عُنقود الأحلام .. من مجموعة “ذات السيارة الحمراء”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
نهضت مسرعة وحاولت اللحاق بأحلامها قبل أن تطير مبتعدة، وأخذت تجمعها حلمًا تلو الآخر، وكلما أمسكت بحلم تلتصق فقاعته بفقاعة الحلم الذي في يدها، وكلما كثرت الأحلام تقلص حجمها وتجمعت بجوار بعضها مثل العنقود المفعم بالألوان والصور الصغيرة التي تتحرك باستمرار مستكملة أحداث الحلم.

سلوى سيد 

 جلست تتأمل البحر أمامها وتستمع إلى همسات أمواجه المتمهلة بينما تأخذ أنفاسًا بطيئة تساعدها على الاسترخاء.. هي تحب زيارة البحر في هذا الوقت من العام لتستمتع بوحدتها على الشاطئ شبه الخالي من صخب المصطافين  مما يساعدها أن تحظى بغفواتها القصيرة المُحببة.

أسندت رأسها للوراء وأغمضت عينيها وأصغت السمع لهمس الأمواج الذي بدأ يحيط بها من كل جانب، وخلال دقائق ذهبت في رحلة أحلام فريدة ومختلفة عن رحلاتها اليومية المعتادة.. تلك الأحلام تراها فقط عند البحر على أنغام أمواجه الهادئة.

هناك هي دومًا أجمل وأخف، أكثر رشاقة وحيوية ومفعمة بالحياة التي تفتقدها حتى في أحلامها العادية.. فهي تحيا حياة روتينية تتكرر أحداثها المتشابهة كل يوم، أيامها باهتة بلا طعم تتحملها مُرغمة لتنتهي من اليوم وتبدأ غيره بنفس الأحداث والشخوص..

منذ سنوات كانت أحلامها هي خلاصها اليومي الذي يساعدها على احتمال الساعات الثقيلة خارج المنزل وداخله، وكانت غرفتها هي ملاذها الآمن الذي تحتمي فيه من كل المنغصات اليومية.. لكن مع الوقت بدأت تلك الأحلام تفقد زهوتها وجمالها، كما فقدت خيالها الممتع ودون الخيال بهتت الأحلام وأصبحت شبيهة بحياتها اليومية بأحداثها وشخصياتها. وتحولت إلى حكايات متكررة ومملة حتى إنها كانت تتنبأ بأحداث الحلم بمجرد بدايته..

وبالمصادفة اكتشفت أن أحلامها بصحبة البحر متجددة ومختلفة وفيها كل ما تفتقده وأكثر بكثير، حتى إنها فاقت أحلامها القديمة في الروعة والخيال. فأضافت عادة جديدة إلى عاداتها الروتينية، لكنها عادة مُحببة وممتعة وهي زيارة البحر كلما أُتيحت لها الفرصة لتعيش داخل أحلامها كل ما تفتقده وتتمناه.

 

لكن تلك المرة احتشدت الأفكار داخل عقلها وتزاحمت مع الأحلام الملونة الجميلة فرأت الأحلام تفر هاربة من عقلها المزدحم إلى الفضاء الواسع من حولها.. فتحت عينيها بفزع وهي تشعر أنها ستفقد أحلامها مرة أخرى، ولدهشتها رأت الأحلام كلها تسبح فوقها وحولها في كل مكان، كل حلم يحيط به ما يشبه الفقاعة الشفافة..

نهضت مسرعة وحاولت اللحاق بأحلامها قبل أن تطير مبتعدة، وأخذت تجمعها حلمًا تلو الآخر، وكلما أمسكت بحلم تلتصق فقاعته بفقاعة الحلم الذي في يدها، وكلما كثرت الأحلام تقلص حجمها وتجمعت بجوار بعضها مثل العنقود المفعم بالألوان والصور الصغيرة التي تتحرك باستمرار مستكملة أحداث الحلم.

انتهت أخيرًا من جمع كل الأحلام وجلست تنهج من فرط التوتر والإنهاك.. التقطت أنفاسها للحظات ثم بدأت تتأمل عنقود الأحلام بين يديها، كانت مأخوذة بجماله ودقة صوره.. رأت أحلامًا تتذكرها جيدًا وأحلامًا جديدة لم تزرها بعد فأصبحت متشوقة أكثر لتعيش تفاصيلها وفي الوقت نفسه انتابتها الحيرة.. ماذا ستفعل الآن وكيف تعيد تلك الأحلام إلى عقلها مرة أخرى حتى لا تضيع منها للأبد!

استغرقت في حيرتها وهي ممسكة بأحلامها بحرص شديد.. وفجأة انفجرت فقاعات الأحلام وتناثر عنقود أحلامها في كل مكان..

استيقظت مفزوعة وهي تصرخ وتتلفت حولها باحثة عن أحلامها الضائعة، وبعد لحظات بدأت تهدأ لتكتشف أن كل ما عاشته كان مجرد حلم آخر من أحلام البحر الغريبة وغير المتوقعة.

جلست مكانها تحاول تجميع شتات نفسها، فهي تشعر أنها قد تبعثرت مع عنقود الأحلام الذي ما زالت تشعر بملمسه الناعم بين يديها.. مضت ساعة كاملة وهي ثابتة مكانها لا تتحرك، تحدّق في البحر أمامها ويزدحم رأسها بكل الأفكار التي طردت أحلامها في ذلك الحلم الغريب.

رأت أمامها شكل حياتها الباهت وأفزعها ما رأت، حتى إنها لم تجد سببًا يجعلها تستمر في هذه الحياة البائسة.. وبعد ساعة أخرى من التفكير الصامت وقفت أخيرًا واتجهت ناحية صديقها البحر الذي وهبها أجمل الأحلام، وأخذت تتوغل بداخله وهي تقاوم برودته الشديدة حتى شعرت به يستقبلها ويحيط بها من كل جانب..

أغمضت عينيها وحاولت تنظيم أنفاسها المتلاحقة بسبب برودة الماء ثم أخذت تحرك يديها حولها وتشعر بالمياه تتخلل أصابعها وكل مسامها..

وعندما فتحت عينيها رأت خيوط ألوان سوداء ورمادية وبنيّة تحيط بها من كل جانب، أفزعها ما رأت وتلفتت حولها لتعرف مصدر تلك الألوان.. ولدهشتها كانت الألوان تنبعث من جسدها هي وكأنها تخرج من مسامها إلى مياه البحر الباردة كالثلج..

لم تفهم ما يحدث لكنها بدأت تشعر بأن روحها أصبحت خفيفة مثلما كانت دومًا في أحلامها الملونة، كما شعرت بسعادة تغمرها طالما حلمت بها وكأن البحر قرر أن يساعدها على غسل روحها من كل ما أثقلها على مر السنين لتعود كالطفلة المقبلة على الحياة بحب وسعادة ورغبة في تغيير حياتها والتخلص من كل ما أثقلها وصبغها بكل تلك الألوان القاتمة والباهتة التي تخرج من مسامها لتختفي وتذوب في المياه من حولها.

استلقت على ظهرها فوق مياه البحر وتركت جسدها لأمواجه يهدهده على مهل ويخلص روحها من كل هموم الماضي، حتى اختفت تمامًا كل الخيوط الباهتة التي أحاطت بها واستعاد البحر صفاءه واستعادت هي ابتسامة كانت قد فارقتها منذ سنوات وسكنت فقط داخل أحلامها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاصّة مصرية، .. والمجموعة تصدر عن دار المحرر .. معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025

مقالات من نفس القسم