قصائد من “من النهر إلى البحر” لــ سامر أبوهواش

سامر أبو هواش
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سامر أبو هواش 

جالساً أمام التلفزيون أشاهد الإبادة

 

أردتُ أن أقول الرحمة لكنّ سخرية كثيرة صخبت في كلّ شيء وكانت عُلب الرحمة تحفّر الدروب المتماحية لكنها ظلّت فارغة إلا من حشرات غريبة الوجوه ولها أثداء تترهّل من فم الجحيم والصدى الوحشيّ بطانة الرأس وحشاة العين وسويداء القلب ووحشة الروح وأردت أن أقول

أردتُ أن أقولَ الحزن فهبّت في وجه روحي أشياء شعواء لا اسم لها وأشياء أخرى مجهولة النسب أيضاً ورؤى ملائكة ضلّت طريقها ولستُ إلا الواقف منذ الأزل على جانب الطريق بانتظار حافلة تقلّني من هذا الأسى وأردت أن أقول

أردتُ أن أقولَ الجريمة الجريمة الناصعة الجريمة المركّبة الجريمة الكاملة الأيدي المرفوعة القبضات المضمومة كلّ الآلهة الناقمة في قبضة واحدة في زعقة تفجّر الأدمغة على الأرصفة تقود الدماء المسفوكة إلى أفواه الكائنات الجائعة في الأسفل وأردت أن أقول

أردتُ أن أقولَ الجنون رؤى الحتف إبصارات التهلكة سترات نجاة طعام يوم كامل وليل وأحلام ليلة سعيدة واللحم ليس ما يتعفّن في تلك العلب المضيئة بل ما يسيل ويذوب ويظلّ عالقاً على الجدران وأسود ودامس السواد وأبديّ وأردت أن أقول

أردتُ أن أقولَ الصرخة وفي الحلق لا عويل ولا عويل الصمت حتى ولا عويل ما بعد الصمت وليس في الكائنات ما يجعل قبضة الموت تخرج من الحلق مرة وأخرى وإلى الأبد وأردت أن أقول

أردتُ أن أقولَ اللعنة

وهل ثمة، بعد اليوم،

أنت،

يا الله

أردتُ أن أقولَ اليأس المشعّ بجوار نفسي فحسب وليس ما يضيء نورٌ ولو أن كلّ النوافذ تشرّع وكلّ الأبواب وكلّ لمبات الكوكب والشموس والعيون الذاهلة ولو أضاء كلّ شيء دفعة واحدة لما انقشعت هذه الظلمة الثقيلة الوطأة جبالاً لا مقدّسة فوق جبال لا مقدّسة وأردتُ أن أقول

أردتُ أن أقولَ الخذلان خديعة النسل وتلك اللغة التي بات يعذّب محض لفظها محض رسمها لغة في لغات وقصيّة نائية لطخة في لطخات على وجه نهار لا يصل سماء ممزّقة فوق لا رؤوس تربة ممزّقة تحت لا أقدام وأردت أن أقول

أردتُ أن أقولَ البراءة التقصّي البائس لبراعم الحقول الأصوات التي أعلى صراخها همس مكتوم براعم يقصفها النسيم أو تلويحات أيد من بعيد أو لا شيء سوى كلمات تظلّ حبيسة جدران فم مثلوم أو نظرات مجرد نظرات متكاثفة في فراغ وأردتُ أن أقول

أردتُ أن أقولَ التاريخ أوّل صفعة مثل أوّل رصاصة مثل أوّل دبابة مثل أوّل صديق عاد دون معدته وكيف أروي هذا كله للجار الإسباني اللطيف وكيف أخبره وهو يسقي الزهور في حديقته وكلبه اللطيف يهزّ ذيله بسعار الفرح أن القطط والكلاب والحمير فكرة اليائس ورمق المتضوّر في المقتلات وأردت أن أقول

أردتُ أن أقولَ السكاكين وليست الدماء التي تسيل ولا اللحم الذي يقطّع بل السرعة الهائلة التي يجري بها كلّ شيء حملان خرفان أبقار جواميس وكلّ ما يوضب بلمح نصل في حقائب ورقيّة أعدّت لاجتماع العائلة وهذا العالم مسلخ آخر مثلما يجب أن يعترف الساذج بأمور الكوكب وتدابير البشر وأردت أن أقول

أردتُ أن أقولَ الألم حجرات الوهم المضيئة لم تعد تحمل أحداً في رحلة القطارات السريعة بين أرصفة ومدن حلميّة وخلق كثير في كلّ مكان وثمة من يحمل الورود وحشد مراهقين يوم التخرّج والصيف جاء بوعوده المشرقة ورجل وحيد يجلس في حضن نفسه ولا يتحرّك في شيء ولا يتحرّك فيه شيء وأردت أن أقول

أردتُ أن أقولَ الغرق في جثّة في فكرة جثّة والقيامة الآن على مسافة نظرة متّصلة ذاهلة جامدة والرّسل أطفال الكذبة المطلقة وها قد تيبّس كلّ شيء والنبتة لا تجد نظرة حانية وفي الفكّ شفرات معدنية تطحن الأمل تعجن الابتسامات وأردت أن أقول

أردتُ أن أقولَ الصمت واليد المستكينة لا تطال خبزاً ولا صلاة والنهار المشتعل أنشودة القبو والقبر والغيوم تمطر حشرات إلكترونيّة تُهلك الأنفاس والأيدي المضمومة لا تُصيّر جذوة والبرد جليد يلسع القلب ويترك رائحة لا تزول وأردت أن أقول

أردتُ أن أقولَ السبيل الأيام الآفلة والأقدام المتعبة وما تنتهكه المتاهة بين المفازات ليس إلا قلبي وقد سقط تحت ثلجه صنوبرةً في شتاء العالم جروَ ذئب وحيد في صحراء على طرق سريعة تنهبها الشاحنات وأردت أن أقول

أردتُ أن أقولَ الحبسة المياه المتخثّرة عميقاً في الروح وكلّ ما قيل حتى لم يعد أكثر من ذرة غبار في فضاء وكان لك يا تلويحة اليد الشاردة في العراء أن تسعفي غريباً ظلّ ينادي حتى صار فقاعة على وجه مستنقع آسن وكان لك يا موت أن تجيء دفعة واحدة لا أن تصبح مجرد سعال مخنوق بين أروقة صمّاء وجدران خرساء وأردت أن أقول

أردتُ أن أقولَ التعب وما يتسرّب إلى الأصابع ويمكث في العظام وما ينجو من الليل ولا ينجو حقاً والعجز الفادح والمخيّلة الساقطة وما ينهال من تراب الجسد جالساً إلى مائدة الصباح متهالكاً على مقعد اليوم ولا كلمة بعد الآن تملأ هذه الهوية المبتورة هذه الهاوية المتمادية ولا العين تدمع ولا تغمض ولا ترفّ ولا تنسى والرئة قبو والقلب بئر والقلب حجر في جدار قديم وأردت أن أقول

أردتُ أن أقولَ الذاكرة وذلك المطر المنهمل خلف نافذة تظلّ تنأى وتنأى حتى لا يعود طريق ولا علامة والألم شجرة في قفرٍ ميراثُ أسلاف ميتين لأحفادٍ أشدّ موتاً وأردت أن أقول

أردت أن أقول الأحلام غرفة عارية على ناصية العالم وأن أغمض عينيّ ويختفي كلّ شيء دفعة واحدة وأشعر تلك الأيدي تقضم وجهي بلمساتها الخفيّة وأحدهم يهمس في أذني بأن كلّ ما رأيته وما أراه محض عالم لم يبدأ بعد أو بدأ متأخراً عني وأردت أن أقول

أردت أن أقول.

…………………………………………………………………….

 

الضِّبَاعُ

 

الضِّباعُ في ليلِها المَعدِنيِّ

تَلهَثُ تَلهَثُ تَلهَثُ

لا شيءَ يُوقِفُ ذلك العَصْف

لا شيءَ يُخمِدُ تلك الحِمَم

لا شيءَ يِقِي النَّظراتِ الصَّغيرةَ رُعباً يَضطَرِم

– مَقتَلَة

إثرَ

مَقتَلَة –

في جليدِ عُيُونِها الميتة

 

     الضِّباعُ الضِّباعُ

ضاحكةٌ تتلوَّى

لتُعلِنَ انتصارَها النِّهائيَّ

على دُميةٍ ما زالتْ تتشبَّثُ بيدٍ طفلٍ

وعلى الملابسِ الدَّاخليَّةِ لامرأةٍ خَطَفَها النَّوم

وعلى عُكَّازةِ شيخٍ يبحثُ بين الخطوات

عن خُطوتِهِ الضَّائعة

 

      الضِّباعُ الضِّباعُ

مُنتشيةٌ تتمرَّغُ في أطلالِ صَفٍّ مدرسيٍّ

 تُقهقِهُ مِن رسمِ قلب

نَسيَهُ فتىً على سَبُّورة،

مِن كلمةِ حُبٍّ

همستْها فتاةٌ، ذاتَ صباحٍ،

واستودعَتْها غيمةً عابرة

      جُرْذانٌ كَلبِيَّة تجتاحُ المُدُن

تَفترسُ الحُقُولَ، تَنهَبُ البُيُوت،

تتصارَعُ تتنازَعُ تتمازَعُ

تلتهمُ الأيديَ الأقدامَ القُلُوبَ الوُجُوه

تلتهمُ كلَّ ما يُلتَهَم

وكلَّ ما لا يُلتَهَم

وحين لا تجدُ ما يُطفِئُ جُوعَها إلى اللَّحم

وظَمَأَها إلى الدَّم

تتلوَّى عاجزةً في أروقةِ العَدَم

وتَفترسُ أشلاءَ صُورتِها في مرايا التُّراب

 

كلابُ الجحيمِ

في عُيُونِها نارُ القُرُون

وفي دَمِها سُعار

تتلاهثُ تُحَمْحِمُ تَشتعِل

تغلي بلُعابِ اللَّعنات

وبشهوةِ القَتلِ تُضمِّخُ الهواء،

خُطُومُها التي تَنِزُّ شَبَقَاً

بُوصَلَةٌ لا تُخطِئُ وجهتَها،

في حَناجرِها كُهُوفٌ قديمةٌ تعوي،

في أنيابِها جِيَفُ أفكارٍ سُودٍ،

وفي أظلافِها أَوْحالُ المذابحِ وطينُ النَّكبات

 

      كلابُ الآلةِ الشَّاردةِ

فُولاذُ القَهْرِ الأبديِّ

فَروةُ الحضارةِ المُمزَّقة،

لوغاريثماتُ العدمِ مِن العدمِ تطلع

لتنهشَ – بنُباحِها الشَّقيِّ – وجهَ العالَم

لتَقضِمَ – في الطَّريقِ إلى كلِّ شيءٍ – كلَّ شيء:

الأشجارَ، الأحجارَ، الأُغنيَّاتِ، الأحلام

كلَّ وردةٍ نَدِيَّة

وكلَّ فكرةٍ نَصَعَت.

………………………

المَجزَرةُ

هكذا أراهُم، وأرى كلَّ شيءٍ بوُضُوحٍ تامٍّ، بِلَمَعَانٍ باهر؛

أرى قَدَمَاً في مَوضِعِ اليدِ، وقبضةً تمتدُّ مِن الفمِ، وأرى الأجسادَ جُذُوعَ أشجارٍ مقطوعةً، متناثرةً، وما الفرقُ في النِّهايةِ ما دُمنا سنَدفِنُ كلَّ شيءٍ في نظرةٍ واحدةٍ؟

نعرفُ أننا وصلْنا إلى حيثُ لا شيءَ يعودُ. نُسمِّيها نُقطةَ اللَّاعودةِ أو نُقطةَ اللَّاذهابِ، لا فرقَ. نبقى هنا، في الموضعِ ذاتِهِ مِن الألمِ، نرى وجهَ طفلٍ، شَعْرَهُ، أسنانَهُ، وربَّما ابتسامتَهُ، تنبتُ في ذِراعِ طفلٍ آخرَ. نقفُ حائرينَ، عاجزينَ عن النُّطقِ وكلِّ شيءٍ آخرَ، مرعوبينَ ممَّا نَحسَبُهُ إبرةً عملاقةً جاءتْ لتُعيدَ وَصْلَ جميعِ هذهِ الأشلاءِ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر ومترجم فلسطيني، حصل على جائزة سركون بولص في الشعر مؤخرًا، 
الديوان صادر عن منشورات المتوسط 

مقالات من نفس القسم

خالد السنديوني
يتبعهم الغاوون
خالد السنديوني

Project