ورائية، المختلون الفصاميون لا يدركون الفارق، سيحادثونه بين الناس كشخص عادي وسيستجلبون نظرات الاستهجان والشفقة والخوف، سيعانون مشقة امتزاج الواقع بما يغايره، لكنني أدرك اختلافه، على وعي تام بما يحدث وإن كنت لا أفهمه.

 

أوحى إليّ أنه يريد شرب عصير القصب، وقفنا بمحل العصير، يتقافز من حولي سعيدا ومنتشيا، تناولت الكوب ورشفت منه، كان حلوا ولذيذا، دس فمه معي وزاحمني في الشرب، تجهم وجهه وامتقع، بصق ما شرب، سب الجميع واهتاج، دفعت الكوب بعيدا عنا، لم يعجبه الطعم ولمح بقعة على طرف الكوب تقف إلى جوار فمه، صاحب المقهى لم يدرك كيف سقطت أعواد القصب دون أن يدفعها أحد، كيف اختل توازنه دون سبب وكيف سقطت عليه عشرات الأكواب وتهشمت بارتطامها بالأرض.

انسحبت خارجا في صمت وتوتر بينما يحجل هو إلى جواري ويملأ الكون ضحكا وصفاقة….

على الكورنيش في المساء كان يستمتع بدس أنفاسه بين كل عاشقين، اختليا والتصق وجهاهما، يصرخ بصوت لا يسمعه أحد وإن كنت أعرف تأثيره، يسبب صفيرا عنيفا وألما بالأذن وشعورا بالضغط عليها وصمم مؤقت..

كان يضحك ويضحك وإن مازلت غير قادر على التطلع مباشرة إلى عينيه، قسماته ظلامية، تغلب عليها الظلال، غير واضحة أو صريحة، ضوء النهار لا يبدد الظلمة التي تصاحبه وحرارة الشمس تتلاشى أمام البرودة التي تحيط به.

 

عقدت العزم على منح الجائزة الأولى للوحة التي احترقت وقلدتها، قررت الاحتفاظ بها كذلك، يوسوس لي أن أرتب باقي اللوحات على شكل دائرة واسعة ثم أشغل أي قطعة موسيقية أحبها أو لا أحبها، في مركز الدائرة أقف وقد عصبت عينيّ، أدور مع الموسيقى وأرقص، أتحرك للأمام وللخلف وبالجنب، مع انتهاء الموسيقى، أرفع عن عيني العصابة لتكون أول لوحة تقابلها عينيّ هي الفائزة بالمركز الثاني، أكرر الأمر وأحصل على تلك الفائزة بالمركز الثالث.

أتجاهله، إن اخترت فسأختار بجدية، لن أسمح لاسمي أن يُلوَث، ينالون من ذائقتي، يصرخ من حولي ويصطنع ضوضاء، يكاد يبطش بي، أنكمش على نفسي، يحاول إغرائي باقتراح خطط أخرى بديلة للاختيار، ماذا لو صنعنا قوالب من طين وقذفناها من بعيد على اللوحات بأعين مغمضة، المصابة تصبح هي الفائزة، أو نرمي اللوحات في الهواء، نستبعد تلك التي تسقط على وجهها، ونكرر الأمر حتى نحصل على تلك الفائزة، تريد طريقة علمية؟!.. من الممكن أن نمنح كل لوحة رقما ونُدخل الأرقام إلى الكومبيوتر ونتركه ليختار هو عشوائيا، أو نُقَلِّب في الأسماء ونختار تلك اللوحة التي لأول فتاة تصادف عيناك اسمها.

أسُدُ أذني وأدفن وجهي بين ركبتيّ، لا يستسلم، أهتف فيه، حسنا… فلتكن هذه وتلك، أشير عشوائيا نحو أية لوحتين لتكونا الفائزتين بالمركزين الثاني والثالث.

 

خمسة أشهر وهو ملازم لي لا يفارقني، لا أستمتع بطعام أو شراب أو نوم، هزلت وملأت وجهي التجاعيد وذبلت، واهن، يلازمني صداع مزمن وانكسار بالعنق، عيناي كسولتان، نصف مغلقتين دائما، بت لا أعرف إن كنت واعيا أم فاقدا للوعي أم لعلني ميتا، هائما في ارض البرزخ السرمدية. أكاد ومن شدة الإعياء لا أدركه هو نفسه، نجحوا في قتلي وإزاحتي ويستكمل هو استنزافي..

سأموت وسيلقى جزاءه بالفناء معي، سيتحلل تدريجيا ويذوب في الظلام والبرودة ويتلاشى فيهما.

كل حديث سمر أو عمل أو حتى اجتماع أصدقاء يفسده، يقف خلف المتحدثين ويحك أنف أحدهم، أو يجذبهم من شعورهم وأحيانا يصفعهم أو يكتم أفواههم ويشدهم من آذانهم.

كل طعام أو شراب يبصق فيه، لا يعرف النوم، يمضي الليالي كلها مستيقظا يثرثر ويهزني كلما سقط جفناي من الإعياء لأصحو.

فنانة زميلة شابة معجبة برسومي، تعمد أن يمد رجله أمامها لتتعثر و تسقط بين ذراعيّ، ثم ضغط رأسي لتنطبق شفتاي على عنقها، دفعتني وصرخت وكانت فضيحة بمقر نقابة التشكيليين..

في حفل تسليم الجوائز سكب الماء على مدير المنصة، عبث بالميكروفونات، جعلها تطلق نهيقا مرة مع حديث أحدهم، ومرة صهيلا وأخرى أزيزا ورابعة نقيقا وأخرى هلوسة ومرة ثغاء….

كنت أضحك وأرتمي بالكرسي للوراء وأرتج على نفسي، كلما حاولت كتمان الضحكات انفجرت رغما عني، يحدقون فيّ لائمين، محرجين، يضربون كفا بكف، يحاولون تهدءتي وأحاول معهم ولا أستطيع ولا يستطيعون.

 

أغلقت على نفسي الأبواب، حاولت أن أتشاغل عنه، يحجب التلفاز بجسده ويشوش على المذياع بغنائه ويلقي الكتب من يدي ويشوه كل اللوحات التي أحاول أن أرسم.

أموت وسيموت معي، أسقط في هوة بلا نهاية، قبر بلا قعر، أواصل السقوط دون أن اصطدم، شعرت بماءٍ محلى في فمي، أجرع الماء في سعار، أجاهد كي أفتح عينيّ، رأسي وكأنها مجوفة، ألمح صورته مهتزة من وراء غشاوة لم تنزاح، مد لي يده بكوب الماء، اللعين رضخ، يخشى أن يفنى بموتي، أهز رأسي هازئا وأسقط في غيبوبة هانئة.

 

أتعافى ببطء، هو إلى جواري، لا يتركني للحظة، يعتني بي، راضخا ومنكسرا، رأسه منكس وإن بقى على تجهمه وظلامه وتخفيه.

عندما كدت أشفى عاد إلى ثرثرته وجنونه، نظرة حازمة من عينيّ ترده، يخفت صوته ويتراجع مبتعدا عن وجهي.

 

ما أن أحسست ببعض القدرة  حتى أمسكت بالفرشاة، أحدق في الصفحة البيضاء للوحة على الحامل الخشبي أمامي، لم ألفظ أنفاسي وإن حاولوا دفني بالحياة في جلسات شيوخ الفن وعلى منصات لجان التحكيم، سيحبكون المؤامرة من حولي يتجاهلون كل ما أبُدِع، سيصفقون لي ويهزون رؤوسهم استحسانا، ثم يتجاهلونه وينسونه، يهمسون من خلف ظهري أن الأصابع المصابة بالخشونة والروماتيزم لا يمكن لها أن تنتج أفضل من ذلك وأن العقل الذي انطفأت شعلته لا يقدر على المضي بأفكاره لأبعد من ذلك.

 

بزغ من الظل وتقدم مني واثقا، باردا، مهيبا. أوحى لي أن المؤامرة لا تردها إلا مؤامرة، أنني لست بحاجة لمزيد من مجد، هو وقت العبث والحيلة والاستمتاع والدهاء المطلق….

لن يقدروا علينا مجتمعين…

أشار عليّ أن أرسم صورة لهم (المتآمرين عليّ) يظهرون فيها بظهورهم، أرسمهم بمؤخرات ضخمة ورقاب عريضة وبدل تخرج قمصانها من بناطيلها المرفوعة عاليا لتدفئ بطون سمينة، في سماء رمادية تعلوهم أرسم طيرا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، يحاولون فرارا، لا يجدون له منفذا.

لا أُوَقِّعها باسمي، أخترع اسما وأُوَقِّعها به، ستكون لوحة عبقرية، تحمل خبرة السنين، كل لوحاتي التالية ستكون عبقرية، مفعمة بالحنكة والمهارة والإبداع، ستضاهي وتتغلب على كل مشروعي الفائت..

 

لم أعرف يوما أني سأطيع شبحي وأتحالف معه، لقد جننت وابتعدت أفكاري عن كل هدوء ورزانة، في الحياة والفن….

وكأنني وشبحي ننتظم في معادلة صفرية، كلما امتلأت بروح التجريب واندفعت هادرا، ملووث العقل، طفلا لا يعبأ بشيء، كلما هدأ هو واستكان وتقيدت أفكاره وانتظمت في نمط..

أكتب مقالا طويلا عن تلك اللوحة وذلك الفنان المجهول الخجول -رغم جرأة ألوانه- والذي اكتفى بإرسال لوحته لي في طرد، يحمل أختام كندا، سأناقش اللوحة كطفرة حقيقية في عالم الفنون، فيض سماوي وسمو لا يستطيعه بشري وجرأة ومهارة وروح محلقة واجتهاد فارق…

أملأ العالم ضجيجا عنه، ستصيبهم عدوى أفكاري و سيأسر ألبابهم جمال اللوحة وتفردها، ستنزلق أقلامهم للكتابة عن ذلك الرسام المجهول وظروف هجرته، سيتلهفون على خبر عنه أو صورة له أو أية لوحة جديدة، سيحاولون تعقبه وسأمعن في إخفائه، سأكون عرابه الوحيد…

 

أنا وشبحي في كل مساء ننتظم على لعب الشطرنج، ونتبارى في رسم لوحات، نُوَقِّعها باسم ذلك المهاجر المجهول، في الصباح نجول في الشوارع نسخر من الجميع، لساني أصبح زلفا وصادقا، لا أحسب حسابا لشيء، لا أتورع عن سب رئيس تحرير مجلة، اختصر مقالتي لأجل إعلان عن مسرحية تافهة مثله، أو تقبيل أنثى جميلة عشرينية أعجبتني ومستها حرارة فؤادي واندفاعي وملامحي التي صارت طفولية وصبيانية، لا أجد أدنى مشكلة في ضرب ضابط على مؤخرته أوقف الطريق لساعة كاملة ليمر مسئول كبير، انفتح الطريق وعندما اقتربت منه، أبطأت العربة وخبطته وانطلقت مسرعا، وقف مندهشا وخجلا، جمد مكانه ولم يتحرك أم لعله سجل أرقام العربة..

شبحي لم يزل باردا، ملامحه غير جلية، غارقة في الظلام، إن لمسته استشعرت قشعريرة وإن بت أشعر بالأمان في حضرته..

 

متى رغبت أو استشعرت اقتراب الموت أو أردت التسليم وطمعت في السكون أُهدي لهم الحقيقة، مؤيدة بصوري ومقاطع الفيديو وأنا أرسم اللوحات – شبحي لا يظهر للأعين أو لعدسات الكاميرات- سأضحك ما استطعت وأحظى براحة نهائية وأبدية.

 

في المساء أمسكت بفرشاة وأمسك شبحي بأخرى، نتبارى في ملأ فراغات صفحة بيضاء للوحة، تخيلت قصرا شامخا وجامدا وجافا ومؤذيا للعين والروح، يعلوه تاج ضخم من ذهبٍ مطفأ، ترقد فيه حية، الحية تحاول التهام شمس صغيرة، تريد أن تبزغ، تحت القصر دوامة وهوة أرضية انفتحت تحت ضغط ثقل القصر، توشك أن تبتلعه وقد امتلأت السماء بأشباح نصف نورانية، تلقي بالغائط والقاذورات على القصر والتاج وتحاول أن تساعد الشمس في البزوغ..

……………………………..

*قاص وروائي مصري.

* صدر له: رواية سفر الأراجوز ـ عن دار فكرة، تسبيحة دستورية ـ 2013 عن دار اكتب، الضئيل صاحب غيّة الحمام ـ عن دار اكتب 2014

 

 

مقالات من نفس القسم