كلّنا نكتب لنفهم، إلا في حالات الخوف، نكتب لنعيش.
وهذا الكتاب لم يُكتب ليعلّمك كيف تنجو من القلق، بل كُتب لأن القلق ذاته كان ينهش الكاتب من الداخل، ولم يكن أمامه إلا أن يُمسكه بالقلم لا بالدواء.
يبدأ علاء أحمد كتابه قلق مستعمل كما تبدأ الهزّات النفسية العميقة باعتراف لا يحتمي بالبلاغة، بل يتعرّى تمامًا أمامك
“تلك المخلفات التي شاركتني نصف عقلي، واستباحت الكثير من أيامي، واستنفرت جلّ جهدي، فلم أجد بدًّا إلا أن أشهر في وجهها قلمي.”
ولا يسير بك خطوة واحدة قبل أن يعترف لك بأنه لا يعيش مثل الآخرين، لا يخرج من البيت بسهولة، ولا يمرّ باللحظات مرورًا عاديًا.
بل كلّ لقاء، كلّ نظرة، كلّ كلمة، تُقرأ عنده كأنها تهديد محتمل، كأن الحياة تُعاش في وضعية الاستعداد للحرب، لا في طمأنينة البشر
“أعيش كمن يسير على حافة السكين أراقب خطواتي بعناية، لا أريد أن أُخطئ، لأن كل خطأ يحمل في طياته عقابًا مؤجلاً.”
لغة الكتاب هنا ليست فصاحة متكلّفة، وليست تقنيات سردية مدروسة.
بل اللغة كما ينبغي أن تكون حين يُصاب الإنسان بنوبة هلع مختصرة، مباشرة، حقيقية، أشبه بصوت داخلي يهتف ولا يُرتّب نفسه.
هذا ما يُميّز الكتاب لا تُشبه طبيبًا ولا حكيمًا، بل تُشبه رفيقًا جلس جوارك في ليلٍ طويل وقال لك:
“أنا أعرف هذا. أعرفه جيدًا.”ويربت على كتفك ليزيل عنك الخوف والهلع ولذلك، تفقد الصفحة حدودها، وتتحول إلى مرآة. لا تقرأ فيه الكاتب، بل ترى نفسك.
في وصف القلق، يبتعد علاء عن المسميات الطبية، ليخبرك بما يشعر به فعليًا وكيف يتحول القلق من فكرة إلى حالة جسدية، قائمة، واقعية، محسوسة.
حين لا تعود أفكارك مجرد وساوس، بل يتحول كل شيء إلى إشارة، وكل نبضٍ إلى إنذار
“هذا القلق، لا يأتي بجديد. نحن فقط ننسى. لا يُبدع في إخافتنا، بقدر ما نُجيد نحن أن نُخيف أنفسنا به من جديد.
ثمّ يحدث ما هو أخطر يستولي على الجسد، لا العقل وحده يتحول إلى نبضٍ مضطرب، وضيقٍ في التنفس، وألمٍ مُبهم في الصدر، ووهنٍ في الأطراف لا يعلله الطب.”
واحدة من أجمل مقاطع الكتاب، وأكثرها خطورة، حين يصف القلق وقدرته على تشويه الإدراك فيقول :
“نصبح لا نخاف القلق بل نخاف غيابه.
نقلق من الهدوء.نشعر أن هناك شيئًا ما ناقصًا حين لا يطرق بابنا كأنّ السكينة صارت خللًا، والقلق هو الحالة الأصلية.”
في هذه اللحظة، لا تكون أمام فكرة نفسية فقط، بل أمام كشف وجودي أن الإنسان قد يُدمن ألمه، لا لأنه يحبّه، بل لأنه صار يعرف نفسه فقط من خلاله.
هنا يكشف علاء عن قاع أكثر عمقًا أن القلق لا يغيب، بل يغيّر شكله. لا يهزم، بل يتنكر. لا يُرحَل منه، بل يُعاد تدويره داخلك.
ولا يتوقّف عند ذاته، بل يمدّ الخط إلى تاريخ الإنسان كله، حين يجعل من القلق مسيرة حضارية من أول سؤال عن “ماذا بعد الموت؟”
إلى أزمات الاقتصاد المعاصر.
“في الحضارات القديمة، تساءل الإنسان عن مصيره بعد الموت.في العصور الوسطى، ارتبط القلق بالخطيئة
أما في عصرنا، فقد صار قلقًا لا نهاية له قلقًا اقتصاديًّا، قلقًا من الفشل، قلقًا من الآخر ومن الذات، قلقًا لا نهاية له.”
بهذا الانتقال، يُخرجك الكاتب من ضيق التجربة الفردية إلى اتساع السؤال الإنساني.فأنت لا تخاف لأنك ضعيف بل لأنك مجرد إنسان.
ثم تأتي لحظات الكتاب الروحية، لا بوصفها نهاية الطريق، بل كاستراحة، كيدٍ تمتدّ من غيبٍ لا نراه
فيُذكّرك أن الإيمان ليس دائمًا مناقضًا للقلق، بل في أحيان كثيرة هو وسيلته الوحيدة للثبات.
“قال: (أَوَلَمْ تُؤْمِن؟ قَالَ بَلَى وَلَكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)
كثيرًا ما يُنظر إلى القلق وكأنه ضعف في الإيمان، لكن الآية تؤكد أن الإنسان قد يكون مؤمنًا، لكنه لا يزال بحاجة إلى دليل محسوس، لتقوية القلب، لتثبيت اليقين.”
“قلق مستعمل” لا يخدعك بإجابات، ولا يمنحك نهاية سعيدة، بل يهمس لك بأهم ما في الأمر أن تكون رحيمًا بنفسك، ألا تُحاكمها كل يوم، وألا تحمّلها ما لا تحتمل.
“القلق يجعلك تهتم بكل شئ إلا نفسك.
تحسب الاحتمالات، تخشى الزلّات، وتنسى أن تمسح على رأسها بدلًا من تأنيبها.أن تحتضنها، بدلًا من دفعها نحو الهاوية مرارًا وتكرارًا.”
«قلق مستعمل» ليس كتابًا تقرؤه ثم تغلقه.
بل كتاب بصوتٍ شبيه بصوتك، لا تفعل ذلك لأنك شفيت، بل لأنك ارتحت قليلًا.
كأنك كنت تمشي في ليلٍ طويل وحدك، ثم لمحْت على الرصيف الآخر شخصًا يسير بالخطى نفسها، يحمل الخوف ذاته، ويعرف اسم الوحش الذي ينهشك في الداخل.
هذا الكتاب لا يعِدك بالنجاة، لكنه يمنحك يدًا تُمسك بك في منتصف التيه، ويقول لك دون ضجيج مررنا من هنا يا صديقي مررنا وما زلنا واقفين.
تغلقه، لكنك لا تتركه. لأن شيئًا منه بقي داخل روحك
وترك شيئًا داخلك أكثر اتساعًا، وأكثر رحمة.
أن لا أحد ينجو تمامًا.
وأن القلق، حين يُكتب بهذه الطريقة، يتحوّل من لعنة إلى رفيق. من صوت خافت يرتجف إلى اعترافٍ علني بأننا بشر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صدر مؤخرًا عن دار المحرر