أحمد عبد المنعم رمضان
استيقظت ظهرًا ووجدت قنبلة إلى جوارى على السرير. كنت قد نمت عند الفجر بعد ساعات من مشاهدة القنوات الإخبارية دون توقف، أتنقل بين القنوات التى تبث الحرب على الهواء مباشرة وتحللها، تقتحم الكاميرات كل المخابئ والخنادق، تتسلل إلى الضواحى والحارات وتحت الأنقاض، تصل إلى الدبابات وإلى وجوه القتلى، تنفذ داخل أجسادهم، تفتش فى ملابسهم وأجسامهم وأرواحهم، تقتحم قلوبهم، تنتزع المشهد تلو الآخر، انفجار، دماء، قتل، قصف، هاهو يوم القيامة تجرى أحداثه أمامنا مباشرة، فكيف ينكرونه إذن؟ يقطع المذيع المشاهد ليعلق عليها، وأنا أجلس أمام الشاشة طوال الليل وأتابع مرتبكًا، مشدودًا ومتوترًا وقلقًا، تمتزج المشاعر داخلى فى خليط مزعج، حتى يغلبنى النوم بينما يغلب الموت أحدهم على الشاشة، أغوص فى سريري وهو يغوص فى دمائه، يرتاح كلانا.
مع الصباح أتصور أن المأساة انتهت، أن الأمر ما كان إلا كابوسًا مقيتًا ولابد أنه انقشع، أتثاءب وأمد ذراعيّ بجوارى فيصطدم أحدهما بقنبلة على السرير، قنبلة حقيقية، كالتى أشاهدها فى الأفلام الأمريكية، قنبلة أمريكية مثل كل الأسلحة وكل القتل، صندوق أسود بأنوار حمراء متناثرة وعدادات وأرقام وعد تنازلى وأصوات تكات تنذر باقتراب الانفجار، أنظر إليها ولا أفهم، أتسمر فى مكانى، لا أجري أو أفر كما يفترض بإنسان طبيعى، فقط أتأملها وأنا أفكر من أين أتت هذه القنبلة؟؟
لايزال التليفزيون يعرض المشاهد ذاتها، المذيع يتكلم بالحماسة نفسها، لا يبدو عليه الملل أو النعاس، لا يتثاءب، الألم يطغى على المشاهد التى تعرض حتى صارت الصورة مضببة وغير مرئية، تشعر بها فقط، تلمسك ولكنك لا تراها، ثم تقتحم الضباب دبابة فتدهس قلبي، أجساد هامدة، أعضاء متناثرة، مجازر ودماء فى كل بقعة، لا مكان للدموع ولا وقت لها، لا أحد يبكى هنا أو الآن، السائل الوحيد المسموح بوجوده هو الدم، والصوت الوحيد المتداول هو الصراخ، لا كلمات، لا معانٍ، لاشئ، ثم تنتقل الشاشات إلى عدد من الرجال ببدلات كاملة ووجوه لامعة وشعور مصففة ومصبوغة بعناية، بلا أرواح، موتى فى ملابس رسمية، يتكلمون بلغات عدة، يقولون كلاما مختلفا ومتناقضا، ولكنهم، كلهم، يبدون بخلقة واحدة، منفرة، مقززة، البعض يندد، والآخرون يؤيدون، وأحدهم يعبر عن آسفه، من يهتم بأسف هذا الشخص ذى الوجه الشمعى البارد؟ أدقق النظر فأجد وجوههم تخلو من الحياة أكثر من الوجوة المكفنة التى رأيتها قبل لحظات.
تكات القنبلة لم تتوقف، بل باتت أعلى، تقاربت من بعضها البعض، من الذى وضع القنبلة إلى جواري؟ هل هو ذلك الرجل ذو الوجه الشمعى البارد؟ لست وحدى إذن، لابد أنه وضع قنبلة فوق كل سرير ببلدتنا، أتذكر قصيدة صلاح عبد الصبور
(هل عاد ذو الوجه الكئيب؟
ذو النظرة البكماء والأنفِ المقوّس والندوب
هل عاد ذو الظفر الخضيب
ذو المشيةِ التياهةِ الخيلاء تنقُرُ في الدروب
لحناً من الإذلالِ والكذِبِ المرقّشِ والنعيب).
تسمر المراسل الذى يظهر على الشاشة الآن بملابس الصحافة الزرقاء المميزة، على كل لا يحترم العدو هذه الملابس أو غيرها، لا يحترم شيئا إلا العنف وآلات القتل، توقف الرجل عن الكلام وتسمر، فساد الصمت على الشاشة وفى حجرتى وانتشر فى أنحاء العالم، لا لم يمت، بل دبت فى روحه الحياة، وللحياة دبيب عالٍ لا تخطئه الأذن، افلتت دمعة من عينه خلافا لبروتوكلات المكان، لابد أنه تذكر عائلته التى فقدها فى الحرب، الحزن يخالط ملامحه على الدوام، والآن يكاد يمحوها ويحل محلها، لكن الرجل لا يتوقف عن التواجد فى الأماكن التى ينشط فيها الموت، وكأنه يطلبه، يتوسل إليه أن ينهى آلامه وعذاباته، يقترب منه ويلقي بجسده فى أحضانه لعله يستريح.
أنظر إلى القنبلة بجوارى وأتخيل أن كل رجل فى بلادنا، كل إنسان فى أمتنا، وربما فى العالم أجمع، قد استيقظ الآن ووجد إلى جواره مثل هذه القنبلة، لا مفر منها إذن، ستطال انفجاراتها الجميع، من هرب وجرى ومن تكاسل واستسلم، لن يفلت منها أحد. أتذكر تلك الهدنة التى كانت منذ أيام، هدنة؟؟ ما أسخفها من كلمة، وكأنها إجازة لعزرائيل، يلتقط فيها أنفاسه بعدما أُثقل عاتقه بالعمل، ثم يعود ويمارسه بكثافة أكبر، هدنة أم استراحة بين شوطين؟ تُبتذل حياة البشر وأحلامهم ويستهان بها حتى يصبح الأمر أشبه بمباراة طويلة لكرة القدم، بدأ الجمهور فى الانصراف عنها لتكرار حوادثها، أرفع عينى نحو الشاشة مرة أخرى، جثث، قنص، انفجار، اقتحام، جثث، كلاب تنبح، أرواح تتزاحم فى طريقها نحو السماء، جثث، تجمع من البشر المتجهمين، عيون شاردة، وجوه، بدلات رسمية، كلام أجوف، دماء، جثث… أشرد، أمسك بالقنبلة المجاورة، أنظر إلى الأرقام على شاشتها، ستين، تسعة وخمسين، ثمانية وخمسين، أفرد جسدى على السرير، أغلق التليفزيون فيسود الصمت، أطبق جفونى، أنصت إلى صوت التكات المتسارعة، وأستريح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة لــ Madison Sherman