د. مصطفى الضبع
ربما كان أشرف الخمايسى فى حاجة لتجربة مغايرة يمارس فيها نوعا من العزلة قبل أن يعاود الكتابة ليكون عوده حميدا بقدر يتجلى فى تجربته الإبداعية الثالثة التى جاءت بعد مجموعته القصصية الأولى “الجبريلية ” الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة (1995)، وروايته الأولى “الصنم” الصادرة عن الهيئة نفسها (1999)، يتسع الفارق الزمنى لتصدر المجموعة الثانية “الفرس ليس حرا” عن الحضارة للنشر بالقاهرة 2011، بفارق قرابة اثنتى عشرة سنة لتضم المجموعة الجديدة إثنتى عشرة قصة (مصادفة ربما يستخدمها أحدهم فى التأويل أو يبنى عليها دلالة ما)، وتأتى المجموعة لتكون واحدة من مجموعات صدرت فى السنوات الأخيرة محتفظة بحقها فى تصدر كتابة القصة القصيرة فى جيل الثمانينيات، و هو تصدر يضعنا إزاء قائمة قصيرة من المجموعات التى يفوتك كثيرا إن لم تقرأها وهى لعدد من الكتاب يجمع بينهم قلة الإنتاج وجودة الطرح:
- سيد الوكيل فى مجموعته “مثل واحد آخر”.
- شريف صالح فى مجموعته “مثلث العشق”.
- أحمد محمد حميدة فى مجموعته: “ظل باب”.
- أشرف عبد الرحمن فى مجموعته “يوم مناسب للقتل”.
- أشرف الخمايسى فى مجموعته “الفرس ليس حرا “.
وهى قائمة قصيرة قابلة للنمو عبر مجموعات لم تطلها يد الناقد الذى اتسعت عليه ساحة بحجم الوطن العربى الكبير.
الطاقة الرمزية
تكتنز النصوص بطاقة رمزية هائلة تجعل من العناصر السردية إمكانات شديدة الانفجار مما يعدد مظاهر التأويل فيها، ويجعل من النصوص مراكز للتأويل متعددة الوظائف، ويمكن للمتلقى رصد عدد من العناصر / العلامات ذات الحضور القوى فى المجموعة، وذات الفاعلية الأقوى فى تشكيل المنظومة السردية، ومن هذه العلامات:
- الشمس: تلك التى يبدأ الكشف عن تأثيرها منذ التصدير الذى يأخذ شكل الإهداء ” إلى زهرة العالم الفواحة دائما بالأريج العطر..” طارحا دلالة الزهرة الخفية التى تأتيك رائحتها وقد لا تعرف مصدرها بدقة كما يطرح دلالة تأثير الضوء على الرائحة ومن قبلها على النماء، وكما أن الشمس تمثل نوعا من القوة الكاشفة عن الغموض فإنها تطرح منذ بداية النصوص لتكون بمثابة الضوء المبثوث لاكتشاف العالم:” وكانت شمسنا طالعة من وراء زروعنا تتسلق النخيل عندما كنا ندخل المسجد، كانت شمسنا شمس العيد، وشمس العيد غير كل الشموس، إنها بيضاء وحوافها محلاة بالذهب ” (ص 5)، لا تكون الشمس هنا بمثابة ” طاهى الحق ” حسب تعبير جلال الدين الرومى فى “المثنوى” فحسب، وإنما تحدد استراتيجية الاستهلال التى لا تتوقف عند حدود السطور الأولى للنص الأول وإنما تحدد منطقة عمل النصوص جميعها التى تكاد أحداثها جميعا تدور نهارا وتحت ضوء الشمس، ولا يكون لليل – حيث تختفى الشمس مؤقتا – من وظيفة سوى التبشير بظهور الشمس فى وقت لاحق .
- الجماعة: يعتمد السارد مصطلح الجماعة بوصفه صوتا جماعيا يكون السارد بمثابة المتحدث الرسمى لجماعة بشرية ضالعة فى الحياة بقدر إسهامها فى صراعاتها الدائرة، وتتبلور الجماعية أول ما تتبلور فى ضمير المتكلمين الذى يمثل صوتا جماعيا تجده فى عدد من العلامات اللغوية الموزعة على عدد من نصوص المجموعة محيلا إلى مساحة واسعة من مساحات العرض السردى تجمع بين الأفعال وعلامات الوصف: “شمسنا – زروعنا – نجعنا – جلابيبنا – أمسكنا – صعقنا – رفعنا وضعناه “، وفى الوقت الذى يمثل فيه صوت الجماعة قوة لها فاعليتها فى سياق النصوص فإنه يمثل وجها آخر من وجوه الضعف الكاشفة عن تهاوى الجماعة رمزيا فالقوة التى تتجلى فى القصة الأولى تتهاوى تدريجيا حتى تصل إلى حالة من الهوان إزاء قوة يحولها الوعى الجمعى إلى قوة خرافية كنوع من التبرير للضعف الذى يرى كلب إسرا كائنا سحريا، يلعب الرمز دوره هنا ليكشف عن زيف قوة الجماعة، تلك القوة التى تراها الجماعة فى العتاد والسلاح ويراها السارد فى القوة الروحية والفكرية إذ عندما يكون العقل ضعيفا فلا قيمة لقوة مادية مهما بدت عظيمة.
- الفرس: بوصفه شخصية سردية يظهر الفرس مرة واحدة فى سياق قصة يتصدرها عنوان لا يتوقف عند حضوره فى القصة وإنما يتجاوزه إلى عنوان المجموعة نفسها فارضا دلالته الرمزية على عالم النصوص بكاملها عبر زوايتين أساسيتين:
- زاوية النوع: حيث الفرس بوصفه منتميا لنوع من الكائنات يتضام مع غيره من هذه الكائنات السردية غير البشرية منتجا خطا له دلالته فى سياق النصوص فالفرس والكلاب والبقر والجمال والقطط وغيرها لا تقف عند كونها مجموعة من الشخصيات التى تطرح نفسها بقوة على مستوى إنتاج الدلالة أو هى مجرد حيوانات تمثل علامة على بيئة محددة المعالم (مادامت النصوص تقع كلها فى إطار بيئة ريفية) وإنما هى شخصيات لها حضورها الدلالى.
- زاوية الرمز: وفيها تتحول هذه الشخصيات إلى رموز لها قوة الرمز وطاقته الدلالية حيث ينفرد الفرس من بين هذه الشخصيات بمساحة مغايرة لكل الشخصيات خاصة وأنه يشغل هذه المساحة على الرغم من غيابه خلافا لبقية الشخصيات من هذه النوع التى تشغل مساحة قائمة على الحضور وليس الغياب مع الوضع فى الاعتبار أن هذه الشخصيات يمكن النظر إليها رمزيا فى حال الانفراد وفى حال الاجتماع فكل منها طاقته الدلالية (راجع كلب إسرا والفرس غير الحر والبقرة الحمراء الداكن لونها فى قصة ” حاملة الأبقار”)
وفى سياق متصل يوزع الفرس طاقته الرمزية على القصة الثانية ” الفرس ليس حرا” ليقدم النص مجموعة من العلامات غير المتكررة والتى تتأسس فيها الدلالة على تفردها فكل العناصر تقريبا تتكرر باستثناء الفرس وما يشابهه من عناصر تتضمنها القصة وهو ما يجعل من حدث الحرب والشخصيات التى تدور فى نطاقها، ومن الفرس ورمزيته والشخصيات وأفعالها مجالا حيويا للعمل التأويلى والعمدة الذى يعد صورة نمطية فى القصص التى تقارب هذه البيئة قروية الطابع يعد نموذجا فريدا تعمل القصة على توظيفه وخاصة فى سياق الحرب التى يرى السارد إنها طبيعية الحدوث مع المبررات التى يسوقها:” وكان طبيعيا أن تقوم الحرب بين نجعنا ونجعهم، فلم يكن طيبا بالنسبة لنا أن تدوس أقدامهم على حقولنا، ولا أن تجرى مياههم فى مسام طيننا، إنهم احتلونا لزمن، وكان طبيعيا أن تقوم الحرب ” (ص 9) ومن الحرب تتوالد مجموعة العلامات ذات الطبيعة التأسيسية للنص، سواء فى بنائه أو دلالاته خاصة وأن النص يقدم ما يشبه البرنامج التجريبى لاكتشاف طريقة تفكير الجماعة البشرية فى حالاتها المختلفة وخاصة فى كيفية إدارة الأزمات حيث الجمع بين ماهو بدائى وما هو حديث استعدادا للحرب:
” وفى البيوت القلقانة كان الرجال يسنون شفرات الطوارى والبلط وأسنان المناجل، وكانوا ينظفون مواسير البنادق ويملأون خزائنها بالرصاص وفى هذه الليلة أرسل العمدة ثلاثة من رجاله إلى ثلاثة من رعاياه” (ص 9).
- الفرد سابق الجماعة: عبر جميع النصوص تجد حوارا بين صوتين: الفرد والجماعة ، وهو حوار ليس منطوقا بالمعنى المعروف وإنما هو حوار يكشف عنه الصراع القائم بين قوتين: الفرد فى قوته والجماعة فى ضعفها، وفى كل الأحوال يكون الفعل الجماعى مسبوقا بفعل فرد يمثل وجها من وجوه الديكتاتورية:
- فى قصة “ذبح الضحية فى نور شمسنا الذهب ” يكون فعل الجماعة مسبوقا بفعل ” العوضى ” الجزار بوصفه المحرك للعالم المنتج للوهم فى عيون الجماعة والمزيح للحقيقة فى عيون العالم.
- وفى قصة “الفرس ليس حرا ” يكون العمدة فى تشكلاته (الأول- الثانى – الثالث) ذلك المحرك.
- وفى قصة ” جثة عذراء عاشقة” يلعب القاتل الدور نفسه فى إنتاج الحركة.
- وفى قصة ” كاااااااااااااك” يتولى الكمسارى إدارة الأمور ويكون على الجماعة البشرية أن تحدد مصير الأوزة بناء على قوانين الكمسارى أو على القوانين التى يرعاها ذلك الرجل المتعنت.
- وفى قصة ” إسرا ” تلعب الغازية وكلبها دور الشخصية المركزية، أو مركز العالم الذى تدور فى فلكه الأحداث وتمثل مع كلبها الفريق المضاد، فريق السيطرة الممهدة للديكتاتورية، ويمثل الكلب القوة الغاشمة فى يد المسيطر.
تتجاوز حركة الفرد كونها منتجة للحركة إلى كونها منتجة للصراع الخفى فى تدرجه للظهور والإعلان عن نفسه أولا وانقسام العالم بصورة غير متكافئة ثانيا، وانشغال الجماعة بفعل الفرد ثالثا وتتدرج القوة من البساطة إلى التعقيد ومن القوة التى تبدو ذات فعل وهمى فى القصة الأولى إلى القوة المعتمدة على قوانين توهم بتطبيقها فى قصة ” كااااااااااااك ” إلى القوة التى تأخذ شكلا أسطوريا فى قصة ” إسرا ” ومن ثم يكون لترتيب القصص وتواليها دوره فى إنتاج الدلالة فى نظامها المعتمد على توالى النصوص وتدفق عناصرها المؤسسة للدلالة فالجماعة تتحول إلى القوة الأضعف فى تجاه كلب إسرا الذى يتحول فى وعى الجماعة إلى أسطورة ذات قوة سحرية تبرر ضعفهم قبل أن تبرر ضعف الجماعة البشرية ” فروا إلى دوار العمدة وقالوا له إسرا الساحرة معها كلب مسحور يأكل الناس وهى تسرق بيوتهم، والعمدة بهت واغتم وقال يارب من أين جاءت لنا إسرا الساحرة ” (ص 91) ولم يكن تساؤل العمدة سوى مبرر جديد للضعف .
- العيد:ضمن سياق من الصراعات التى ترسمها النصوص لرسم عالم يزدحم بالتناقضات والتقاطعات الدالة فالعالم يحوى الشيئ ونقيضه والواقع فى قدرته على احتواء مظاهر التناقض لا يقف عند حدود الصورة المتعينة وإنما يتجاوزها إلى رسم صورة للعالم فى كونيته، وكل علامة سردية تكشف عن نقضيها عبر قراءة النصوص فى تقاطعاتها، والعيد بوصفه علامة زمنية فى القصة الأولى يتقاطع مع علامات زمنية تشى بالنقيض الذى تجده فى زمن الزلزال فى القصة التالية لها مباشرة، ويكون عليك عندها أن تكاشف الظروف ذات الطبيعة الزمنية التى صنعت جحرا لخبيث بن خبيث، أو الزمن الذى يحوى كل هذه الصراعات ومظاهر المواجهة.
- الضحية: فى نصين يتجلى مفهوم الضحية، والتجلى شديد الدلالة فى تواليه منتقلا من الضحية المطروحة بشكل مباشر فى قصة ” ذبح الضحية فى نور شمسنا الذهب ” أو بشكل غير مباشر فى قصة ” جثة عذراء عاشقة ” وقصة ” كاااااااااك “.
وما بين حسن الضحية المتأرجحة بين الشك والحقيقة بالنسبة للسارد من ناحية وبين الأوزة بوصفها ضحية تعنت القوانين، وبين العذراء العاشقة بوصفها ضحية تعنت العادات، ما بين الضحايا عدد من التقاطعات المؤكدة للربط لا الانفصال، فما بين حسن والعذراء العاشقة مستويان من التقاطعات – مستوى التكامل حيث يكون الاثنان وجهين لعملة واحدة للدرجة التى يمكنك أن ترى علاقة وثيقة قائمة بين الاثنين، فإذا ما كنت على يقين من أن الذبيح حسن يمثل حالة وعى جماعى ليس قادرا على تبيان الحقيقة فى ضوء الشمس المحلاة بالذهب على حد تعبير السارد فإن النهار نفسه يكشف جريمة الليل المرتكبة فى حق العذراء العاشقة.
- مستوى التضاد حيث يمثل قتل العذراء فعلا ليليا يكشفه النهار فى مقابل مقابل أفعال النهار التى تختفى رغم وضوحها أو لا تدخل حيز الاهتمام من الجماعة البشرية على الرغم من كونها فعلا بشريا، فالبقرة التى تتعرض للانفصال عن عالمها (قصة حاملة الأبقار) تتعرض فى الحقيقة لفعل بشرى ولكن لا يشعر الفاعل بمافعل ويظل حلم العودة يراود البقرة الحمراء الداكن لونها وهى ” تنتظر بفارغ الصبر أن ينتهى كل هذا، حتى تعود إلى وليدها الجميل وحظيرتها الواسعة والحقول البراح ” (ص 83)
يمثل الرمز طبقة ثانية تالية لقشرة سردية تكتشفها بسهولة عبر الحكاية فى نظامها البسيط، ذلك النظام الذى يفضى إلى مجموعة من العناصر التى يمكن اعتمادها فى التأويل، لك أن تراها محددات ولك أن تراها منطلقات للتأويل بوصفها قائمة لا تنتهى من العلامات القابلة للدخول فى عملية التأويل، ليس معنى وضعها فى القائمة السابقة أنها قائمة منتهية أو إنها قائمة قصيرة لك أن تستبدلها أو تضيف إليها وأن تجمع بين عدد من العلامات كما جمعنا بين الضحية والإوزة ولك أن تمرر علامات أخرى من مثل الفرس بوصفه عنصرا ظاهرا أو القطار أو الدجاجة وغيرها .
التكرار فى دلالته
ثمة عناصر يتوالى ظهورها، لك أن تقف عند التكرار راصدا بعض تجلياته، ولكن ما يكمن هناك فى العمق ليس مجرد التكرار وإنما هو التغير الدال، فالعنصر فى تكرره والعلامة فى تجليها الموزع بين النصوص لا تتكرر بالصورة نفسها وإنما يحدث قدر من الانزياح فى طريقة العرض و
ونكتفى بثلاثة عناصر أساسية تمثل علامة ليس من السهل تجاوزها فى سياق النصوص أولا وفى سياق إنتاج الدلالة النصية ثانيا:
- الشمس: سبق الإشارة إلى فعلها.
- القطار: عند كل أدباء الجنوب يعد القطار علامة حاضرة تشى بجنوبية الكاتب ورؤيته القطار بوصفه – مبدئيا – بمثابة الحبل السرى الرابط بالقاهرة (حلم المبدعين والأدباء للصعود والمعبر الحتمى للوصول إلى المتلقى)، ويكون للقطار بوصفه علامة دالة حضوره عبر شكلين واضحى المعالم فى قصة ” كااااااااك ” يحدد القطار حضوره قبل الحدث ليكون بمثابة المسرح المحتضن أحداث عالم لاعلاقة له بالخارج سوى بهذه القوانين المتعنتة التى يطبقها الكمسارى على السيدة القروية وإوزتها: القطار سهم خارق للأجواء، والنخل والأشجار والحقول فرائس مذعورة، فارة كشرارات البرق، وبيوت القرى تتدافع، مفسحة الطريق للحديد الكاسر، وفى لحظات يرتج الكون، وتصعق الآذان أصوات تنقلات العجلات الثقيلة على القضبان الصبورة ” (ص 65) فيزيائيا يمثل القطار عالما له انفصاله عن الخارج يمكنكننا رؤيته معزولا عن العالم أو هو نموذج مصغر عن العالم، وبصريا يرصد القابعون فى القطار، المتحركون معه عالم الخارج عبر الصور المتدافعة والتى يمكن نسيانها بسرعة فور تجاوزها، ودلاليا يعد القطار مساحة من العالم الذى لا تختلف فيه الأمور عن بقية المناطق، فإذا رصدنا نوعين من الفضاءات تتوزع فيها أحداث النصوص هما: الثابت وهو النوع الذى تمثله مجموعة الأمكنة جميعها، والمتحرك ويمثله القطار بوصفه المكان المتحرك المتصل المنفصل عن العالم، وفى المقطع السابق نحن إزاء مساحة خبرية عن القطار تعمد إلى توصيف الفضاء وتهيئة المتلقى لتقبل التفاصيل المرصودة بإدخاله القطار معاينا ومتابعا الوضع فى الداخل، والسارد يأخذ متلقيه من طقسه خارج القطار إلى طقس خاص بالقطار، فى رحلة من الخارج إلى الداخل ليس من أجل الداخل وما يرصده فيه وإنما تعبيرا عن العالم الأوسع الذى يكون القطار مجرد قطاع منه ولكنه قطاع أكثر دلالة، القطار هنا يلعب أدوارا متعددة تكشف عن جوانب نفسية ” تخص السارد بوصفه سفيرا ممثلا للكاتب ” وجوانب اجتماعية تخص الجماعة البشرية التى يضمها القطار وهى مجموعة منتقاة لأداء دورها وهى مجموعة تأخر ظهورها لصالح طرح عنصرين: الإوزة فى عالمها المؤسس من الأصوات المختلفة بحيث يبدو العالم صوتيا تكون فيه الإوزة بمثابة الكائن فى غربته القدرية ” فوق رف العربة الخشبى كراتين وشنط وأجولة ولفائف، تهتز مع اهتزازات العربة، وبين إحدى الكراتين وشنطة كبيرة انحشر قفص جريدى به إوزة وحيدة عيناها مفتوحتان على آخرهما، ورأسها المفزوع يتخبط فى سقف وجوانب القفص ” (ص 65).
- شجرة الكافور: ما بين القصة الأولى ” وفى ساحة الرهبة وتحت شجرة الكافور الخضراء الشاهقة ” (ص 5)، والقصة الأخيرة ” والناس جمعت كلابها فى ساحة الرهبة أسفل شجرة الكافور العالية ” (ص 91) تنمو شجرة الكافور بوصفها علامة سردية، وتتطورمعها الدلالة، فما بين صفات الشجرة فى الوضعية الأولى (خضراء شاهقة)، وصفاتها فى الوضعية الثانية (العالية) تفقد الشجرة شموخها، فى الوضعية الأولى اجتمع الناس للعيد فيما كان العوضى الجزار يستعد لذبح الأضحية، وفى الثانية اجتمع أهل البلد فى مواجهة إسرا وكلبها ومجابهة الظروف التى وضعهم فيها الحاج مجاهد بقبوله استضافة الغازية وكلبها وما بين الوضعيتين تحدث أشياء من شأنها تمكين المتلقى من رؤية العالم ممررا عبر العلامة فى تكرارها الدال.
تتميز المجموعة بحبكتها ليس على مستوى القصص فى انفرادها فقط وإنما على مستوى الترابط بين النصوص نفسها ويمكنك أن تكتشف عددا من الروابط بين النصوص تتمثل فى:
- الخلفية الثقافية التى تشكل عددا من الأنساق الثقافية الكاشفة عن أرض ترابها من حكايات والكاتب فى تحركه عبر مساحات من المكان الجنوبى يجمع بين عدد من العلامات المكانية المعروفة جغرافيا (الطليحات – جهينة – طهطا – الصعيد)، وهى مناطق مكتنزة بتقاليدها وحكاياتها وأنساقها الثقافية الخاصة التى تمثل خلفية للنصوص جميعها وعلى الرغم من التشابه بين بعض العناصر المشكلة للخلفية فإن ذلك لا يعنى غياب الحيوية السردية التى تجعل من الخلفية نسيجا ديناميكيا وليس مجرد خلفية استاتيكية ساكنة، حتى أنك لتشعر أن الخلفية قد تكون أكثر حيوية من المشهد المصور نفسه فى المقدمة، وقد أحسن السارد تحريك الكاميرا راصدا مساحات الحكى بكل ما تتميز به من حيوية تشى بعالم غاية فى الثراء أحسن الكاتب اقتناص تفاصيله والوقوف على تفاصيله.
- الروابط السردية التى عمد السارد إلى استخدامها بحيث تبدو بعض النصوص متراتبة على بعضها البعض،كاشفة عن زوايا متعددة لعالم مسرود بعناية، وهى عناصر تتجلى فى العناصر المكررة التى أشرنا إليها سابقا، كما تتجلى فى نوع آخر من الروابط تجده فى التشابه المشهدى بين نهاية نص وبداية الآخر، تنتهى قصة ” أميرة مدهشة ” بمشهد القطار من الخارج عبر كاميرا مفتوحة العدسة على الفضاء الوسيع:” أرض خضراء شاسعة، وبحر على البعد لا نهاية له، وقطار يجرى، قطار عرباته فارغة، فقط أنا وهاجر فى إحدى العربات وتبدأ عملية السرد فى القصة التالية لها مباشرة ” كااااااااااااك ” بالقطار من الداخل والسارد لا يكشف عن نفسه ولا يقدم نفسه معتمدا على ظهوره فى المشهد الأخير فى القصة السابقة، إضافة إلى تدرج دال يتجلى فى فراغ القطار ثم امتلائه ولك أن ترى (بقوة التأويل) الفراغ ثم الامتلاء نوعا من أنواع الفراغ المعرفى قبل حلوله، يضاف غلى ذلك مساحات الأصوات المتعددة والمختلطة بين الأصوات البشرية وغيرها منتجة سيمفونية خاصة بمكان متفرد الملامح والسمات، ويكون على المتلقى أن يصطحب معه أو يستحضر السارد وهاجر من المشهد السابق إلى سياق القطار إنتاجا لدلالة يصعب تجاوزها أو يصعب إنتاج الدلالة النصية الربط بين المشهدين أو بعبارة أخرى استكمال المشهد عبر ربطه بسابقه.
- تقدم نصوص المجموعة ثلاثة مستويات للحكاية فى سرديتها : أولها تمثله حكاية غير مرتبطة بمكان أو زمان وثانيها تمثله حكاية ترتبط بالمكان الجنوبى لمجرد أنها تؤطر أحداثها بفضاءات جغرافية تنتمى للجنوب قد يتوقعها المتلقى فور معرفته السابقة بانتماء الكاتب قبل السارد خاصة وأن الساردين على دين كتابهم، وثالثها تمثله حكاية ترتبط بزمنها الممتد بعد ان تأسست على مساحة مكانية مستقرة ولو على مستوى التصور الذهنى فحسب، وهو ما يجعل من النص الواحد مستويات للتلقى يجد فيها القارئ على تنوعه مادة للتأويل والاستكشاف وهو ما يمكن تجليه من خلال الوقوف على نص واحد من مثل ” الفرس ليس حرا ” حيث الحكاية فى مستواها الأول تضعك إزاء نص يطرح مجتمعا فى حالة من الصراع الطبيعى الذى يمكن متابعته فى أية لحظة تاريخية من عمر المجتمع الإنسانى، وفى المستوى الثانى أنت إزاء نص مرتبط بمكان محدد الملامح تجده مبثوثا فى تفاصيل النصوص، مطروحا على وعى المتلقى فى محاولته الإمساك بتفاصيل العالم المسرود، وثالثها يتأسس على التقاطك لعدد من العلامات ليس أولها فقط العمدة ورسله الثلاثة الذين يتشاركون العمل أثناء الحرب على مستوى التوازى ولكنهم يتولون قيادة البلد وفق مبدأ التوالى لتدفع البلدة فاتورة قيامهم بعمل يبدو واجبا أو فريضة وطنية وهو ما يجعل النص فى هذا المستوى محيلا إلى عدد من التأويلات التى تفرض نفسها بقوة والتى تجعل من النص فى كليته نوعا من العلامة السردية الناطقة باسم الواقع ذلك الذى يفرض نفسه على التأويلات المتعددة، منها على سبيل المثال ذلك التطابق أو لنقل التشابه بين لحظة تاريخية عاشتها مصر وبين لحظة يطرحها النص مقاربا التاريخ خارج النص ومنبها إلى نطاق قد يكون جديدا على المتلقى يأخذ إليه المتلقى ويفرض عليه نوعا من