د. مصطفى الضبع
مما ترتب على تعليمنا – نتيجة سياساته التلقينية الواضحة – ما يمكن تسميته بتضييق المفاهيم التي نجحت العلوم وفلسفاتها في توسيعه ليشمل نواحي الحياة الآخذة في الاتساع والتعدد، وفي مقدمة هذه المفاهيم مفهومنا عن التعليم ذاته، حيث ترسخ في أذهان الجميع أن التعليم هو فقط جمع بعض المعلومات التي يجتهد الطالب في تلقيها تمهيدا لاسترجاعها عند الحاجة (وقت الامتحان فقط ) وهو ما نتج عنه بالضرورة تضييق عقلية المتعلم، كما ترتب على هذا الشكل من التعليم (ولا أقول التعلم ) تضييق مفهوم النقد، الذي حصره مستخدموه والعاملون به في نطاق النص الأدبي فقط مما أودى بالنص إلى حالة من الانغلاق (المقيت ) وبالعقل إلى حالة من الضيق أكثر مقتا، ففي الوقت الذي يتسع فيه مفهوم النص (فالأغنية نص، والفيلم نص، والصورة نص، والنكتة نص، والمثل الشعبي نص ) في الوقت نفسه الذي تتسع فيه الحياة لتكون نصا صالحا لإجراء عمليات النقد عليه نجتهد نحن في تضييق المفهوم وهو ما ترتب عليه تضييق مفاهيم ذات تأثير، منها :
- أن العلوم لا امتداد لها في الواقع المعيش وأن مايتعلمه الطالب لاعلاقة له بما يعايشه في حياته، خذ مثالا صارخا على ذلك “النحو والبلاغة وغيرها من مقررات العربية ” تلك التي يعلن الطلاب ليل نهار أنها مقررات غير مجدية ولا فائدة من ورائها والإعلان يأتي مدعوما بتصريح واضح المعالم: وهل سنتحدث الفصحى في حياتنا لنتعلم النحو ؟ حيث يجعل الطلاب – وفق ماتعلموه وما رسخ في أذهانهم من مفاهيم – أن هذه العلوم مقصودة في ذاتها، ولم يدركوا حقيقة الأمر: العلم بمقرر ما أو تعلم علم ما ليس مقصودا لذاته، حتى وإن كان كذلك في كل العلوم فإن جانبا من تعلم علم ما ليس مقصودا لذاته بقدر ماهو مقصود لغيره، إننا لا نتعلم العلم فقط ولكن نتعرف نظامه أيضا.
- أن البلاغة قرينة النص فقط وقرينة النص القديم، وفاتهم أن البلاغة سلوك حضاري يتجلى في كل مناحي الحياة: فالبلاغة ليست نصا جميلا تتذوقه والتذوق ليس قرين النص وإنما هو قرين السلوك في القول والفعل وأن البليغ ليس هو الشاعر أو الأديب وإنما البليغ ذلك الذي يطبق البلاغة ويسمح لها أن تتجلى في كل نشاطاته وسلوكياته وتعامله مع الآخرين خلافا لما يعتقده البعض من أن البليغ ذلك الذي يحفظ مفردات علم البلاغة أو يعيد تلقين نصوص الشعر القديم.
- أن النقد مفهوم يقتصر على استكشاف الصواب والخطأ.
وفاتهم حقيقة الحقائق: أن النقد وعي، وأن هناك عددا من المفاهيم ذات الصلة، وذات التأثير: الوعي بالنقد – الوعي النقدي – الوعي بتجليات النقد في حياة الإنسان، وأنه لولا الوعي النقدي ما تطورت الإنسانية وما حافظت على مكتسباتها من التطور، دونما وعي نقدي يترسخ في وعي الفرد ويتجلى في سلوك الجماعة (لا يمكنك أن تطور مظهرك أو تحافظ عليه في شكل لائق دونما وعي نقدي يجعلك تدرك مظهرك الذي لم يعد لائقا لتغيره للأحسن أو للأفضل)، هذا الوعي النقدي ( المفتقد) كان ناتجا من النواتج الكارثية ( المنطقية ) لأنظمة من التعليم لم نفكر في تغييرها لأننا ببساطة لم نمتلك الوعي بأنها لم تعد صالحة لعصر كدنا نخرج منه (إن لم نكن قد خرجنا بالفعل ) لأننا ببساطة لم نعد قادرين على استكشاف متطلباته أو الوعي بطبيعته، هكذا دون سابق وعي بأننا لم نعد صالحين لعصر سمته التحضر وأدواته الوعي النقدي.
ولأن طفل الأمس هو مدير اليوم، وهو أستاذ اليوم، وهو مهندس اليوم، وهو مدير اليوم ورئيس المصلحة اليوم فإن ما اتبعته المؤسسة التعليمية من سياسات (….) سابقا نجني اليوم ثماره المريرة في كثير من مؤسساتنا، يتجلى ذلك في أنظمة الإدارة الكاشفة عن عقليات شديدة الضيق، فيوم أن ضاقت مفاهيم التعليم والتعلم سمحنا للعقل أن يحصل على إجازة مفتوحة طاب له فيها أن يستريح ولأنه عضو شأنه شأن أي عضو إن لم يعمل يصبه الخمول فإنه توقف عن العمل وهو ما يبلوره مشهد كالذي نعايشه اليوم من حالة الفوضى السائدة في كل مكان، تلك التي تتبلور في افتقادنا النظام في كل عمل، جرب أن تذهب لأي مصلحة، جرب أن تنزل للشارع، أو أن تستخدم مترو الأنفاق، في كل مرة من الممكن أن تجد كل شيء متاحا، شيء واحد ستفتقده كثيرا: النظام من حيث هو سلوك جيني، ومن حيث هو غريزة تعودها الناس نتيجة للتعلم القائم على أسس من تنمية العقل.
لم يعد العالم يخترع وإنما يجتهد العالم في الإبداع، وتنمية ماهو قائم (نحن لا نخترع الموبايل الآن ولكن الموبايل الذي نتعامل معه الآن ليس هو موبايل العام الماضي فالحياة تتجدد وفق منظومة دقيقة من اتساع الأفق لا من تضييقه)، ولن تبدع ولا تفكر في ذلك وأنت تعمل وفق مفاهيم ضيقة نمطية.
في كتابه الثري ” التفكير المتجدد ” يثبت إدوارد دو بونو أن التفكير النمطي قاتل لكل تجربة إنسانية، وأن المجد للتفكير المغاير للسائد، وأن عمل العقل المثمر يقوم على توسيع مجال عمل العقل ترجمة لفكرة أساسية في التطور، فكرة قائمة على القانون الأهم للحياة المتميزة: ما كان بإمكان غيرك أن يفعله لا تفعله.
وللحديث بقايا