قصص من “زغرودة تليق بجنازة”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد إبراهيم الشريف 

فضيحة

وأنا أهوي من الدور العاشر في خط مستقيم إلى الرصيف، قاصدًا السقوط أمام باب العمارة تمامًا، لأُفسد على الجميع صباحهم.

 حاولتُ التراجع، وآملت لو أعلق في زينةٍ رمضانية منسية أو تمتد يدي لفرع شجرة بعيد، لم يكن هناك شيءٌ ولا حتى حبل غسيل. المبنى أملس تمامًا وبلا نتوءات، والصبح لم يأت بعد.

 كنت أعرفُ أن أمي ستغضب جدًا، ستقول أني أحب الفضائح مثل عمتي التي أشعلت في نفسها النار ثم خرجت تجري في الشارع، ولم أولد كتومًا مثل أبي الذي تناول كميةً كبيرةً من المهدئات ودخل للنوم.

 …………………….

الزيارة

   للمرة الثالثة، في هذه الليلة، هَبَّت فزعةً تتنصتُ بشائرَ الفجر، لكنها غير المرَّتين السابقتين اعتدلت في جلستها، ومدت يدها تحت “وسادتها”، وعبثت أصابعها يمينًا ويسارًا، قبل أن تقبضَ على خيطٍ حريري قديمٍ يجمع مفتاحين معًا.

 غادرت المصطبة، وكان صندوقها الطيني نائمًا أمامها لم يستفق بعد، محتفظًا في داخله ببعض النقود القليلة، وصورةٍ لشاب في ملابسٍ عسكرية وفى يده بندقية تُشعره بالثقة في  نفسه، بينما شاربه الكث لم يمنع ابتسامته.

 بلَّلتْ المفتاح بلعابها ووضعته في قلب القفل، لم تكن تحتاج إلى ضوء لتعرف مكان الصورة التي التقطها ابنها الشاب منذ 20عاما.

 لمست ملامحه بيدها، ثم أعادت الصورة واستعدتْ لزيارة قبره.

……………………………..

 الحب جميل

 – مصابٌ بسرطان.

توقعت الامتقاعَ الذي ظهر على  وجهها، ولم أتوقع عنفها في سحب يدها من كفي.

  • سأعيد التحاليل ربما هناك خطأ.

نظرَت في ساعتها، وفتحَت حقيبتها وأغلقتها، وأعلن تليفونها وصول عددٍ من إشعارات الفيس بوك الزرقاء.

  • السرطان لا يعدي.

رجفتها بدأت من شفتيها وانتقلت إلى عنقها وواصلت الزحف تجاه بقية الجسد، وأظافرها تنقر المائدة وحذاؤها يدق الأرضَ بشكلٍ مزعجٍ.

  • ربما أختفي فى المستشفى فترة.

حاولَت أن تقول شيئًا، لكن الكلمات كانت أكثر وضوحًا منها، فهربت من لسانها وذاكرتها، وعندما رن تليفونها بنغمة “الحب جميل” لليلى مراد، كتمت صوته.

 

 ………………………………………..

أمومة

 

– قل أشهد ألا إله إلا الله.

*  أشهد ألا.. أشهد ألا إله إلا الله.

– قل أشهد أن محمدًا رسول الله.

* أشهد أن محمدًا.. أشهد أن محمدًا رسول الله.

– قل أموت على دين أبوي وجدي والمسلمين.

* آآآآآ.. أموت على دين أبوي.

– قل وجدي والمسلمين.

* وجدي والمسلمين.

كانت جدتي العجوز تضم إلى صدرها أبي الشاب، الذي مرت تسعة أشهر على مرضه. أنينُ وجعهِ يعلو على كل صوتٍ، وجسده تحوَّل إلى شبح ناتئ العظام.

هي تُلقّنه الشهادة، وهو يردد خلفها بصوته الواهن وعيناه الزائغتان. ويداه الضعيفتان تحاولان أن تحيطا كتفيها المهتزين من البكاء. 

……………………………….

حلم

 كنت عاريًا، ومع ذلك لم  أشعر بالخجل، وقد تلفَّتُ حولي بحثًا عن آخرين فلم أجد.

البيوتُ مهجورة، والأبواب والشبابيك تصفعها الريح، والطريق الذى أسير فيه مستقيم وغير ممهدٍ، وفجأة أبصرت صخرة مرتفعة بعض الشيء، فسرت إليها.

المكان بدائي، لا شيء هنا سوى حجارة ورمال وقطع خشبية قديمة أكلتها الشمس، “يبدو أنني وصلت مبكرًا” وانتظرت.  

شعرت بالملل فدرت حول الصخرة، وبالبرد فمارست بعض التمارين، وبالوحدة فرسمت قطة على الأرض، وبرغبتي فى المغادرة فأعطيت ظهري للصخرة الصغيرة وعدت في الشارع  الطويل غير الممهد، والريح لا تزال تصفع  كل شيء.

……………………………………

ثأر

يجلس على مقهى سكندري بانتظار قتله على يد صديقه، يرشفُ شايه،  بينما صديقه يبتلع الدخان، وينظران معًا إلى البحر الواسع، ونبت بينهما حوار أخير:

– ذات صباح وبعد 20عاما أدركت ألا فائدة من الفرار.

شعرت بي قريبًا منك؟

– لا.. بل جاء وقت التوقف.

– توقفت لأقتلك؟

– لأستريح.

وأنا ماذا أفعل بعدك؟!

– عد للبلدة وقل لهم أخذت بالثأر.

 – لم يتبق أحد لأقول له.. فأنا أيضا أفر بالبحث عنك.

……………………………………………………

رسائل حب

– يدكِ تستطيعُ أن تشعل العالم وقلبي أيضًا.

– أتمنى أن أتنفسكِ طوال الوقت.

– عيناكِ مرساي الوحيد في هذه الدنيا.

– أنت الحورية الوحيدة الهاربة من الجنة.

– سلمي عليَّ كي يهدأ قلبي ويطمئن.

– أنت شجرة الظل الوحيدة في حياتي.

– فقير.. لكنني غنيٌّ بحبك.

– بتسأليني بحبك ليه.. سؤال غريب ما أجاوبش عليه.

– قلبي صار ملكك للأبد.

– إحنا والقمر جيران.

أعطيت ظهري للحائط، أعيدُ قراءة الجمل العشرة التي سأرسلها بشكل يومي إلى جارتي الأرملة التي تملك طفلين صغيرين وشقة متوسطة وعملًا دائمًا وطعامًا يوميًا.  

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وقاص مصري 

المجموعة صادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ــ الفائزة بجائزة ساويرس الثقافية ـ كبار الأدباء 2025

مقالات من نفس القسم