ناصر اللقاني
تحلق بنا الكاتبة المبدعة “رضوى الأسود” عاليًا في روايتها “يونيڤيرس” حيث تأخذنا إلى عالم مخيف يبدو بعيدًا وغريبًا، تحاول أن تهدئ من روعنا، وأن تجعلنا نشعر بالألفة، ثم تتركنا لصفحات الرواية وفصولها، بعد أن تعدنا بأننا سوف ندرك الحقيقة قبل الانتهاء من قراءتها.
في البداية ظننا أننا أمام حالة كافكايسك من ذلك النوع الذي عرفناه مع جريجور سامسا في “الانمساخ” أو مع چوزف ك في “المحاكمة”، ولكننا أدركنا أنها ليست تلك السريالية والواقعية العبثية الكافكاوية.
ثم ظننا أننا نقرأ ديستوبيا من ذلك النوع الذي عرفناه مع وينستون سميث في رواية “١٩٨٤” لچورچ أورويل أو مع كاتنيس إيڤردين في ثلاثية “ألعاب الجوع” لسوزان كولنز والتي شاهدناها أيضًا في سلسلة أفلام سينمائية شهيرة، وكانت فكرة روايتنا “يونيڤيرس” تتجلى بقوة من خلال لعبة جديدة، لم تكن لعبة جوع وقتل ودمار كتلك التي قدمتها كولنز، ولكنها في المقام الأول كانت لعبة استلاب وعي الإنسان في هذا الزمن الجديد.
كان ذلك العالم يبدو بعيدًا، وكان يضم مزيجًا من عبث تلك الكافكاويات وكثافة تلك الديستوبيات، لكننا بعد قليل اكتشفنا أنه في الحقيقة هو نفسه عالمنا الذي نعيش فيه، والذي يمضي بخطىً سريعة نحو مصيره المحتوم، ويسلم نفسه لحالة وعي بديل يتشكل بإصرار شديد، ليزيح الوعي الأصلي للإنسانية الذي نشأ وتكوَّن عبر آلاف السنين من خلال تجربة الإنسان الحقيقية على هذه الأرض، وكاد أن يصل إلى قمه نضجه، في مراحل “الحداثة” و”ما بعد الحداثة”، وأخيرًا مرحلة “بعد ما بعد الحداثة” التي بدأناها وكنا نأمل أن تحقق لنا كل أحلام البشرية، لكن رضوى الأسود بهذه الرواية توقظنا من سباتنا، وتزيل مساحيق الخديعة عن وجه ذلك الوعي البديل وتخلع أردية الزيف عن مناكبه، لترينا ما نحن مقبلون عليه حقيقة في هذا الكوكب المنكوب بساكنيه.
كانت البداية مع “يونيڤيرس”، ذلك التطبيق الساحر الذي يقدم عالم بديل، كون آخر يمكننا فيه الحصول على كل ما نريد من خلال ضغطة زر بسيطة، يمكننا فيه تحقيق كل أحلامنا وتلبية كل رغباتنا، بعيدّا عن عالمنا الحقيقي الذي علينا أن نتركه يذهب إلى الجحيم، وأن نجعله فريسة لمفردات نظرية المؤامرة، والمليار الذهبي، والسبع أُسَر التي تسيطر على كل شيء، وسطوة الأديان، وسلطة المال وقوة القانون وقدرة العلم، اكتشفنا أن الوعي والعقل فقط هو آخر ما يمكن أن يتبقى لدى الناس بعد أن انتزعوا منهم كل شيء آخر، لكن بشرط امتلاك الإرادة الكافية لأن لا يتحولوا إلى مسوخ شائهة.
شهدنا بطلتنا ميريت التي أخذت على عاتقها إخبارنا بما حدث، بعد مرض ووفاة الجدة والخالة والأب والأم وتجربتَيّ زواجها، وفريد الزوج الأول ذلك الروبوت الصغير الغارق في عالم التكنولوجيا والذي يظن أن الكون هو تلك الرقميات الجافة المصمتة، وحاتم الزوج الثاني والحبيب الأول وقصة الحب والتخلي والعودة، وحتى أحمد رجل اليونيڤيرس.
حاولت ميريت أن تجد للناس على تطبيق الفيسبوك عذرًا، مشاعر الألم والحزن والتعاطف، وفضيلة الصدق والإخلاص والشجاعة، صارت جميعها خدع مصنوعة على الفيسبوك، أو في أفضل الأحوال مجرد إيموچي فارغة من المعنى، لم تعد هناك مشاعر حقيقية ولا فضائل حقيقية، لم يعد هناك سوى رذائل حقيقية، تذكرنا عندما خرجت الحقيقة من البئر تعدو عارية وسط استهجان الناس، وعندما كان الكذب يتجول مرتديًا ثوب الحقيقة وسط استحسان الناس، وأدركنا أن “الإنسان هو أخطر حيوان في العالم” يليه الڤيروسات.
رأينا عندما تكون الحياة الحقيقية والعالم كله داخل تطبيق كمبيوتر، ويكون الناس دمى تعيش في تلك الحياة وتتحرك في ذلك العالم، وعرَّفتنا ميريت بكل مفردات ذلك العالم، سحر الإيحاء، والجائحة، وتطبيق يونيڤيرس، ولوسيفر الملاك الهابط، والأديان الثنوية، والآلهة، والتكنولوجيا، والنعجة دوللي، والحمل الكيميائي، والحمام الزاجل، وألغاز سفينكس الإغريقية، كانت كل مفردات العقل والفكر والثقافة تتداعى من رأسها إلى أوراقها.
عشنا يونيڤرس النسخة الأولى وارتدينا النظارة، ثم يونيڤرس النسخة الثانية وزرعنا الشريحة، أكلنا الطعام المُهدَئ من منظمات الإغاثة، ولبسنا الواقي الوَجهي، ورأينا عندما تصبح الكتابة مجرد صرعة والقراءة مجرد موضة، وكان الناس يعيشون ذلك العالم المصنوع، وكانوا يتحولون إلى كائنات جديدة، مسوخ شائهة، وأجساد بلا روح، وجعلهم اليونيڤيرس أشبه بآلهة حمقاء:
❞ نجح “يونيڤيرس” في تحقيق حُلم الإنسان الأزليّ الأبديّ، هاجسه المضني ورغبته الأكثر إلحاحًا، منحه فرصة أن يكون إلهًا خالقًا. ❝
ضيَّعنا كل الفرص التي كانت تسنح أمامنا، لم يعد هناك إله أو دين أو قيم أو وطن أو انتماء، لا انتماء لشيء سوى اللذة، انتبهنا عندما جاءتها الرسالة الأخيرة مع الحمام الزاجل، وكانت رسالة ميريت الأخيرة لنا تقول:
❞ الوعي هو كلمة السر، والنجاة الحقيقية ❝
اكتشفنا أن الوباء لم يكن ڤيروسًا أو بكتيريا، لكنه انحراف في عقولنا، انجراف في نزعاتنا، وأن اليونيڤيرس الجديد هو لعنة تؤجج رغبة جديدة ناشئة، في العيش على هامش الحياة ووراء ستائرها وتحت حوائطها، بعد أن كنا نمشى في قارعة الطرق، ونصعد إلى قمم الجبال، ونزرع الوديان، ونجري ونلهو وتعرق أجسادنا، ونحضن الأشجار ونشم الورود، ونسبح في الأنهار، ونخوض البحار، ونفتح صدورنا للهواء، ونغني للشمس ونعشق القمر، ونحكي الحكايات في أمسيات السهر، ونلعب لعبة الحب في الليالي الجميلة، كنا نعرف أن كمال هذا الكون في نقصانه، وأن الكون ليس لوحة رسم هندسي بل لوحة فن تشكيلي، ربما تكون الأولى هي الأدق والأكمل، لكن الثانية هي الأعمق والأجمل.
انقسمت فصول الرواية إلى مجموعتين، المجموعة الأولى ذات عناوين ملهمة تحيط بمفردات الوعي الجمعي، وتُسرَد بصوت ميريت، تستخدم الضميرين الأول والثاني بحرفية متقنة، تجعل القارئ يشعر بأنها تحدثه وحده، تحكي له وحده، بلا تردد وبلا توقف، تصف له كيف صار العالم وكيف صارت الحياة قبل وبعد اليونيڤيرس، والمجموعة الثانية هي فصول مرقمة، وبصوت راوٍ عليم سنتعرف عليه لاحقًا، يروي أصل الحكاية، ويلملم أطرافها المتناثرة من سرد ميريت، يستخدم الضمير الثالث، يحكي كيف وصل العالم إلى هذا المشهد، إلى هذه النقطة المربكة، إلى هذه الحكاية التي ترويها ميريت، ويظهر الراوي في الفصل الأخير المفترض، ليستخدم أيضًا ضمير المخاطب، كما استخدمته ميريت من قبل، بعد أن طرح أوراقها وحكى لنا كل الحكاية، ثم منحنا الأعشاب الأخيرة، ومنحنا معها الأمل، وبيان دولة “فلوسينيا”.
الرواية هي رحلة بحث عن كل المعاني الحقيقية، الحرية والسعادة والعطاء والعدل والمسؤولية، وأخيرًا هي رحلة بحث عن الوعي الحقيقي الذي به نجد معاني الحياة.
❞ على الرغم من قسوة الوعي، فإنه أفضل من الجهل ❝
تحدثت الرواية عن تطبيق “يونيڤيرس” الذي سحب الناس من “فيسبوك”، وكأنها تنبأت بالقادم الجديد “ميتاڤيرس”.
تلاعبت رضوى الأسود بتقنيات البناء والسرد ببراعة شديدة، واستدعت القاري إلى داخل الرواية ليكون أحد شخصياتها، شخصية المروي له، سلمته إلى ميريت، ثم إلى الراوي، فصارت الرواية هي نفسها تطبيق يونيڤيرس، عندما دخلنا الرواية أو اليونيڤيرس، انفصلنا عن العالم الحقيقي، وعندما جرت الأحداث وتفرعت، عشنا معها بالكامل، وعندما كانت ميريت تكتب أوراقها لتتركها لنا، شعرنا أنها تكتب بأصابعنا، وتتحدث بألسنتنا، وتفكر بعقولنا، وترتجف بمشاعرنا، وتخاف بقلوبنا، وتنتظر النهاية بنفوسنا، وفوق كل ذلك شعرنا أنها تستخدم وعينا الجمعي في إنقاذ ما تبقى من البشرية.
انتبهنا، وقد خرجنا من “يونيڤيرس” الرواية، لنجدهم قد أعدوا لنا يونيڤيرس جديد أو “ميتاڤيرس”، فهل سنكون من سكان الميتاڤيرس أو من سكان فلوسينيا، أم سنبحث عن حلّ وسط.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب مصري، الرواية صادرة عن دار العين 2023