سلم خشب

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
حين انتهيت من دراستي الجامعية سعيت للفوز بالسفر إلى الولايات المتحدة، في البداية جئت لثلاثة أشهر للزواج من شاب عربي وبعدها أصبحت بلا إقامة، ببساطة لن يتزوج أحد مفلسة،

تاميران محمود 

 كنت بحاجة إلى المال ولا أجد إلا خواء محفظتي يتطلع إليَّ في كل مرة أنظر داخلها، خطواتي متعثرة وثقيلة، متورمة القدمين والبطن صداع يقتلني، أجرُّ خطواتي إلى قاعة الاستقبال، أنتظر دوري لمقابلة الطبيب وأتنفس ببطء

‫ – ميس دويك
‫ تناديني الممرضة بصوتها الرفيع أتبعها إلى غرفة الكشف، تقيس حرارتي ووزني، ويكشف عليَّ الطبيب مراجعًا كل البيانات على جهازه، يسألني وأجيبه أُحقَن كل ليلة في نفس الميعاد، أشعر بالصداع والرغبة في القيء طوال الوقت «متى سأنتهي من كل هذا؟»

 قلتها وابتلعت لساني قبل أن ينزلق بالسؤال عن التعويض ‫ كان الطبيب يتابع بأشعة السونار أمامه مدى نضج بويضاتي الخمس التي يجب أن أتركها له عند مجيء الأسبوع الخامس العشر.
‫ قال بحياد ولا مبالاة: «الأمور مطمئنة بالنسبة لك، وهي كذلك أيضًا بالنسبة للأم. أصبحتِ مهيأة تمامًا. يمكننا السحب خلال الأسبوع القادم. سوف أحدد لك الميعاد. نسقي مع التمريض وتذكّري جيدًا: ممنوع الكحول والممارسات الجنسية بكافة أشكالها».
‫ خرجت من أمامه متعكرة المزاج، أسير بخطوات بطيئة ومنتفخة، أنزل سلم المستشفى ببطء، وما إن عبرت المكان المخصص لركن السيارات حتى فاجأني
صوت من خلفي:
‫ – سارة، انتظري ‫

نظرت من وراء نظارتي الشمسية وجدته بوريس رجل البويضة المنتظر، ينتظر هو وزوجته ليحصلا على بويضاتي بعد أيام في محاولة منهما للإنجاب، تسمّرت مكاني اقترب مني مسرعًا ليسألني عن أحوالي ‫

 – مزاجي سيئ وجسدي متورم ومليء بالكدمات، وفوق كل هذا مفلسة وجائعة طوال الوقت ‫

– لا لا لا يمكن. أرجوكِ اصعدي للسيارة. ‫

قالها بوريس باهتمام حقيقي افتقدته منذ زمن ‫ انزلقت في سيارته، واخترق هو طرقات المدينة على مهل، طلب زوجته للحاق بنا في أحد مطاعم الكباب الشهيرة بوسط المدينة جلست أمامه أسندت رأسي على كفي وقلت بيأس:

«متى ستدفع لي؟».
‫ ابتسم ولم يجبني، بل همس بهدوء: «سأطلب لك الطعام الآن وسأنتظر أنا ستيفاني».

‫ وجدت أمامي كوبًا من عصير البرتقال، وطبقًا ضخمًا من سلطة الخضار، بدأت أشعر بالراحة مع أولى رشفات العصير البارد.
‫ دخلت ستيفاني برشاقة ومزاج جيد أحسدها عليه، وضعت يدها فوق كفي وقالت بمرح:
‫ – ها أنت أخيرًا معنا، لقد وقعنا كل الأوراق بالأمس.
– حسنًا. متى ستدفعان لي التعويض؟ ‫
– غدًا لو أردتِ ‫
قالتها ستيفاني ببساطة

‫ خمسة وأربعون ألف دولار مبلغ عظيم لفتاة مرتبكة مثلي، حين انتهيت من دراستي الجامعية سعيت للفوز بالسفر إلى الولايات المتحدة، في البداية جئت لثلاثة أشهر للزواج من شاب عربي وبعدها أصبحت بلا إقامة، ببساطة لن يتزوج أحد مفلسة، كنت أتنقل بين أماكن مختلفة، وأعمل دون غطاء حكومي مهددة بكل السبل حتى تعرفت على بوريس مصادفة تزوج بوريس من ستيفاني ولم يستطيعا الإنجاب، خاصة مع تقدمهما بالعمر ‫ كان العرض بسيطًا وواضحًا، سوف أتبرع لهما بالبويضات الناضجة لينجبا طفلهما أرادا اختبار مشاعر الأمومة والأبوة وأردت أنا المال، إذن فلنجعلها صفقة رابحة للطرفين.
‫ في المركز خضعت للكشف الطبي والنفسي والجيني، وتلاءمت مع بوريس بشكل كبير، وتمت ملاءمتي مع ستيفاني بشكل جيد، تكفلا برعايتي وبالمصروفات الطبية، والآن اقتربت من خط النهاية كثيرًا.
‫ – انظري يا سارة، كل ما نقدمه لك أنتِ تستحقينه تمامًا، ولذلك يمكنك الإقامة معنا هذا الأسبوع وسوف نعتني بك حتى نسحب البويضات وتتم العملية كلها، يجب أن تتجنبي أي توتر. ‫

قالها أحدهما وكنت أنا في عالم آخر أبتلع الطعام دون رد، أخذت ستيفاني تتشارك وزوجها حوارًا لا أهتم له فكرت قليلاً في حالي، أحظى الآن بوجبة طعام ساخنة حُرمت منها منذ فترة طويلة، ولديّ عرض بإقامة غير مدفوعة لأسبوع، إذن لا مشكلة ‫ بعد الغداء توجهت معهما إلى بيتهما، تأملت موقع البيت، كان المنزل يقع في حي راقٍ من تلك الأحياء التي تتمتع بالأشجار المصفوفة على جانبي الطريق، والكلاب تمرح في حدائق المنازل الواسعة ‫ غلب على البيت من الداخل اللون الأبيض في كل شيء، تشعر بأنه يشع نورًا من كل قطعة أثاث، هناك درج خشبي يقودك إلى الطابق العلوي، صعدت وراء بوريس، قادني إلى غرفة مُعدّة للضيوف لها إطلالة رائعة من النافذة.
‫ – سارة، أنتِ تقدمين من أجل أسرتي تضحية كبيرة، وسوف أوفر لك وظيفة دائمة.
‫ قالها بوريس بود حقيقي.
‫ شكرته واستلقيت على السرير أفكر في الصدفة التي جعلتني أقرأ إعلانه. كانت فاتحة خير، ولن أفقد سوى بويضات مهدورة بشكل شهري دون مقابل.. الآن أصبحت تلك البويضات ذات معنى.
‫ بوريس محاسب ويفوز بدخل سنوي محترم، وستيفاني تدير مشروعًا تعليميًّا خاصًّا بها، حياة مستقرة وميسورة، ولكنهما يرغبان في الأطفال، حين سألتني ستيفاني عن مدى رغبتي في طفل كانت إجابتي واضحة: «لا أطفال ما دمت مفلسة» ‫

توجهنا إلى المستشفى بعد أسبوع، خضعت للكشف، وبعدها قرر الطبيب سحب البويضات التي نضجت وتسببت في تضاعف حجمي، كانت إبرة المخدر خلاصًا لي من التفكير حين استيقظت كنت في غرفة نظيفة وهادئة، والمحاليل معلقة فوقي، وستيفاني إلى جواري تشجعني ‫ تم كل شيء أثناء نومي، وبعد أيام سيتم زرع البويضات المخصبة في رحم ستيفاني لتحظى المسكينة بطفلها، أما بوريس فكان منتعشًا ومرحًا، أخذ يشكرني بصدق أوصلاني إلى مكان إقامتي ومنحني بوريس شيكًا بالمبلغ، وأكد لي أنني سأبدأ وظيفتي يوم الخميس ‫ قضيت ساعات مؤلمة لم يُفلح معها المسكن، رقدت في سريري الصغير أستشعر البرد حينًا والحر يلفحني بعدها. أعرف هذه الأعراض وسأصبر حتى زوالها، صدق بوريس في سعيه، وحظيت بالوظيفة وأصبح لدي مبلغ محترم أرتكن إليه، خشيت التواصل معهما بعد ذلك، وبدأت أفكر في حياتي بشكل منظم.

‫ لم يكن العمل صعبًا، ساعات محددة في مكتب عقارات يوفر لي دخلاً محترمًا، انتقلت إلى مكان إقامة مستقل يخصني وحدي في منطقة تتميز بالهدوء. قبل إتمامي الرابعة والعشرين تلقيت اتصالاً من بوريس يطلب مقابلتي على وجه السرعة، قلقت من نبرة صوته المتوترة، ولكني قابلته في الموعد.
 ‫ – ستيفاني تريد طفلاً آخر، ولكنها تسعى لتأجير رحم هذه المرة ‫

– وما علاقتي بالموضوع، لقد تركت لكم بويضات مجمدة لم تتجاوز مدتها، يمكنكم استخدامها ‫
– الحقيقة لقد فكرت فيك، سوف أدفع لك المبلغ الذي ستحددينه، اعتبري نفسك في وظيفة لتسعة أشهر أو لو أردت لعامين ‫
– لن تدفع لي، ولن أقوم بهذه المهمة أبدًا ‫
انتهت المقابلة بعد محاولات متكررة من بوريس لإقناعي، ركبت سيارتي وذهبت إلى البيت، كيف تظن ستيفاني أني سأقبل بتأجير رحمي؟ ‫ بعد أيام وجدت مكالمة من ستيفاني، لم أرد وتركت البريد الصوتي يستقبلها تطلب مني رد الاتصال في أقرب وقت. تجاهلتها.

‫ أرسلت لي رسالة تحمل خمس صور لطفلتين صغيرتين تلعبان في منزل بوريس وستيفاني.
‫ – طفلتان!
‫ أشهق من مفاجأة لم أتوقعها.
‫ في مساء ليلة الأحد هاتفت ستيفاني، لم أصبر على فضولي، أخبرتني أنها رُزقت بتوأم وتريد أن تستأجر رحمي لألد لها ولدًا أو اثنين.
‫ – ما رأيك سنتغدى معًا غدًا بالمنزل، ستلعبين مع إيميلي وأماندا.. قطعتان من السكر الملون، ستحبينهما  جدًّا ‫

أحبهما؟! تعجبت لدعوتها، خاصة أنه يحظر عليَّ بأي شكل إعلان قرابتي البيولوجية مع الطفلتين، الآن أدركت أن بويضاتي المدفوعة صنعت طفلتين ليستا لي ‫ كنت مملوءة بالفضول، لم أكذب خبرًا وذهبت لأراهما، يبدو على البيت بعض الفوضى الطفولية لم يعد بنفس الأناقة الباردة التي رأيتها هنا من قبل، أصبح أكثر حميمية وباتت تدب فيه الروح؛ ألعاب مُلقاة هنا وهناك، زجاجات اللبن تشغل رخامة المطبخ، زاد وزن ستيفاني زيادة ملحوظة، وبات السلم الخشبي مغلقًا من الأعلى بحاجز، ومن الأسفل بآخر يبدو أن البيت المنظم لم يعد كذلك ‫ رأيت إيميلي أولاً، لها ابتسامة ساحرة، وسِنّة وحيدة في فمها صغيرة جدًّا، أماندا خجولة بشعر ذهبي، وهو الفارق الوحيد بينها وبين توأمها، صاخبتان وناعمتا الملمس ورائحتهما كالكراميل، كنت ألاعبهما بحذر في البداية، ثم زال الحذر مع ضحكاتهما.
‫ تذكرت الليلة التي جئت فيها إلى هنا ليضمنا راحتي قبل التبرع، أرى أمامي الآن ما منحته لهما بإرادتي، منحتهما روعة الحياة في البيت الكبير. روعة لم أشعر بها من قبل؛ دغدغة بقلبي حين تسقط إحداهما أو تتذمر.
‫ – ابنتاك رائعتان يا ستيفاني.
‫ قلتها ناظرة مباشرة في عينيها.
‫ ابتسمت وشكرتني، ثم سألتني بصراحة: «هل فكرتِ؟!» ‫
 – أنا أرفض العرض ‫
– لماذا يا سارة؟ ما مشكلتك؟ سأعوضك عن تعب الحمل كله، لا تخشي شيئًا، أريد ولدًا أو اثنين، أنا أحب الأطفال وأنت بصحة جيدة ‫

– اسمعي يا ستيفاني، حين منحتك بويضاتي كنت لا أملك سوى هذه الطريقة لأعيش، كنت بحاجة إلى المال لم أدرك قيمة ما منحتك إياه، ولكني الآن أدركت منحتك ذاكرة وحبًّا وروحًا جديدة تتوق إلى النجاح والتحليق، باختصار منحتك مشروع حياتك الحقيقي؛ لن أهدر فرصي الشهرية مجددًا من أجل المال سأحظى بنصيبي من هذه الحياة ‫

 أوليتها ظهري واتجهت نحو الباب، أنظر إلى الطفلتين للمرة الأخيرة وهما تواصلان لعبهما في صخب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاصة مصرية، المجموعة صادرة عن بيت الحكمة للثقافة 2024

مقالات من نفس القسم

عبد الرحمن أقريش
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

ألم