ريم غنايم
“المدينة لا تروي ماضيها، بل تحتويه كما تحتوي راحة اليد خطوطها”.
بهذا التصوير الشعري في “مدنٍ غير مرئيّة”، يرى كالفينو أن المدينة ليست مجرد مكان للعيش، بل كيان خفيّ، تختزن ذاكرتها فيما لا يُقال: في الأرصفة الصامتة، في الشروخ، في الظلال العابرة. لا تشرح المدينة نفسها، بل تلمّح وتُفلت من التفسير كما تُفلت اليد خطوطها حين نحاول قراءتها. وفي المجموعة الشعريّة “ما لم أستطع قوله لأحدهم بلغة أخرى” للشاعر أحمد زكريا (دار النهضة، 2024)، يتردد صدى هذه الرؤية؛ حيث لا يكتب عن المدن كما تُشاهد، بل كما تُستشعر، وحيث مدنه ليست خرائط تُسكن، بل حالات شعورية يُلقى فيها الغريب في مواجهة ذاته وتقاطع الغربة مع الوعي ليغدو التيه موقفًا لا هروبًا.
هذا التوتر بين الحضور والاعتراف، بين الجغرافيا واللامرئية، يحيل نصوص زكريا إلى حوار فلسفي خفي مع إيمانويل ليفيناس، الذي رأى في “الآخر” مرآة أخلاقية تُلزمنا بالاعتراف لا بمجرد القبول. في هذه المدن، لا يُرفض الغريب، بل يُرى بلا مطالبة، بلا أثر. في عالم زكريا الشعريّ، لا تطردك المدينة، لكنها تتقن فنّ التلاشي: تراك دون أن تُقرّ بك.
في قصيدة “المدينة التي لم تتصالح بعد مع الماضي”، لا يُعرّي زكريا إسطنبول بنَبرة هجائية، بل يخاطبها ككيان متورط في ماضيه، حيّ لكنه غير شفاف. في نهاية المقطع، ترد عبارة مفصلية بصيغة مبنيّة للمجهول:
“قِيل:
حتى السماءُ في إسطنبول
ليست للغرباء.”
هذا “القيل” لا يخفف العبارة، بل يحمّلها ثقلاً مضاعفًا: كأنها شائعة وجودية، أو شبهة متكرّرة تسري بين الذين ضلّوا في شوارع المدينة. إسطنبول هنا لا ترفض الغريب، لكنها تنسحب من فعل الاستقبال، فلا تمنحه حتى سماء يتطلع إليها.
الغربة هنا ليست حدثًا استثنائيًا، بل مكوّنًا غير معلَن من هوية المدينة.. هندسة دقيقة للّامبالاة حيث لا أحد يغلق الباب في وجهك، بل يُترك مواربًا، كي تظلّ واقفًا في العتبة. ثمّة شيء مغلق في كل شيء، حتى في الحنين:
“لا أبحثُ عن بلادي، أبحث عن كلماتٍ لم يكتبها الشعراء بعيدًا عن بلادهم“،
وبهذا النزوح الداخلي يتحوّل الحنين من شعور فردي إلى قيد مفهومي، فحين لا يعترف بك المكان، لا يستحق شعورك نحوه.
وشعرية زكريا لا تتوسّل المدينة، ولا تحاول استعطافها، بل ترصد بعين شديدة الحساسية المحو الذي يتم بلا عنف، وبلا صوت.
هنا، لا تُكتب القصيدة كي تواجه المدينة، بل كي تنقذ حضورًا لم يُلاحظ أصلاً، فنصل أيضًا إلى أنطاكية بنفس الطريقة. أنطاكية، في شعر زكريا، ليست مدينة النفي، بل العزلة الرمزية، مدينة لا ترفضك، لكنها لا تراك. يكتب الشاعر:
“السماء قريبة في أنطاكية / مثل الحرب“،
السماء هنا ليست ملاذًا، بل تهديدًا منخفضًا. ويواصل:
“كأنّ المسيح ينحت اسمَه في الصخر حتى الآن / والحواريين يبكون من حوله“، وهي ليست استعارة دينية فقط، بل نحت يائس في صخر لا يعترف. حتى الصلب لا يكفي لكتابة الاسم، حتى الجماعة لا تنقذ من العزلة. وفي تعميق لهذه الصورة، يكتب زكريا:
“وكأنه لا يعرف أنه سيكون الشهيد الوحيد / في ذلك اليوم الخانق من تموز.”
المسيح هنا، بوصفه رمزًا للحقيقة الفجائعية، لا يحظى ببطولة الخلاص، بل بفردانية الشهادة المنسية. أنطاكية لا تمحو، بل تُفرغ الرموز نفسها من أثرها، لا تُنكر الحدث، بل تجرده من المأساة. الغريب لا يُنسى لأنه كان، بل لأنه لم يُذكَر أصلًا.
أما القاهرة، فهي لا تمحو دفعة واحدة، بل تُبدّد الذات على مهل. مدينة لا تطردك ولا تحتضنك، بل تراك دون أن تعنيك. في قصيدة “أموت في القاهرة”، يكتب زكريا:
“لن أكون شهيدًا فجأةً على محطة إخبارية / لكنني أموت كلّ يوم في القاهرة.”
الموت هنا ليس ذروة درامية، بل عملية طويلة من الانقراض العاطفي. ليس موتًا لأنك قُتلت، بل لأنك لا تُرى.
لا تُقصي القاهرة جسد الشاعر، بل تُمحِي أثره تدريجيًا من الذاكرة العامة. إنها المدينة التي تراك تتآكل، ولا تكترث.. لا مقاومة، لا بطولة، بل تدوين يومي للفقد المتكرر في التفاصيل: في الزحام، في نظرات عابرة، في إعلانات المترو، في وجه لا يردّ التحية.
لا تمنحك القاهرة عزلة معلنة، بل تُغرقك في جماعة لا تراك، تمنحك اسمًا لا يُنادى، ومكانًا لا يُلاحظ. في هذه المدينة، الوجود لا يُلغى، بل يُفرّغ من معناه، وتُصبح النجاة شكلًا من أشكال الغياب الناعم، حيث تُواصل الدوران وسط الناس بلا أثر، بلا مرآة، بلا صدى.
لا تُكتب المدينة هنا كفضاء مقاوم، بل كحيّز هشّ، تُدوّن فيه الخسارة اليومية، لا البطولة الرمزية. القصيدة لا تستدعى لتذكر المكان، بل لتشهد على كيفية محونا فيه دون أن يرانا أحد.
في هذا السياق، يتردّد صدى فالتر بنيامين، لا بوصفه شارح الحداثة، بل بوصفه من رأى في الفلانور “عيون المدينة” التي تتجول دون أن تكون مرئية هي نفسها. لكن الغريب في شعر زكريا لا يتسكّع، بل يُمحى؛ لا يراقب، بل يعبر دون أثر. المدينة لا تبتلعه، بل تذوّبه في حيادها.
ولأن الوجود لم يعترف به، تصبح القصيدة هي الشكل الأخير للحضور، محاولة لتثبيت أثر قبل أن يتلاشى. هي ليست مقاومة صاخبة، بل تشبه، في عمقها، ما وصفه ألبير كامو: ذلك الإصرار العبثي على المعنى في عالم لا يعترف، فالشعر، هنا، لا يواجه العالم، بل ينجو من صمته، ويكتب لئلا يضيع ما لم يُرَ أصلًا.
لكن المدن في هذا الديوان لا تقتصر على الأماكن التي سار فيها جسد الشاعر، بل تمتد إلى تلك التي سكنها خياله عبر تجارب الآخرين. تظهر براغ، لندن، ديار بكر لا كمَواطن منفًى، بل كمرايا مؤجلة لذاته، أمكنة يُطلّ منها على مصائر شعراء سبقوه إلى الغربة والتيه، ليكتشف فيهم أشكالًا مستقبلية من غربته هو. في قصيدة “لحنٌ جديد للنشيد الأممي”، لا يتحدث زكريا عن سعدي يوسف، بل يتحدث معه، أو فيه، حين يقول:
“يطاردني صوته وهو يصرخ:
ماذا أفعل في أرض غير عربية؟
تحت إبطه يدسّ المعلّقات
قبل أن يخرج للتسكّع في أزقّة لندن
يبحث عن مقاهٍ للثرثرة
ورفاقٍ لهجاء الصباحات الحامضة
والبيرة السوداء في براغ”
هذا الوصف أشبه بصورة كربونية لما قد يصير إليه الغريب حين يتقادم التيه وتبرد الأحلام. لا يُروى سعدي يوسف كرمز مفارق، بل كـ”أنا ممكنة” للشاعر نفسه، لذلك يطارده صوته، لا سيرته، فبراغ، هنا، ليست مدينة الآخر، بل واحدة من مدن النفس الموزعة على أعمار الغربة، حيث يتهجّى الشاعر مصيره في مرايا من سبقوه.
وفي استحضار أحمد كايا، لا يظهر زكريا كمن يستدعي سيرة فنان مضطهد، بل كمن يعيد تركيب ألمٍ غنائيٍّ مُحاكَم، ليكشف هشاشة الوجود حين يصبح الصوت نفسه تهمة:
“وأنه من ديار بكر
ومتهمٌ بعزف الساز“
الجملة بسيطة في ظاهرها، لكنها تنطوي على تناقض وجودي: أن تكون من مكانٍ، وتُدان بما يُفترض أن يكون لغتك، موسيقاك، صوتك الطبيعي.
لا تظهر ديار بكر هنا كمدينة تُعاش، بل كـقضية حُكم، كأن الهوية لا تُعرَّف بل تُشتبَه فيها. الساز، الذي يفترض أن يكون آلة الغناء والذاكرة، يتحوّل إلى دليل إدانة. في هذا التوتر بين الانتماء والتجريم، يتقاطع الشاعر مع كايا، لا من موقع الرثاء، بل من موقع الاعتراف بنقطة ضعف وجودية مشتركة: أن تكون قابلاً للمحو لا فقط بصمت المدينة، بل بقرارٍ فوقي يعتبر صوتك خطرًا.
لا يكتب الشاعر في هذا الديوان المدن كأماكن تُسكن، بل كاختبارات وجودية للنجاة من الفقد غير المعلَن. كل مدينة تحمل شكلاً مختلفًا للغياب وكل قصيدة، ربما، هي شكل أخير من البقاء داخل هذا الغياب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة ومترجمة فلسطينية