1
رحلت لولة بكل بساطة. في الصباح ذهبنا إلى مكاتبنا، لم يكن لها أثر، لم نعرف لها طريق.
كانت هي فسحتي نحو حياة الصعلكة والأفكار المجنونة. سمحت لنفسها فعل ذلك دون حساب العواقب على الآخرين. قبل اختفائها بأسبوع أخذتها في سيارتي لنتغدى معا. دلتني على محل سمك قديم وعتيق، أصرت على دعوتي ودفع الحساب. طلبنا شوربة دسمة ولذيذة واتفقنا أن الأكل هنا رائع. أكلنا سمكة مشوية كبيرة، كانت أهدأ من أي وقت آخر في الفترة الأخيرة. بدأت تعود إليّ كما كنا، تحدثت كثيرا عن الشغل والأشخاص، بدأت في تحليل شخصية مُندي، قالت إنه لا يمتلك أي شرف لخصومة أو زمالة. فقلت لها إن الأسوأ منه هو المدير. قالت إن المدير غبي لكنه واضح، وإنها تقدر وضوح خصمها وشرفه، لأن عائلتها علمتها ذلك. ذكرت كلمة “الشرف” أكثر من مرة ثم تحوّلت فجأة ووصفت المكان بأنه جميل جدا. ذهبنا إلى مقهى، دخَّنا وودعتها لأني كنت سأسافر في اليوم التالي.
لا تأتي المصائب فرادى. اختفت لولة وظهر سمسم في حياتي وسافرت معه سفرية إسكندرية المشؤومة وفقدت أي أمل في النفاذ لرئيس المؤسسة من خلال الوحدة الجديدة، فعدت بأدراجي لمكاني الطبيعي بين أحضان الموظفين القدامى وبين يديّ مديري القديم “رفعت” واقتنعت أن ليس لي سواه.
رشحني رفعت للانضمام إلى الوحدة التي أسسها رئيس المؤسسة الحالي، للحصول على راتب أعلى وأيضا لنقل مستجدات الأمور له. يدفعني من جهة ويعطل ترقيتي من جهة أخرى، قلت: “وماله، ميضرش”. تصورت أنني سأستطيع السفر للخارج أو الترقي.
أرسل لي رفعت فيديو خاصا بأحد الامتحانات الشفهية لموظفة من المتقدمات لامتحانات الملحقين عن المؤسسة للخارج. سربه لي بخبث لنضحك وأكد عليّ بالطبع أن الأمر سريّ. كانت مهزلة بكل المقاييس، فالمرأة الجاهلة لا تعرف أي شيء عن القانون الدولي. الهيئة الممتحنة لها تجلس منهارة ويتوسطهم رئيس المؤسسة، يسألونها عن حجم الاستثمارات بين البلدين، والجالية المصرية هناك، التعاون الثقافي، مقر السفارة المصرية هناك، وكل ما تجيب به الموظفة أنها أخذت دبلومة في السياسة الخارجية في المعهد الأمريكي. تحشر كلمتين إنجليزيتين في إجابتها، تتصبب عرقا ثم تضحك بلا داع، فتظهر نظرات القرف لها من رئيس المؤسسة.
يصلح مقطع الفيديو أن يكون أحد أكثر الفيديوهات الكوميدية مشاهدة في العالم، على الأقل سيأتي بثمنه. ضحكتُ بمرارة، لو كنت مكانها كنت سأبهر المحكمين، فأنا أولى منها. كنت سأسافر وأترك كل شيء خلفي. لكن تأخر ترقيتي بسبب رفعت نفسه جعلتني غير مهيئة بعد بحسب الدرجة للاختبارات. يقول رفعت إن هذا خارج عن إرادته، وإن اللوائح القانونية هي التي تحكم، وهو لا يستطيع كسر القانون، رغم أنه يوزع ترقياته ودرجاته على أحبائه من الموظفين. لكنه كان يضغط عليّ من جانب ومن جانب آخر يغدق الحب والكرم.
كان لا بد أن أتركه قليلا لأرتاح من الصراع الدائر بالأسفل، ولم أعرف أن هناك صراعا آخر أرخص ينتظرني. حاولت توطيد علاقتي مع مدير الوحدة وصديقه. كونت صداقة أخرى مع لولة، لم أقطع علاقتي برفعت الذي كان يوافيني بآخر الأخبار في اجتماعات رئيس المؤسسة مع مدير الوحدة وصديقه.
2
لم تمر سوى أشهر قليلة وتوترت العلاقات في الوحدة الجديدة. تلقيت اتصالا غير متوقع من مندي، سألني بلطف عن حالتي وقال إنه يستشعر ضيقي هذه الأيام، طالبا مني أن أستعيد جلساتنا الثلاثية معه ومع المدير. وصف محاولات صديقه لإقصائي عن الصورة بالرؤية الخاطئة. قال إن الأيام القادمة تحمل لي امتيازات لكن عليّ الصبر. فجأة عرج بالحديث حول حياته الشخصية. بدا منشغلا بعلاقة جديدة مع فتاة، وقال إنه متحيّر لكنه يريد خطبتها بالفعل. كانت فتاة صغيرة ومتدينة وسليلة عائلة ثرية. سمعته وقلت له أن يوافيني بأخباره ولا يتردد.
تكررت مكالماته الليلية، حكى تفاصيل حياته العائلية؛ غضبه من أبيه الذي تركهم لأجل امرأة لعوب، وتفاصيل ذهابه لخطبة الفتاة. قال إنه استشعر عدم قبوله في بيتها على الرغم من أن والدها هو من حدد الموعد. طمأنته، وقلت إن الأب قد يكون حذرا فقط لأنّه يريد معرفة كل شيء عنه من أجل مصلحة ابنته. في اليوم التالي لحديثنا، كنا في المكتب وجاءته مكالمة طويلة، فنزل إلى الحديقة، يروح ويجيء وهو متوتر، بعدها صعد إلينا وأغمى عليه. عرفت أن عرض زواجه رفض.
لم أتركه ذلك اليوم، أخذته بسيارتي ودرنا على الصيدليات لقياس ضغط دمه الذي كان يرتفع فجأة وينخفض فجأة بطريقة مخيفة. أحضرت له طعاما، انتظرت ساعة كما قال لنا الصيدلي وعدت معه لقياس الضغط مرة أخرى، ظللنا هكذا لساعات حتى استقرت حالته. فهمت منه أن هذه الحالة تأتيه مع أي ضغط كبير. خمّنت أن عائلة الفتاة رفضته بسبب التفاوت المادي الكبير بينهما، وقلت له: “هي الخسرانة”.
قربنا ذلك الموقف من بعضنا بعضا، طلب مني أن نخرج معا أكثر من مرة، بالفعل لبيت طلبه بعد إلحاح. عزمني في مطعم غالٍ على طريق القاهرة – الإسكندرية، وقد اتفق معي أن يفوت عليّ بسيارته ليأخذني من البيت.
ارتديت فستانا أحمر قصيرا إلى الرُكبة، كنت أشعر يومها بجمالي، وهو ارتدى بذلة زرقاء أظهرت وسامته، بدأت رحلتنا الطويلة بالسيارة بالكلام عن العمل، ووجهة نظره عن المدير صديقه الذي كان يراه ضعيف الشخصية تجاه الموظفين. قال إن فرض الرأي مطلوب أحيانا حتى يستطيع السيطرة على الجميع. تحدث بالطبع عن نفسه وعن عمله في شركة كبيرة للعقارات، عن الشقة التي اشتراها مؤخرا في كومباوند مخصص للأثرياء. قال إنه قد ينتظر وقتا ثم يبيعها بثمن أعلى ويدفع بقية أقساطها ويظفر بالمكسب. قال لي إنه يرى أحمد رفعت رجلا مهمًا في المكان وإن تعامل صديقه معه بضيق ليس له مبرر، وأضاف أنه يتمنى أن يصير صديق رجل مثل رفعت يوما ما.
سرحت لبعض الوقت، وشعرت بالملل، فشغّل مزيكا أجنبية. قلت له أن يشغل عبد الحليم حافظ، وفتحت الأغاني التي عندي في التليفون وأوصلتها بكاسيت السيارة. تكلمنا كثيرا عن العمل لكنه لم يسألني عن عائلتي أو عن حياتي، في المطعم تركني أطلب ما أريد، كان المكان فخما وممتعا، والأكل جيد جدا. عندما هممنا بالانصراف تحجج أنه نسى “الماستر كارد”؛ فدفعت أنا الحساب كاملا. قلت له: “بسيطة” حتى لا أشعره بالحرج. في طريق عودتنا جاءته مكالمة من أحمد المدير، فانشغل لأكثر من ساعة ونصف في سماعه، كان يرد بحساب: “طبعا، لاء – استنى – متعملش كده – أما نتقابل”، وكلام من هذا القبيل لا ينم عن شيء محدد ولا أستطيع من خلاله فهم أي شيء. أكد عليه في بداية المكالمة أنه على الطريق ومعه أصدقاء. عندما انتهى من مكالمته كنا قد شارفنا على الوصول، فجأة أمسك يدي بيده وضغط عليها؛ فابتسمت، تركتها للحظة ثم سحبتها منه، فأمسكها مرة أخرى وقبلها؛ فضحكتُ.
3
انتظرتُ أن يحدث شيء بعد ذلك، أن يطلب مندي الخروج مرة أخرى، لكنه اكتفى بمحادثات ليلية طويلة حول حياته والعمل. من وقت لآخر كان يقول لي إنه يتحمل المكان والشغل لأجل وجودي. كنت على وشك الإعجاب به.
جاءتني مكالمة من رفعت ومندي معي على الخط، لم أرد، لكنه كان يغلق ويتصل مرة بعد أخرى، حتى اضطررت لإنهاء مكالمتي مع مندي لأرد على إلحاحه. عندما أجبته وجدته صامتا، ناديته: “رفعت، رفعت، فيه حاجة ولا إيه”، فسألني بغتة: “كنتي بتكلمي مين؟”، ارتبكت لكني أجبته أني كنت أتحدث مع مندي، بررت أنه كثير الكلام وأنني وجدت صعوبة في الخلاص منه، رد: “كنت عارف…”، ثم صمت لدقيقة؛ فسكتُّ. طلب مني أن نلتقي، فتحججت بأن الوقت متأخر، لكنه أصر. قال إنه سيأتي ليأخذني من تحت البيت، لم ينتظر حتى أعطيه العنوان وأغلق السكة. تجهزت بسرعة، رغم شعوري الشديد بالإرهاق. حاولت ارتداء شيء مريح، عندما اتصلت به لأصف الطريق، قال إنه أوشك على الوصول إليّ.
كل ما حدث كان غريبا، فقد وصل بدقة إلى بيتي وحادثني لأنزل، وعندما ركبنا سيارته، لم يتكلم أبدا، شعرت بأنفاسه تعلو، لكن بعدما تحركنا لمسافة ليست بالقصيرة هدأ، ثم شغل الكاسيت فسمعت صوت عبد الحليم حافظ، واندهشت مما يحدث كليةً. زاد على كل ذلك أنه اتجه بنا إلى طريق القاهرة – الإسكندرية الصحراوي، كأنه كان يتجه لنفس المطعم، شعرت بالخطر، لكني تماسكت ولم أتكلم.
بعدما وصلنا للمطعم شعرت بدوار حاولت السيطرة عليه، وهو تكلم مع موظف الاستقبال وأكد على حجز باسمه كان قد أجراه سابقا لفردين. هذه المرة كان المطعم بالنسبة إليّ مكانا مموها ليس له معالم، سحب لي رفعت الكرسي وأجلسني ثم ربت على كتفي بنعومة، وجلس أمامي وابتسم.
وبادرني: “إيه رأيك؟”، فهززت رأسي مبتسمة، فكرت لوهلة في مواجهته بما يرمي إليه من هذه الرحلة، لكني آثرت الصمت. طلب لنا طعاما خفيفا ونبيذا من نوع فاخر يدل على ذوقه. أكلنا وشربنا، ثم بدأ ينظر إلي بنظرات تمتلئ بالشوق والإعجاب، ابتسمت، كان رجلا جذابا لا تستطيع امرأة مقاومته. أمسك يدي، ثم بدأ بالمرور على كل إصبع على حدة بحركات دائرية رقيقة. شعرت بالاستسلام له. فسحب يده وتراجع على كرسيه، بدأ بالحديث عن العمل، أمرني بلهجة حاسمة بأن أكون أكثر حرصًا في كلامي داخل المكتب أو مع الآخرين. فهمت من هذه الإشارات أننا مراقبون. لكنه لم يصرح ولا أنا أيضا. تحدث عن إمكانية نقله الشهور المقبلة إلى منصب أكبر في مؤسسة أخرى. وهو ينتظر فقط رحيل رئيس المؤسسة. فقلت له إنه يستحق كل خير. قال إنه قبل أن يرحل لا بد أن يفكك هذه الوحدة ويرمي هذين الولدين إلى الشارع. أضاف أنتِ تستحقين أن تكوني مكانهما إن لم يكن في منصب أعلى. ثم سكت كأنه قد تكلم أكثر مما يجب. وطلب الحساب ورحلنا.
في السيارة حاول أكثر من مرة تقبيلي لكني رفضت وتراجعت، بدا لي سكرانا. وأمرته أن يطلب لي تاكسي لأنني لا أود أن يراني أولادي عائدة معه في هذه الساعة، فقبل فورا، كأنه كان يريد التخلص مني، أو التخلص من لحظة ضعفه أمامي.
كان يوما غريبا، شعرت فيه بالإرهاق الشديد، لكني لم أستطع النوم. أغلقت باب حجرتي عليّ، تركت الأولاد بالخارج سهارى أمام أجهزتهم النقالة، ثم دخلت لحمامي وغطَّست نفسي في ماء ساخن للغاية. عندما خرجت لم أسمع ضجة في الخارج وفهمت أنهم ناموا. فتحت نافذتي ودخنت سجائر كثيرة حتى شهدت الفجر يتبدل به الصبح، وبالصبح النهار، ولم أرد على مكالمات أحد لا الأولاد الذين رحلوا لمدارسهم، ولا موظفي العمل، الذين اتصلوا بي جميعا، كلهم اتصلوا بي، إلا مُندي لم يفعل.
نمت في منتصف النهار وعدت إلى العالم في منتصف الليل، وجدت رسالة غريبة على الفيسبوك من شخص مجهول، كان قد أضافني في الأيام السابقة وقبلته. قال إنه اطلع على صفحتي وأن صور الكلاب الكثيرة عندي لفتت انتباهه.
كانت رسالته لطيفة دون لزوجة، فرددت عليه وقلت: “أهلا وسهلا”. فرد: “أنت بخيلة ولا إيه”؛ فضحكت، وقال إنه يعزمني على مشاهدة فيلم سينما، وإذا قبلت سيكون أسعد يوم في حياته؛ فضحكت على خفة دمه، وقلت له: “بسيطة، اعتبره أجمل يوم في حياتك”، واتفقنا أن نلتقي آخر الأسبوع. لم أكد أنهي محادثتي معه حتى وجدتُ اتصالا من مندي لم أرد عليه، بعده فورا وجدت اتصالا من لولة، فرددت وقلت لها إنني كنت مريضةً جدًا ولم أستطع المجيء. أنهيت معها المكالمة بسرعة، لأن رفعت كان يتصل هو الآخر فلم أرد، اتصل مرة أخرى ولم أرد أيضا.
عدت إلى العمل في اليوم التالي في أبهى صورة ممكنة، تفاجأت بموظفة جديدة ستنضم إلينا، مغرورة وتتحدث بالإنجليزية لتظهر لنا مستواها الرفيع. كان احتفاء الولدين بها مقرفًا. حاولت الاندماج ودارت بينها وبين لولة مناقشات حول النسوية، وامتد الحوار ليتحول لاشتباك وخلاف. كنت سعيدة بهذه المعركة. حدثت بينهما مناقشة أخرى في عدم وجود المدير الذي سافر لأجل مناسبة عائلية لأيام، فتولى مُندي مكانه. صنعنا حلقة لنقاش موضوع “الحق في السكن”، قالت الموظفة الجديدة إن المصريين “مهووسون” بامتلاك بيت. فسألتها لولة متهكمة: “هل لديكِ عائلة؟ هل جربت الانتقال من بيت لآخر أنت وحياتك وأولادك؟”؛ فصمتت الأخرى، فقالت لولة إن المصريين لا يملكون أي شيء يمنحهم الأمان الاجتماعي، وإننا جيل كامل سيصبح بلا وظائف حقيقية أو تأمينات أو معاشات، فعلى الأقل الناس تؤمن مكانا حتى لا ترمى في الشوارع. تتحدث لولة بمسرحة ويقين عجيب بأفكارها غير الواقعية. لم أتفق يوما مع منطقها في التفكير لكني فرحت طبعا بهذا النقاش لأنه كان ضد مندي أيضا، الذي كان يؤمن على كلام الموظفة الجديدة كأنه منوم مغناطيسيا.
فرض مندي على الجميع نظاما متسلطا حول المواعيد وطريقة العمل مستغلا غياب المدير. نشبت بينه وبين لولة معركة صغيرة. أعطاها أمرا بلهجة متعالية، فردت عليه بقسوة وأمرته بلهجة حادة ألا يتكلم معها. شعر بفقدان السيطرة أمام الموظفين الآخرين، وأرسل إليّ رسالة يشكوها فيها، فنصحته بأن يأخذها ويتحدثا منفردين. كانت لولة غاضبة جدا من تعامل مُندي مع الموظفة الجديدة، حيث كان يأخذها إلى مكتب آخر وينتظران هناك بالساعات، وقد تسرب لدينا شعور بأنه يريد إعطاءها مميزات أكبر منا جميعا. أنا كنت أستشيط غضبا من طريقته التي وجدت أنها تتخطى إعجابه بإمكانياتها الوظيفية إلى إعجابه بشكلها وأنوثتها؛ فتركتهم وذهبت إلى مكتب رفعت، واعتذرت له عن انقطاعي مبررة ذلك بوعكة صحية. حكيت له عما يفعله مُندي مع الموظفين وعن عراكه مع لولة التي هزأت به أمامنا. ثم تطرقت لأسلوب الموظفة الجديدة، فضحك، وقال إن مندي وأحمد بالفعل وضعا لها راتبا أضعاف الموجودين، لكنه رد بسرعة: “متخيلين إنها عزبة أبوهم”.
رحلت هذه الموظفة سريعا لأنها لم ترض عن الراتب الزهيد المنصوص عليه في العقد الذي قدمه لها رفعت. عرفت أن مندي حاول مستميتا عودتها وعرض عليها أن تأتي يومين فقط في الأسبوع لكنها رفضت، ووصف رحيلها بالخسارة الكبيرة للوحدة. قال لي في وقت آخر إنها قد تعود مع تجديد العقود حيث سيكون أحدهم قد رحل.
4
سافر الولدان لمؤتمر من دوني. كانت القشة التي قسمت ظهر علاقتي بهما. أخذنا إجازة مدة أسبوع.
استغللت الإجازة في الخروج من جو العمل وقابلت علي “رجل الفيسبوك” الشهير وسط أصدقائه باسم سمسم، عرفت أنه لاعب ملاكمة وأثار هذا فضولي. يقص شعره “كابوريا” فيظهر قفاه الأسمر الجميل، جسمه مفتول العضلات، خفيف، مرح ومهتم لأقصى درجة.
كنا نخرج يوميا، يذهب بي إلى حفل غنائي لفرقة مجهولة، لمقاهي في خنادق وسط البلد، لكافيهات لها طابع فولكلوري. مرة أخذني إلى حفلة زار، جلسنا على الأرض متحلّقين حول الفرقة التي تغني على الدفوف مديحا للنبي، بصوت عذب وجميل. تتوسط الفرقة امرأة ترتدي ملابس مزخرفة بالذهب، ترسم وشما على ذقنها تنتظر دخولها للغناء. معها امرأة أخرى ترتدي جلابية مذهبة وحلقا كبيرا، تتمايل وهي تلعب بصاجات ثم تتسارع رقصاتها مع تسارع الغناء والدق على الطبول، في النهاية تسقط مغشيا عليها على الأرض. كان عرضا سحريا، أشعرني بالسعادة لوجودي مع هذا الشخص الذي اختطفني فجأة من حياتي.
بعد انتهاء حفل الزار أخذني سمسم لنتمشى على الكورنيش. سرحت في صوت الطبول الذي لايزال في أذني، ولوهلة برق في ذهني لحظة زفافي على زوجي السابق، ذكريات مؤلمة نفضتها عن رأسي بسرعة. زفرت بشدة فلاحظ سمسم شرودي وضيقي، فقال لي إن يمكنه توصيلي إلى البيت فورا، لكني أردت الجلوس معه لبعض الوقت.
ذهبنا إلى الكورنيش ونزلنا للأسفل، جلسنا قرب النيل، وضع يده حول كتفي، أرحت رأسي على صدره، شعرت بالدفء وبطاقة حلوة تشدني إليه بقوة، ننتظر أن يمر الناس حولنا لنتحين لحظة التقبيل، كنا ننظر يمينا ويسارا، وعندما شعرت أن المكان خالٍ، ضغطت على يده، فقبلني، ووضع يده على خصري فشعرت بالإثارة واحتضنت لسانه بلساني.
كنت أعيش مغامرة لم أعشها في مراهقتي، أن أقبل أحدهم في الشارع، كان من الممكن أن أنتظر عندما يأتي معي إلى سيارتي ليوصلني وأقبله لكن هذه كانت متعة أخرى. أردت استمرار هذه اللحظات للأبد. كنا نتحين أي لحظة ونحن نمشي في شارع مظلم أو خال ونقبل بعضنا بعضا، بعد أن أصل للبيت نستمر في الحديث على الهاتف إلى أن تشرق الشمس. قلت له إني أريد رؤيته وهو يلاكم، أردت الشعور بقوته تفتت الآخرين وتملكني.
هذه العلاقة سربت السكينة لحياتي. رفعت ومندي كانا منشغلين في المؤتمر. تأتيني مكالمات متقطعة من رفعت ليخبرني بمهازل يفعلها الولدان لإثارة الانتباه ومحاولتهما المستميتة للظهور في وسائل الإعلام باسم المؤسسة. لم أفوت الفرصة وتقابلت مع لولة وزميلة أخرى وأخبرتهما بما يحدث وضحكنا منتظرين رجوعهما لنعرف ما سيقولانه. قالت لولة إنهما بالتأكيد سيتحدثان عن إنجازاتهما وسط الموظفين الأغبياء، وقالت زميلتنا إن موظفي المؤسسة سيشعلون النار إذا عرفوا أنهما تحدثا باسم المؤسسة دون وجه حق. ثم حاولنا الحديث عن شيء آخر، لكننا كنا نفشل لنعود لنفس الكلام مرة أخرى. كنت أتسلى جديا بما يحدث.
رجعت إلى وتيرة عملي بعد انتهاء الإجازة، قلّ وقت خروجي مع سمسم لكنه كان يتصل بي دائما، هو أيضا كان مشغولا للتحضير لماتش مهم كما يقول. علاقتي بمُندي تحولت إلى فتور سرعان ما تحول إلى عداوة، خاصة بعد تكوينه جبهة مع فتيات المكتب يفتعلن المشكلات معي ومع لولة.
في هذا التوقيت بدأت تسوء حالة لولة. تشرد فجأة وتنطوي في مكانها بلا سبب واضح. تقول إنها قد ترحل في أي وقت، لكني أعرف أن هذا كلام انفعالي، من يترك وظيفة ذات مكانة بهذا الراتب الكبير إلا لو كان شخصا متخلفا خارج إطار الزمن.
بدأت أميل أكثر ناحية رفعت لأنه الوحيد الذي كان يتحدث معي بأريحية داخل المؤسسة.
حاولنا ترتيب يوم لنخرج جميعا ونصفي مشكلاتنا، لكن مندي أفسد الخطة؛ فشعرت بالغضب وانقطعت عن العمل يومين، ودارت بيني وبين رفعت محادثات مطولة، اشتكيت له من لولة وطريقتها التي باتت لا تحتمل، ومن مندي الذي يثير مشاكل لا حصر لها. قال رفعت إن هذا الولد بالذات قذر ومتسلق وإنه حاول أكثر من مرة التقرب منه. في النهاية قال إنه سيمر علي ليأخذني في نزهة فوافقت، واعتذرت لسمسم الذي كنت قد اتفقت معه على لقاء.
أردت الذهاب إلى مكان راق وليس إلى مقهى أو على الكورنيش. أردت الشعور بكوني امرأة تستحق أن يبذل من أجلها الكثير. ارتديت فستانا جميلا، وأخذني رفعت إلى نفس المطعم، طلب عشاءً فاخرا ونبيذا، تذكرت أنني دفعت الحساب عندما أتى بي مندي إلى هنا فشعرت بالمرارة. حاول رفعت الترفيه عني بكل طريقة، ووعدني بأيام جميلة مقبلة. سألني عن زميل قديم لنا تجددت مدته الوظيفية مؤخرا. قال رفعت إنه قد يصبح رئيس المؤسسة في أي لحظة ولا بد أن نسأل عنه الأيام المقبلة، وأضاف: “يبدو إنه يبحبك”، قلت له نحن أصدقاء قدامى، وأكدت على أنه عرض عليّ الزواج لكني رفضت. تململ رفعت في مكانه بعد كلامي، لاحظت أنه لا يتحدث أبدا عن زوجته، ولم أسأله. وانتظرت أن يأخذ خطوة ما تجاهي. لكنه كان حريصا جدا واكتفى بهذا الشوق الظاهر في عينيه.
بعد انتهاء سهرتنا، أخذني في جولة طويلة في السيارة، كنا نلف فيها القاهرة شرقا وغربا. فتحنا النوافذ ليدخل هواء شديد كأنه سيطيرنا. رأينا الليل يتبدل به النهار، وحافظنا على مسافة بيننا غير مألوفة لكنها ضرورية.
5
شعرت بإرهاق كبير. تلقيت مكالمة غير متوقعة من مندي يحاول مصالحتي، هادنته وضحكنا معا.
تركت كل شيء وسافرت مع سمسم، أخذته من وسط البلد بسيارتي، وسافرنا إلى الإسكندرية حيث رتب مع صديق له وأخذ مفتاح شقته. عندما دخلنا كانت هناك زجاجات بلاستيكية فارغة كثيرة في طرقة البيت، والبيت نفسه يبدو كأنه مهجور منذ فترة. شعرت ببعض الدوار فاحتضنني وبدأ بتقبيلي، استسلمت له. ثم نمنا سويا. كان عنيفا في طريقته لكني شعرت بالسعادة معه وفهمت أن تلك فورة الشباب وأشواقه.
في اليوم التالي نزلنا لنأكل أمام البحر، أخذني لنتمشى في الشوارع، كانت السماء شاسعة وصافية ورائحة اليود تملأ أنفي. ثم لف بنا في شوارع ضيقة ودخلنا إلى مكان واطئ وإضاءته ضعيفة، اضطررنا للانحناء حتى نستطيع الدخول، كان جراجا مهجورا، يقف على بابه أشخاص عمالقة يتفحصون الدخول والخروج. حين دخلنا شممت رائحة كمكمة. رأيت أدوات رياضية مبعثرة وحلبة للقتال في المنتصف. كنت أتخيل الماتش سيكون في ناد كبير، لكن بدا أن المكان للهواة، وعلى الرغم من ذلك فقد تجمع الكثير من الناس حول الحلبة. أجلسني سمسم في كرسي في صف أمامي، وتركني وعاد مرتديا ملابس اللعب وفي يديه القفازات المنتفخة، قبل أن يصعد كان هناك اثنان آخران ضخمان في الحلبة، واحد منهما يرسم وشوما كثيرة على جسده يشبه اللاعبين الذين أراهم على شاشة التليفزيون. شعرت بوخزة في قلبي حين رأيت واحدا يقضي على الأخر فيسقط ويرتطم رأسه بالأرض وتخرج أسنان من فكه وتطير.
ثم دق جرس معلنا انتهاء المباراة وابتداء أخرى. بدأ سمسم يحرك رأسه بقوة يمينا ويسارا، يقفز قفزات صغيرة في الهواء استعدادا للمباراة. رأيت خصمه الذي كان أقصر منه لكنه بدا قويا جدا، عندما صعد هذا الرجل إلى الحلبة بدأ تصفيق عال من الجمهور في الخلف، يبدو أنه مشهور بينهم، أطلق الحكم اسم كل من سمسم والرجل الآخر، الذي بدأ بالركض للأمام وللخلف رافعا يديه للأعلى وعلى وجهه علامات الحماس الغاضب. ثم دارت بينهما وبين الحكم محادثة سريعة، شرح فيها الأخير قواعد اللعبة ثم صرخ: “أي سؤال؟”. حلت لحظة من الصمت ثم ابتعد اللاعبان كل إلى آخر الحلبة ليستعدا للالتحام والقتال، نظر إليّ سمسم سريعا وغمز بعينه واندمج في اللعبة، بدا مهاجما منذ اللحظة الأولى، يوجه لكمات سريعة لخصمه الذي يتفاداها بخفض رأسه للأسفل، لكنه وهو يهبط يوجه ضربات قوية لبطن سمسم، الذي احتضنه بكلتا يديه ليبعده عنه. بدآ يبتعدان عن بعضهما بعضا، يراوغان حول جسديهما، يقفزان قفزات سريعة في الهواء لاقتناص نقطة ضعف في جسد أحدهما، لأول مرة ألاحظ أن هذه الرياضة العنيفة بها فكرة ما، الاهتمام بجسد الآخر لسحقه في لحظة تالية، تشغيل الحواس لأقصاها لصيد لحظة خوف أو هنّة ما تجلب معها الفوز لطرف والخسارة للآخر. بدا أن الخصم يعتمد على ضربات في البطن، يقترب لأقصى درجة ويهبط فيسدد ضربته، يمسك سمسم رأسه بين قبضتيه، يا الله كيف يمتزج العنف بكل هذا الحنان، أن تمسك رأس أحدهم بين يديك ترعاها حتى لا تتفتت ولا تنفلت، كانت الجماهير غاضبة وتريد المزيد، ابتعد الخصم دائرا حول سمسم، الذي كان متحمسا فنظر إلي لوهلة جعلت خصمه يسدد له ضربات متتالية على وجهه، 1،2،3، أوووف ثلاثة صفعات على الوجه كأنها إهانة أبدية لن أنساها، لكن سمسم يكمل بلا أدنى حس من تلك المشاعر، الكرامة أو الخصومة، إنه يريد رد الضربة لا أكثر حتى يربح وبعد أن تنتهي المباراة قد يصبحان صديقين. اكتسب الخصم ثقة أكبر بعد هذه الصفعات وبدأ باللكم المستمر إلى سمسم الذي بدا مشتتا أو غير مسيطر على المباراة، جاءت النهاية بلكمة قوية أسقطته أرضا أمامي. نزف أنفه، أعلن الحكم فوز الخصم.
بعد انتهاء المباراة، انتظرته كثيرا وهو في الداخل، ثم خرج مرتديا كل ملابسه وعلى وجهه علامات الانتفاخ من الضرب واللكم. حاول الابتسام على مضض، لف يده القوية حول كتفي، ثم ونحن خارجان من المكان طلب نقودا من رجل لحقه على الباب ليؤكد على موعد المباراة القادمة.
مشينا وكلٌ منا يشعر بالضيق، وضع ذراعه حول رقبتي بشدة أكثر من اللازم كأنه يعاركني لا يحتويني. وددت لو تركته في هذه اللحظة ولم أعرف كيف، كان مهزوزا جدا وطلب أن نذهب إلى بار شعبي في الإسكندرية، قلت له إن الأفضل الذهاب إلى البحر لنأكل لكنه لم يرد. أخذني مضطرة إلى البار وطلب بيرة، بدأ يشربها وهو متوتر وطلب مني مشاركته الزجاجة لكني رفضت. حاول تقبيلي أمام الناس فابتعدت متضايقة. لم يهمه ضيقي، مال على أذني وقال: “عاوز أنيـ…. دلوقت”. صدمتني فجاجته وشعرت بالحنق الشديد، فابتعدت عنه. شرب ما تبقى من زجاجة البيرة بسرعة ثم شد حقيبتي وأخذ منها نقودا ليدفع الحساب، مع هذا التصرف أصبحت مشلولة بالكامل.
خرجت مسرعة أمامه، لكن معه الحقيبة ومفاتيح سيارتي وكل شيء. لحقني، أوقف تاكسي وطلب منه الوصول لنقطة السيارة. فكرت أنه قد يكون شعر بخطأه وسيتركني أرحل عنه، لكننا عندما وصلنا للسيارة، فتح بابها وقال: “أنا اللي هسوق”. أخذني في السيارة وبدأ يسوق إلى آخر الإسكندرية، ثم خرجنا منها إلى طريق القاهرة، فشعرت بالراحة الشديدة، لكنه في منتصف الطريق انعطف إلى الصحراء. اقترب مني، خفت من نظرته في هذه اللحظة، كأنه كان وحشا، واستسلمت له لأنه قد يفتك بي، عبث بجسدي، خلع ملابسي التحتية وبدأ يهتز بعنف بسرعة بداخلي حتى سقط، بعدها بكى بكاء حارا، انتحب، لم أقدر على توقيفه، طبطبت على رأسه، وأمرته بحسم أن ينتقل للكرسي الآخر فأطاعني. “أنا اللي هسوق”. عدلنا ملابسنا، وخرجنا من السيارة، عندما عدت لمكاني أغلقت السيارة من الداخل، تركته في الصحراء وقُدت بأقصى سرعة إلى بيتي.
غرقت في الزمن. أغلقت هواتفي، ولم يعرف أحد أمر عودتي، استلزم الأمر مني ثلاثة أيام كاملة حتى استعدت اتزاني. عندما عدت إلى العمل في الوحدة كانت لولة قد اختفت ولا أحد يعرف عنها شيئا. حاولت الاتصال بها لكن هاتفها كان خارج الخدمة. أكمل هذا الحدث الدراما العجيبة لحياتي هذه الأيام. أخذ منا هذا الاختفاء حوارات مطولة قربتني من مندي مرة أخرى، لكنه قرب ملوث بحذر أكثر، كنت أشعر أن له يدا فيما حدث، سألني أكثر من مرة عما قالته لي آخر مرة، نقلت له أنها أخبرتني باحتقارها له لأنه تافه، قلتها بأقصى لهجة عندي.
شعرنا جميعا بإهانة هذا الاختفاء، لكنها سرعان ما ذابت في جو الوحدة وصراعاتها. ظل مكتب لولة خاويا لمدة حتى بدأنا بركن الكتب والأوراق فوقه لسد الفجوة التي حدثت، ثم نسينا أنه مكتبها. بعد وقت عاد كل شيء لوتيرته الاعتيادية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صدرت مؤخرًا عن الكتب خان 2024