د. مصطفى الضبع
وحدها لا تتحمل أقسام اللغة العربية في الجامعات المصرية عبء العمل النقدي، وإعداد خريجين للمشاركة في تشكيل الوعي النقدي للمجتمع، وإسهام أساتذة النقد بدور أساسي في تشكيل هذا الوعي، وإنما تقع المسؤولية أيضا على أقسام اللغات وآدابها، في مصر خمس وعشرون جامعة حكومية إضافة إلى جامعة الأزهر والجامعات الخاصة مما يعني قرابة عشرين كلية للآداب وأربع كليات للألسن وأربع كليات لدار العلوم تضم جميعها قرابة ستين قسما للغات (على الأقل العربية والإنجليزية والفرنسية) خلافا لأقسام اللغة اليابانية والصينية والألمانية والإيطالية والروسية واللغات الشرقية.
نقديا تتبلور مهمة هذه الأقسام في تعليم اللغات وآدابها، وتخريج أجيال على وعي بالآداب في مجملها وهو ما يبدو عليه الأمر ظاهريا محكوما بلوائح وأهداف تعلن عن دور لا شك في قيمته، يضاف إلى ذلك دور آخر يبدو غير معلن أعني تنشيط حركة الترجمة بين العربية واللغات المختلفة وتنمية الوعي النقدي بين الأجيال اعتمادا على الدور الأبرز للجامعة بوصفها مركز إشعاع حضاري قبل أن تكون مركزا للإشعاع العلمي وهو ما يصب – بالضرورة – في صالح العملية النقدية، غير أن الواقع يطرح أسئلته الحاسمة:
- لماذا يعتقد الكثيرون أن خريج هذه الأقسام وجهته فقط أن يكون ضمن جيوش المدرسين في وزارة التربية والتعليم؟
- لماذا لا تحرص هذه الأقسام بشكل منظم ودوري على إجراء مسابقات للترجمة من العربية و إليها؟ أليس من المنطقي أن يكون للأساتذة في هذه الأقسام فرق عمل من الباحثين يكون للأستاذ فيها مدرسته في الترجمة وتلاميذه الذين يحملون المسؤولية ويكونون بمثابة المشروع العلمي الذي يكون بدوره إضافة للساحة الفكرية مما يكون له مردوده الثقافي والاجتماعي والإنساني على كافة المستويات؟
- أين المشروع العلمي للترجمة الذي من المفترض أن تضطلع به هذه الأقسام؟.
- هل هناك إحصائيات لما عملت هذه الأقسام على ترجمته خلال تاريخها الطويل ليس من اللغات المختلفة للعربية و إنما منها أيضا؟
- ماهي الخطط المستقبلية لهذه الأقسام التي من شانها حل المشكلات أو تطوير ما هو قائم أو التكريس لقيم البحث العلمي ؟
تتسع مساحة الأسئلة دون أن تحرك راكدا أو تدفع لإنجاز مشروع، لماذا؟ لأن الجامعات تخلت عن دورها في الاكتشاف والتدشين، وتخلت عن رسالتها في تطوير المجتمع المحيط، ما زلت أتذكر جيدا أحد اجتماعات مجلس الكلية حيث كان من المقرر تكليف عدد من المعيدين من أحدث الخريجين وكان علي اختيار معيد في قسم البلاغة والنقد ولم أكن أحبذ فكرة الخريج الأعلى مجموعا فقط وإنما كان يشغلني أيضا البحث عن المعيد الموهوب في النقد، أو على الأقل الذي يقبل التكليف في قسم النقد عن رغبة وليس لمجرد الحصول على وظيفة شانه شأن الكثيرين ممن يباغتهم القدر أنهم أصبحوا معيدين وتكون علاقتهم بالبحث العلمي كعلاقة جدتي رحمها الله باللغة الصينية، يومها انبرى عميد الكلية للرد بكل تلقائية قائلا بكل ما أوتي من ثقة ممكنة: “الجامعة لا يعنيها البحث عن الموهوبين” وكم كانت الجملة مفجعة حين تفكر فيما تحتمله من معان وما تتضمنه من دلالات كارثية منها على سبيل المثال :
- أن يكون السيد العميد يعبر عن رأيه الخاص دون التعبير عن رأي الجامعة وتوجهها، وهو ما يعني أنه يخالف توجه الجامعة التي يمثلها (إن كانت ترى عكس ما يراه) وما يعني أيضا أن تفكير السيد العميد وهو على رأس مؤسسة جامعية يحكم تصرفاته ويتحكم في كل ما يصدر عنه من قرارات، وهو المعني بالأساس بصناعة العقول وتطويرها.
- أن يكون السيد العميد متبنيا وجهة نظر الجامعة التي هو أدرى بها من غيره وهو ما يصعد بالمشكلة من المستوى الفردي إلى المستوى الجماعي لتكون صورة من مجتمع أعلن توقفه عن استثمار ثروته البشرية عبر المؤسسة الأهم في استثمار هذه الثروة، أعني الجامعة التي تخلت عن دورها في هذا الجانب، جانب اكتشاف المواهب وتنميتها وتقديمها منتجا صالحا لاستكمال المسيرة الإنسانية.
وسأظل أكررها بكل اطمئنان: إن تكليف المعيدين بالطريقة الراهنة أحد أسباب تراجع الجامعات وعلى المجلس الأعلى للجامعات إعادة النظر في هذا الشأن وهناك عشرات الطرائق التي سبقتنا إليها دول كبرى وصغرى أدركت أن نظام التكليف على طريقتنا حول الباحثين إلى موظفين لا يعنيهم البحث العلمي ولا يشغلهم الابتكار فقد تفوقوا بالحفظ تفوقا وهميا وجاءت عوامل أخرى لا حصر لها لتحولهم إلى ناقلين لا مفكرين، يحفظ معظمهم ما لا يفكر في فهمه واستيعابه و التجديد فيه في الوقت الذي تجد فيه عشرات من المجيدين خارج أسوار الجامعة بوصفهم طاقة مهدرة لا تستثمر.
إن مسؤولية أقسام اللغات عن الدفع بنقاد متسلحين بالمناهج العلمية لا حل لها مالم تدرك هذه الأقسام مسؤولياتها وتتجاوز عن طرائقها التقليدية في التعليم، وفي تكليف المعيدين وأن يدرك الأساتذة الكبار قبل شباب الباحثين أن التعليم ليس مجرد حشو معلومات مهما زاد حجمها ومهما بدت فعالة وهي في الحقيقة خلاف ذلك، ولأن جامعاتنا لا تهتم بوضع ميثاق علمي يكون من شأنه تكييف الأوضاع (غير المنطقية وغير اللائقة) وإن وجدت المواثيق فهي حبر على ورق، أو هي ورق حبيس الأدراج عملا بالقاعدة الأصيلة ” وجود النص يغني عن تطبيقه” .
إن مشكلة الأقسام العلمية في جامعاتنا أنها تمتلك كوادر علمية مهدرة، يتحمل خطيئة إهدارها الكبار قبل الصغار والصامتون على قوانين لم تعد صالحة لزمنها لأنها ببساطة لم تعد قادرة على مواكبة العصر الذي يسبقنا بخطوات واسعة.