ممدوح رزق
يعتقد بعض الكتّاب أن تناول الروائي لشخصيات مختلفة عنه هو أمر أكثر مشقة وأقوى تأثيرًا من الكتابة عن شخصيات تشبهه.. بصرف النظر عن أن “المشابهة” و”الاختلاف” بين الكاتب وشخصياته لا يخضعان أبدًا للحسم أو الاستقرار وإنما يتم اكتشافهما ورصد تحولاتهما المراوغة طوال حياة الكتابة سواء في وعي الروائي أو بالنسبة لقارئه، وبصرف النظر أيضًا عن “التأثير” باعتباره نسبيًا، تتغيّر ملامحه عبر الزمن سواء على مستوى القارئ نفسه أو من قارئ لآخر، أو من جماعة قرائية لأخرى؛ بصرف النظر عن ذلك فإن بإمكاني القول أن أسهل ما يمكن على الروائي أن يفعله هو تناول شخصيات “مختلفة” عنه.. أن يحدد في لحظة معينة قائمة من اليقينيات والخصائص التي يعتقد أنها تكوّن شخصيته ثم يحدد في المقابل ما يناقضها من يقينيات وخصائص أخرى ليخلق من خلالها شخصيته الروائية وينسج بشكل منظّم حياة كاملة لها.. يمكنه أن يختار ببساطة من الواقع شخصية جاهزة يحكم بضديتها له، ومن ثمّ يمرر نفسه داخل عالمها عبر ظواهرها المعلنة؛ يفكر بطريقتها ويشعر باستجاباتها ويرسم لخطواتها مسارات سردية قائمة على تلك المعطيات الواضحة.. بإمكاني القول أن أقل كتّاب الدراما كفاءة من اليسير عليهم فعل ذلك.. يمكن لأي منهم أن يستبطن تحت أي مستوى شخصية مغايرة له، وأن يراجع مسودته جيدًا بحثًا عما يمكن أن يعتبره فضحًا لصوته الخاص أو انفلاتًا لحكمه الشخصي المعارض لتلك الشخصية الروائية حتى يعيده إلى الخفاء.. نصائح وإرشادات الكتابة في كل مكان توصيك بهذا النوع من الانتباه، وتعيّن لك طرقًا عديدة قد تساعدك على معالجة الأمر.
لكن الأصعب حقًا هو أن تكتب ما تعلم جيدًا أنه أنت وتخشى أن يعرفه الآخرون.. أسرارك التي تدرك أن كشفها قد يحوّل أقرب البشر منك إلى أعداء.. أن تكتب ما قد يُعرّض حياتك كلها للتهديد.. الأصعب حقًا ألا تختبئ في شخصية روائية متخيلة وأنت تفعل ذلك وإنما أن تتعمّد ترك الدلائل اللازمة داخل النص التي تؤكد على أن الكاتب والسارد شخص واحد.. أن تكون أنت النص الذي تكتبه دون مواراة أي مُجسّدًا تلك العتمة الكامنة في داخلك مثلما لا يراها غيرك، والتي تعرف أن صورتك في الخارج لن تبقى بعد الإفصاح عنها كما هي.. المتمرسون في الكتابة يدركون بالطبع الفرق البديهي بين انحياز جمالي كهذا على مستوى المضمون، وبين المباشرة والتقريرية كأسلوب لمعالجته.. تتطلب هذه الكتابة خاصة في المجتمع العربي الإسلامي البوليسي شجاعة لا يقوى عليها إلا كاتب استثنائي، بالرغم من أنه حين يفعل ذلك لا يفكر في كونه شجاعًا بقدر ما يشعر بأنه يؤدي فقط ما يجب عليه فعله، وأنه لا ينبغي أن يمنعه أي شيء من تنفيذه.
قد يحتاج المهادنون دائمًا إلى التنظير لمقارنات أليفة، يحاولون من خلالها إثبات أن المسالمة التي تحكم كتاباتهم هي “الأصعب والأعمق تأثيرًا”.. ليس تغافلًا عن النصوص الانتهاكية بحق التي لا يقدرون حتى على مجرد التفكير في كتابة ما يماثلها، وإنما محاولة بائسة لتعويض هذا العجز؛ فإذا كنت لا تستطيع أن تقوم بشيء ما فليس عليك ببساطة سوى أن تكرّس لضعفك بوصفه بطولة.. كان يمكن لأي منهم أن يكون كاتبًا مهادنًا فقط، ولكنه اختار بمثل تلك التنظيرات أن يكون مهادنًا وبائسًا أيضًا.