بسمة حسن
شاهدت مؤخرًا الفيلم الأمريكي “الليل يأتي دائمًا -“Night always comes المقتبس من رواية بالاسم نفسه للكاتب الأمريكي ويلى فلاوتين (Willy Vlautin) الصادرة عام 2021م، وقد أُنتج الفيلم هذا العام وقام ببطولته فانيسا كيربي (Vanessa Kirby) “لينيت”، وزاك جوتسجن (Zack Gottsagen) “كيني”، وجينيفر جيسون لي (Jennifer Jason Leigh) “دورين”، وستيفن جيمس (Stephen James) “كودي”، ومايكل كيلي (Michael Kelly) “تومي”، تأليف سارة كونرادت (Sarah Conradt) وإخراج بنجامين كارون (Benjamin Caron)، وفي أثناء مشاهدتي للفيلم تذكرت على الفور فيلم المخرج الراحل عاطف الطيب (1947-1995م) “ليلة ساخنة” إنتاج عام 1994م، قصة وسيناريو رفيق الصبان، الذي قام ببطولته كل من نور الشريف ولبلبة في أفضل أدوراهما، بجانب عزت أبو عوف وسيد زيان وسلوى عثمان وآخرين، وقد أدت فانيسا في الفيلم الأمريكي واحدًا من أفضل أدوارها وأنضجها، وهو دور يكاد يجمع ما بين دوري الشريف ولبلبة، ليس هذا فحسب فقد تشابهت العديد الأحداث والظروف ما بين الفيلمين لدرجة جعلتني أتخيل أن الأمريكان اقتبسوا منا ليلة الطيب الساخنة.
يحكي فيلم “Night always comes” عن نادلة تعيش في إحدى المدن الأمريكية (بورتلاند) بولاية أوريجون مع والدتها وأخيها الأكبر الثلاثيني المصاب بمتلازمة داون، تغرق في الديون فيُحجز على منزلها، وتقضي ليلة بأكملها تصارع من أجل جمع مبلغ الدين وهو 25 ألف دولار لإنقاذ بيتها، وتبدو القصة بسيطة حتى نتعرف تدريجيًّا على ماضي هذه المرأة منذ الصغر في عملها بالدعارة وهي في سن السادسة عشرة من عمرها، ومعاناتها في تدبير معيشتها ومراعاة أخيها والتأقلم مع والدتها، وتدبير المال اللازم للاحتفاظ بأسرتها ومنزلها.
في هذا الفيلم نرى وجهًا آخر للحياة الأمريكية، الوجه القبيح الذي لا تظهر فيه المرأة مرفهة أو سيدة أعمال أو أن كل ما يشغلها السفر ومستحضرات التجميل وآخر صيحات الموضة والتمدد داخل حوض الاستحمام، ولكن المخرج هنا قدم أحد أقسى أشكال الأفلام الواقعية الأمريكية من خلال تجسيد حياة فتاة تعمل في ثلاث وظائف أحدها عاملة جنس لتحتفظ ببيتها وأخيها خاصة بعد أن قصدت أمها التخلي عنها معللة ذلك بعصبية البطلة وتقلباتها المزاجية وعدوانيتها واندفاعها، وهو ما دفعها لصرف مبلغ السداد كاملًا على شراء سيارة، وهو المشهد الذي مهَّد للنهاية السوداوية للفيلم، وهي الحجز على البيت وانهيار الأسرة ورحيل البطلة بحثًا عن الخلاص الفردي، لنرى جميعًا أن الحلم الأمريكي الذي يروِّجون له لم يكن سوى كابوس، وأن العمل لضمان الاستقرار المادي والأسري مجرد كذبة في أمريكا، نرى وجهًا آخر كذلك للسينما الأمريكية بعيدًا عن الإنجازات الزائفة والبطولات الخارقة وواجهات الناطحات اللامعة التي تدفن أسفلها بنايات الفقراء.
دار “ليلة ساخنة” أيضًا في ليلة واحدة داخل القاهرة، تحديدًا ليلة رأس السنة، حاول فيها “سيد” سائق التاكسي تدبير ثمن عملية لأم زوجته المتوفاة، وهو أيضًا كان أبًا لطفل مصاب بمتلازمة داون، تقوده الصدفة لمقابلة “حورية” فتاة الليل التي خرجت لتدبير أموال ترميم منزلها المهدد بالسقوط، إلا أنها تقع ضحية لبعض زبائنها بعدما سرقوا أموالها لتستعين بـ”سيد” لمساعدتها وتتوالى الأحداث والمفاجآت التي تنتهي رغم المآسي التي شهداها لصالحهما بعد عثورهما على حقيبة مليئة بالأموال قرر الطيب أن تكون من حقهم.
ورغم أن الفيلمين يفصل بينهما نحو ثلاثين عامًا، ورغم اختلاف السياقين فإنهما يصوران رحلة إنسانية داخل ليل المدينة، الذي لا يعد مجرد زمن ولكنه مرآة كاشفة لليل صاخب وقاهر في القاهرة يكشف زيف الاحتفال، وصامت وعنيف في بورتلاند يكشف الحداثة الزائفة، ومن القصة نستطيع تلمُّس العديد من نقاط التشابه مع فيلم “ليلة ساخنة” من حيث الشكل والموضوع، فكلا الفيلمين واقعيان يرصدان واقعًا مظلمًا في ليلة مثلت لأبطالها صراعًا للبقاء على قيد الحياة، ويدوران في ليلة واحدة كإطار زمني محدود ومكثَّف، خلق نوعًا من الأجواء المشحونة والضغط النفسي ناسب أحداث الفيلمين المتسارعة والمأزومة، وسعى أبطالهما لجمع المال وتدبيره للخروج من أزمات ومشكلات أسرية واجتماعية ونفسية ضاغطة.
المدينة الضاغطة والليل الذي يكشف الوجه الآخر لها والاعتماد على سيارة في التحرك وعبء ذوي الاحتياجات الخاصة ومعاناتهم وبراءتهم التي تفضح التوحش عناصر جمعت ما بين الفيلمين أيضًا، فالأبطال جميعًا خرجوا في رحلة مسائية محفوفة بالمخاطر، جسد ليل المدينة فيها طريقًا عثرة مليئة بالمفاجآت، خاصة أن الليل والظلام ملجآن للأعمال المشبوهة والمواجهات الخطرة والخارجين عن القانون والمطحونين والمهمشين في المجتمع ممن لا يكفيهم عملًا واحدًا، فيُقذفون يأسًا إلى حواف الشر والجريمة.
وإن كشف فيلم “Night always comes” عن شيء فهو يكشف عن التحولات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع الأمريكي وسياقه المعاصر الذي جعل اليوم من تدبير العيش والسكن والشعور بالأمن والاحتفاظ بالأسرة والهوية معركة انتهى الفيلم إلى أنها معركة خاسرة تفقد فيها البطلة الإيمان بكل قيمة، ولا تجد بدًّا من العبث بكل القيم في سبيل تحقيق مآربها، فتسرق وتبيع المخدرات وتعود لممارسة مهنتها القديمة غير عابئة، فيصبح أي معيار أخلاقي ضربًا من ضروب الحماقة أمام مدينة تتخلى بالكامل عن أبنائها، أمام أناس لم يعد يعني لهم عدم التمسك بقيمة الأسرة أمرًا كارثيًّا عليهم أن يحاربوا من أجله، ومن هنا تختار البطلة في النهاية النجاة الفردية، ولكنها تخرج في الحقيقة ناجية مهزومة في رحلة أخرى إلى المجهول.
اعتمد الفيلمان كذلك على شخصيات من الطبقات المطحونة والمهمشة المنسية في المجتمع، يعيشون في فقر ويعانون من صعوبات اقتصادية واجتماعية، يشعرون بالعجز وقلة الحيلة، ولا يستطيعون تدبير المال اللازم لحل مشكلاتهم وتلبية أبسط احتياجاتهم، ما يدفعهم للخروج في الليل غير عابئين بوحوشه، فـ”Night always comes” يرصد مشكلة باتت تهدد الكثير من الأمريكيين وهي التشريد وإقصاء الطبقات العاملة الكادحة وارتفاع الأسعار، فسعي “لينيت” لإنقاذ منزل أسرتها هو رمزية لسعي أكبر نحو الشعور بالأمان والهوية والانتماء والحميمية التي كفرت بها جميعًا في نهاية الفيلم ومقاومة للآلة الرأسمالية التي تهدد وجودها، خرجت “حورية” أيضًا في “ليلة ساخنة” مضطرة للعودة إلى ماضيها الأسود للاحتفاظ بمنزلها وحمايته من الهدم، فانكشاف الستر والتعرية الحقيقية لها هي ألا تكون بلا منزل مقاومة واقعًا طبقيًّا وسقوطًا أخلاقيًّا يسحق إنسانيتها، “سيد” دخل صراعًا أخلاقيًّا بمقابلته “حورية” ومساعدتها، وكان في صراع مع نفسه والقدر لإنقاذ ما تبقى له من رائحة زوجته، فبات يخرج هو الآخر ليلًا إلى المجهول ليجمع الأموال التي يمكنها أن تنقذ والدته الثانية من الموت من أجله وأجل طفله الصغير، وبعيدًا قليلًا عن ثنائية الرجل والمرأة، فهنا أتحدث عن أحوال تسحق جميع الضعفاء والمهمشين والمسحوقين رجالًا ونساء.
ومع انتهاء الليلتين لا يبزغ الفجر مكتملًا، ولكن تبقى سينما الطيب مثله “طيبة” تحمل دائمًا لمسة أمل وتفاؤل، فمهما بدت الأحداث مأساوية نجد لمحات نابضة بالحب والحياة والدفء الإنساني، فنشهد لحظة صادقة بين رجل وامرأة جمعتهما همومهما وإصرارًا على الحياة، بينما بدا الفيلم الأمريكي أكثر عنفًا وسوداوية وبرودًا رغم استطاعة البطلة أن تأخذ موقفًا لمواجهة العالم بشجاعة ولكن هذه المرة باحثة عن نفسها، فقد منح الطيب أبطاله وشخصياته صوتًا جماعيًّا يعكس أزمة العدالة الاجتماعية وهموم المجتمع المصري الذي يستطيع بروحع العنيدة دائمًا أن يجد نورًا وسط الظلام، نور نابع من طبيعته الأصيلة، فالواقعية المصرية تدين الظلم وتترك نافذة للرحمة، أما بنجامين كارون فقدم مقاومة فردية تمثل عزلة الإنسان الأمريكي المعاصر ومأزقه الوجودي، ومثَّل المهمشون في العملين مرآة للعدالة الغائبة في مجتمع مأزوم وواقع ضاغط داخل مدينة بلا قلب، تبتلع ناطحاتها بناياتها المتهالكة وساكنيها في تجلٍّ لأقبح صور الرأسمالية الحديثة، ومع ذلك يبقى تساؤل الفيلمين واحدًا، وهو كيف نعيش في عالم يزداد توحشًا وقسوة دون أن نفقد إنسانيتنا!.





